نادية لطفي... العصامية الشقراء (6 - 20)

 «انتحار صديقتي أصابني بالرعب»

نشر في 01-06-2017
آخر تحديث 01-06-2017 | 00:03
لم تكن «لعبة الغجر» التى اخترعتها «بولا» الصغيرة مجرد لعبة تمارسها طفلة مبهورة بالملابس زاهية الألوان، أو بمشهد طوابير الماعز التي تمشي بانتظام خلف الحمار الذي تمتطيه الغجرية. ولكنها كانت الاكتشاف الأول لقدرتها على «التشخيص»، ومن دون أن تدري أو تعي ذلك...
عن بولا الإنسانة ونادية الفنانة، نواصل التنقيب في «الأوراق المبعثرة».
تعلّقت الطفلة «بولا» التي كانت تعيش مع والديها في بيت واسع بالقرب من العباسية أكثر بصورة الغجرية المتمردة، التي تحمل «قفة» من الخوص على رأسها، تسير في أحيان كثيرة بلا ماعز ولا حمير ولا مواكب، وتنادي بصوت مميز: «أبين زين للناس الزين... وأضرب الودع للحلوة والجدع».

ذات نهار سألت «بولا» أمها عن معاني هذه الكلمات التي لا تفهمها، فقالت لها إنها مجرد كلمات للتسوّل: «ست نصابة بتضحك على الناس الجاهلة وتفهمهم إنها بتعرف البخت والطالع». لكن الإجابة لم ترو ظمأ الأسئلة في عقل الطفلة وروحها، وظلت تسأل نفسها: يعني إيه بخت؟ يعني إيه طالع؟ وإن كان الناس فقراء فلماذا يضحون ويدفعون من فلوسهم وطعامهم علشان يسمعوا كلمتين من ستات الغجر الغريبة دي؟

بعد انتهاء جلستي مع نادية لطفي، سيطر هذا المشهد على تفكيري، حتى موعد لقائنا التالي، في ذلك اليوم، كانت ترتدي بلوزة مُشرقة، بدرجة خاصة جداً من درجات البرتقالي، وسروالاً أسود، وتجلس في غرفة المعيشة التي تلتقي عندها طرقات الشقة كافة، وقد غيرت الإطار الجانبي الذي يحتوي على صورة قديمة لها بإطار آخر لا يحتوي على أية صور.

عندما لاحظت أنني كررت النظر ناحية الإطار الفارغ، قالت من غير أن تنتظر السؤال: أحياناً أصحى من النوم وأنا أشعر بالغضب تجاه العالم، فلا أرد على الاتصالات، وإذا حصل أرد بعنف على اللي يرميه نصيبه تحت إيدي، وأحياناً أقلب التلفزيون، بحيث يكون وجهه متجاً إلى الحائط، وغالباً ده بيحصل لما بيكون الوضع السياسي العربي زفتاً، وأكون مضطرة إلى متابعته، كما يحدث هذه الأيام من مؤامرات قذرة للتدخل في الشرق الأوسط، بحجة الحرب ضد الإرهاب.

واصلت: هذه العادة بدأت معي لما كنت أرى المشاهد البشعة لاعتداءات الصهاينة على الأطفال الفلسطينيين في انتفاضة الحجارة الأولى، ومرة رأيت مشهد تكسير عظام يد طفل، وعانيت كوابيس مفزعة، وتذكرت تحذيرات المشاهدة المرتبطة بأفلام العنف، وبدأت أنفذها بحسب قدرتي النفسية على التحمل.

ما علاقة هذا بالبرواز الأبيض، واختفاء صورتك؟

- أنا من الأساس لا أميل إلى وضع صوري في البيت باعتباري نجمة. أضع فقط الصور التي تشير إلى مواقف أو أصدقاء، أو ذكريات ومعانٍ إنسانية، وفي السنوات الأخيرة، يحصل أحياناً أن أحداً من أفراد البيت يعمل إضافة، أو مصور صحافي أو تلفزيوني، يبقى عاوز يعمل تكوين معين، فيختار صورة ويحطها في ركن، وتفضل كده فترة، لحد ما أصحى في يوم وأنا غضبانة من نفسي، فإما أقلب البرواز ناحية الجدار، أو أشيل منه الصورة، يعني بعمل تكدير لنفسي عشان أطوعها وأعلمها الأدب. والحالة دي كانت زمان متطرفة جداً وحادة، ومرة سألت الدكتور منير سليمان عنها، ونصحني بأن «ألاعبها».. يعني بلاش آخدها بجد، لأنها ممكن تعمل مشاكل كبيرة، وعشان كده لما صحيت وحسيت إن اليوم «أوف داي»... يوم غامق زي الناس ما بتقول، تجنبت البلوزات السوداء والكحلي والرمادي ولبست برتقالي، وسمعت موسيقى عالية لعمر خيرت، وصممت على عدم تأجيل الموعد، وتجنبت النظر في المرايات، أو سماع أخبار سياسية.

قصدك أخباراً سيئة؟

- وإحنا عندنا أسوأ من الأخبار السياسية؟

اندهشت من اختلاف المزاج بين هذه الجلسة، والجلسة السابقة، فسألتها:

يعني بتكوني عارفة إن الحالة دي ملهاش سبب منطقي؟

- عارفة طبعاً، لأن ده بيحصل بمجرد ما أفتح عيني... يعني أقوم من النوم كده، لا شفت حد ولا كلمت حد، ولا حد كلمني. أكيد فيه أسباب، لكن أنا معرفهاش.

أومّال مين اللي يعرفها؟

- ربنا والمكشوف عنهم الحجاب والدكتور منير.

والعرافة الغجرية ما تعرفش؟ أو النصابة زي ما قالت لك مامتك وأنت طفلة؟

- لأ... مش نصابة.

قالتها نادية بجدية، وأضافت: أنا قعدت فترة طويلة مشغولة بالحكاية دي. والدي رباني تربية منطقية، تحترم العقل والعلم، وشخصيتي فيها جوانب كثيرة صارمة، وأعتمد في كل شيء على الإرادة والتفكير والعمل، لكن فجأة تحصل مصادفات تغير كل حاجة، وكأنها تغيظني وتقول لي إن العالم غامض، وفيه حاجات كتير لا تخضع للعلم وللمنطق الصارم بتاعك. والحقيقة كنت أرتبك جداً، وبعد سنوات من الأسئلة والمعاناة، اعترفت بأن الدنيا تتضمن الاثنين، فيها اللي إحنا عارفينه، واللي إحنا مش عارفينه، فيها الإرادة والعمل، وفيها كمان الحظ والمصادفة، إلى أن أصبحت زي الدنيا... يوماً جميلاً ويوماً مراً، ومع الوقت اكتسبت شوية خبرة في التعامل مع الحالة دي لما بتحصل، لأني في البداية كنت عنيدة وبعمل كوارث. 

اكتشافات

كانت أول إشارة علنية إلى هذه الحالة في تاريخ نادية لطفي في أعقاب «نكسة 67»، حيث كانت في تلك الفترة تعاني مشكلات عائلية، وتواجه ظروفاً صعبة بمفردها، وتحالفت ضدها الهزائم العامة والخاصة، ففشل فيلم من أجمل أفلامها (عندما نحب) وهاجمها النقاد بقسوة، خصوصاً سعد الدين توفيق وسمير فريد، وتغيرت الحالة النفسية والمعنوية للمجتمع كله، وليس لنادية وحدها.

وفي ديسمبر من العام نفسه «فضفضت» بولا لمجلة «الكواكب» عن هذه الحالة الغريبة، وقالت إنها «تستمر معها ساعة في الصباح، ثم تهدأ، وللحق هي ليست من باب الدلع، وإنما شعور نفسي حقيقي». وواصلت حول تداعيات هذه الحاله أنها ذات مرة أضاعت على نفسها بطولة فيلم رائع، لأن المخرج ظلّ يناقشها وحاول الاتفاق معها في «تلك الساعة» فعاندته، ورفضت الدور رغم كونه أحد أجمل الأدوار التي عُرضت عليها».

قالت: الحقيقة أنني أعاند هذا الشعور بقدر الإمكان، لكن أحياناً أجد لذة داخلية عميقة في الاستسلام له، واكتشفت أن تناوبي بين الحالتين حفظني من مصايب كثيرة، فقد خسرت «ناساً» لم أكن أتخيل أن أعيش من غيرهم، لكن الموت خطفهم فجأة، وقال لي وريني هتعملي إيه؟ حزنت بعمق وماتت «حتة مني» لكنى لم أصل إلى درجة الانهيار التام، ولما وقعت على الأرض في عز سعادتي، وكنت عاملة حفلة كبيرة في البيت للترحيب بزيارة أحد الأصدقاء، واكتشف الأطباء أنني أعاني ورماً في الدماغ، حصل رعب لكل الناس حولي، لكن فجأة نزلت عليّ سكينة عجيبة، واستسلمت لمصيري بنعومة مدهشة، ونمت مكاني على الكنبة كأني في أسعد حالاتي...

هل تعتقدين أن لهذه الصفات جذوراً من الطفولة؟

- أكيد. مرة الكاتب الكبير أحمد عباس صالح، وكان صديقي ومن الضيوف الدائمين في الصالون الثقافي الذي أقيمه بانتظام في شاليه الهرم، نسي عندي حقيبة أوراق، فاتصلت به في اليوم التالي، وقلت له: أنت نسيت شنطتك.

فقال: الكتب بتنادي أصحابها... دي فيها ثلاثة كتب، وأظن أنها تركتني متعمدة واختارت صاحبتها، اعتبريها هدية.

بعدها حصلت حاجة غريبة، أعجبت بكتابين، قرأتهما في وقت قصير، وتركت الثالث أشهراً عدة، لأنه كان بعيداً تماماً عن اهتمامي، وكمان شكله كان مش مشجع. وفي يوم كنت أشعر بالملل، ووقع في إيدي الكتاب ده، وقلت أتصفحه، وصفحة في صفحة جذبني أسلوبه، ولم أتركه إلا بعد الانتهاء منه، ومرت سنوات وظل الكتاب ده محفوراً في دماغي، وأعود إلى تصفحه من وقت للتاني، بينما نسيت الكتابين الأوليين تماماً، وحاولت أن أجهد ذهني وأفكر في عناوينهما أو موضوعهما، وكأنهما تبخرا من دماغي... أمر عجيب كأنه تعويذة، وكل فترة أجلس مع نفسي أفكر فيها.

وماذا كان موضوع الكتاب. رواية؟

- لا. كان كتاباً عن الأطفال، لكن أسلوبه مختلف، أنا فاكراه كويس طبعاً، لكاتب روسي مشهور جدا اسمه «سيرغي ميخالكوف»، وأفتكر إنه مؤلف النشيد الوطني في بلاده، وله مكانة كبيرة جداً، وده بيعكس اهتمام الدول المتقدمة بالأطفال، يعني الكتابة للأطفال أو عن الأطفال مش حاجة قليلة القيمة، واللي جذبني إلى الكتاب إنه كان بيفصص حكاية «البذور والجذور» اللي بدأنا بها حديثنا أول مرة. كنت سمعت قبلها عبارة جميلة من كامل بيه (تقصد كامل الشناوي) وهي: «الطفل أبو الرجل»، ولم أتوقف عندها. لكن برضه ترسبت جوايا وفضلت فاكراها. يمكن غرابة التعبير ساعدتني أحفظه، ولما قرأت الكتاب ده، حسيت إني كنت حمارة، لأني فهمت الكلام الكتير الكامن في العبارة القصيرة دي، فالكاتب بيقول إن كل حاجة في تصرفاتنا وردود فعلنا وصفاتنا وإحنا كبار، لها أساس في طفولتنا، والكتاب كان عنوانه كده: «كل شيء يبدأ من الطفولة»... الطفولة فيها البذور، وبعد كده البيئة وظروف التربية والرعاية تتدخل وتؤثر في نمو هذه البذرة واتجاهها، ممكن تساعدها وممكن تقتلها. عشان كده كل تفصيل في فترة الطفولة مهم جداً في فهم تصرفات الإنسان لما يكبر، ما فيش تصرف نقدر نقول عليه تافهاً أو ما لوش لزمة في حياة الأطفال، كل حاجة مهمة، ومهمة جداً، لأنها تعيش مع الطفل إلى الأبد، وتؤثر في تصرفاته حتى لو أصبح أستاذاً جامعياً أو رئيس دولة.  

الجذور

 

هل يمكن لحادثة صغيرة أن تتسبب في ميلاد هذا الإحساس العنيف بالقلق، وأن تكون سبباً في «انقباض المزاج» بهذا الشكل، رغم نضج الشخص واكتسابه الثقافة والتفكير العلمي؟ هل يفيد تتبع «الجذور أو البذور» لتفهم ما يعتمل في داخلنا.

أسئلة ظلّت تدور في ذهني وقبل أن أبدأ في طرحها على نجمتنا بادرتني قائلة:

أي حوادث صغيرة بتكون زي البذرة، مع الزمن تتحوّل إلى شجرة عملاقة، وممكن تتحول إلى غابة كبيرة أيضاً بحسب الظروف، وأحياناً أتصور أن ده اللي حصل معايا.

هل حاولت التعرف إلى جذور هذه الحالة في طفولتك؟

- بمعنى؟!

بمعنى... هل فكرت في تتبع بذور وجذور الخوف أو القلق في طفولتك... مثلاً هل تذكرين أقدم ذكرى من أعماق الطفولة تخص هذه الحالة؟

- أبعد ذكرى مخيفة ومفزعة، كانت حاجة بسيطة خالص، كنت طفلة صغيرة جداً، يمكن يا دوب بمشي وبتكلم، وكنت بحب شراب الفراولة أو التوت مش فاكرة بالظبط، ومرة شفت العصير فوق بوفيه جدتي، اتشعبطت ووصلت إلى الزجاجة وفتحتها وشربت، حسيت بنار لسعتني، صرخت من الصدمة، طبعاً جدتي ركضت مفزوعة، أنا ما كنتش خايفة ولا فاهمة حاجة. لكن شفت شكل الخوف والفزع مرسوم على وجه جدتي، لأن العصير لما خلص، جدتي ملأت الزجاجة بالسبرتو (الكحول الأحمر) لأنها تستخدمه في «السبرتاية» لصناعة قهوتها، وكانت خايفة إني أموت. لكن المشكلة كانت بسيطة، لأني ما شربتش القزازة كلها، وطبعاً الموقف تحوّل إلى دعابة ومزاح في البيت. لكن مشهد الهلع على وجه جدتي كان بيكبر في داخلي، ويحفر نفسه على ذاكرتي مع الزمن، ولما قرأت كتاب ميخالكوف، وجدته يقول حاجة بديعة جداً، مرتبطة عندي بحكاية «السبرتو».

هوه عرف «حكاية السبرتو» منين؟!

- لم تتوقف نادية عند الدعابة، وأكملت: الطفل بيشوف الحاجات كلها غير الكبار، الليل والنهار والإحساس بالزمن مختلفة عنده، وحتى أحلامه تكون مختلفة، ويحاول أن يستخدمها في حياته. يعني مثلاً، كنت أرى أن حديقة بيتنا كأنها غابة كبيرة، وسقف الغرفة عالياً جداً، وأتصور أن باستطاعتي أن أطير. فيه حالة تضخيم لكل حاجة، أي كلمة غضب أو زعيق، بسمعها كأنها بركان، والحاجات الصغيرة بشوفها كبيرة، واكتشفت من خلال الكتاب إن دي سمات طفولية مش عندي لوحدي.

لحظة صمت مرت علينا كالدهر قبل أن أستجمع ما في داخلي وأسألها:

هل تخافين من الموت؟

- لا إطلاقاً، المسألة مش كده، فقط تصوّرت لفترة أن معرفتي بالموت بدأت متأخرة بعدما كبرت وعرفت الدنيا، وأن الفجيعة الخطيرة اللي زلزلت تفكيري وهزتني، كانت مفاجأة انتحار صاحبتي عنايات الزيات، وكنت أستغرق وقتاً طويلاً في تأمل الحياة والموت، والتفكير في مصير الإنسان، وعلى مدى فترة طويلة حاولت الرجوع بذاكرتي لأقدم علاقة حقيقية لي مع الموت، ووجدت أنني سمعت عنها، واتعرَّفت إليها من بعيد، ككلمة شائعة. لكن الحقيقة أنني لم أكن أشعر به داخلي، حتى كان ذلك اليوم الذي التقيت فيه الموت وجهاً لوجه.

إخفاق

رغم أن فيلم «عندما نحب» أحد أجمل أفلام بولا، فإنه ظلم كثيراُ سواء بسبب طرحه قبل أيام من هزيمة يونيو عام 1967، أو لأن هجوماً واسعاً طاول كثيراً من تفاصيل الفيلم تتعلق بطبيعة لعبة السباحة التي يمارسها بطل الفيلم الفنان رشدي أباظة، والتي تتناقض تماماً مع السباقات التي يخوضها أبطال السباحة في الواقع.

«عندما نحب» أخرجه فطين عبد الوهاب عن قصة للصحافي محمد التابعي، كتب لها السيناريو والحوار حسين حلمي المهندس، وشارك في بطولته كل من المبدع الراحل محمود المليجي والفنانة سهير الباروني ويوسف فخر الدين، وبمشاركة عبد الباقي حسين أحد أشهر مدربي السباحة في مصر في الخمسينيات والستينيات.

ويعد هذا الفيلم لوناً مختلفاً عن الأفلام التي اشتهر فطين عبد الوهاب بتقديمها مثل «مراتي مدير عام، وأضواء المدينة، وعفريت مراتي، وأرض النفاق» وغيرها من أفلام تعتمد على كوميديا الموقف، ولا تزال محفورة في ذاكرة الجماهير ووجدانها حتى الآن.

أما بولا بطلة الفيلم فعُرضت لها في العام نفسه 1967 أفلام «السمان والخريف»، «غراميات مجنون»، «الليالي الطويلة»، «جريمة في الحي الهادئ» و«قصر الشوق».

نواصل كشف الأسرار في الحلقات المقبلة.

في شخصيتي جوانب كثيرة صارمة

أعتمد على الإرادة والتفكير والعمل

لا أخاف الموت ولكني التقيته وجهاً لوجه
back to top