باسمة بطولي في «على مقام الصِّبا... والصَّبا» العارفة من أين تؤكَل كتفُ الحُبّ شِعراً

نشر في 06-03-2017
آخر تحديث 06-03-2017 | 00:00
No Image Caption
ليس صحيحاً أنّ الحداثة الشعريّة مرتبطة بحداثة الزمن، وليس صحيحاً أنّ القصيدة العموديّة يضيق صدرها بالحداثة. وعليه، إنّ الحداثة هي في قدرة النصّ الشعريّ على اجتياز زمنه، فيفيض على الأزمنة الآتية بما فيه من جمال قادر على احتواء الحياة، أو قادر على إغراء الحياة باحتوائه.
في جديدها الشعريّ «على مقام الصِّبا... والصَّبا»، تواصل الشاعرة باسمة بطولي سيّدة القافية الأولى، متوجّهة إلى قارئها في مستهلّ الإبحار، معطية إيّاه ما للماء من قدرة على إعادة فضّة الحياة إلى مرايا العطش: «أرض عطشى أنا، ولا يرويني كلّ ولوع العالم... لديك قدرة الينابيع... وكأنّي أقرأ أحلام الأبد على شفتيك. كن في السكوت، هات حواسّك بل خلاياك كلّها... شعري سيتْلَى عليك».
تحترف الشاعرة باسمة بطولي في «على مقام الصِّبا... والصَّبا» الحبّ شعراً، وتمدّ يدها إلى أعماق قلبها لتقطف الخفقة العاشقة، فهي ترتقي إلى أن تكون سؤالاً هائماً في خيال الوجود، وليس لهذا السؤال سوى ظلّ الحبّ: «في خيال الوجود كنتُ سؤالا/ يشبه الحبّ حين يفنى ابتهالا»، وإذا ما تمادى العمر والثلج في المفرق، فإنّ المشيب لا يدرك القلوب التي طالما ازدادت احمراراً وخفقانا، ما يعني أن ليست الدروب للارتحال وحده، بما أنّ الشمس تَفرَغ من ذاتها مساءً وترتدي يقظة ذهبها عند الصباح: «لا تَرَوني إلى مغيبٍ... فوقْعُ الخطو/ في الدرب ليس يعني ارتحالا/ كلُّ شمسٍ إنْ تبدُ في الليل نقصاً/ رجعَت في وجه الصّباح اكتمالا».

وبطولي تشهر حبّها لرَجُلها، وتبادر قولاً بكلّ ما فيها من امرأة، وتعرف أنّ اللغة لا تلبّي القلوب كما يجب: «قَوْلي أحبُّكَ سوف يبقى عاجزاً / مهما على مرِّ الزّمان تردّدا»، وأمام هذه الحقيقة المؤلمة تحاول الشاعرة مساعدة اللغة بكثير من الخشوع الذي تفيض به أضلعها: «أشْرَكْتُ في بَوحي تخشُّعَ أضلعي/ حتى تراءى لي خيالك معبدا»، وأمام عجز الجسد أيضاً عن البوح بالحبّ الكامل، تنبت لفكرة بطولي شفتان تساهمان في صناعة الحبّ: «خِلتُ العبادة قبلة... إذ بي أرى/ فكري لديك مقبِّلا متعبِّدا».

رجل يمتطي ألم السّراب

في قصيدة «ملاعب الظّنون»، ترجو بطولي رجلاً لا يأتي، رجلاً يمتطي ألم السّراب، فهي تجد في العطش لذّة لا تقلّ عن لذّة الارتواء: «رجوتُك إبقَ بأفقي سرابا/ إليك التعطّش كالريِّ طابا»، وفي ظلال السّراب العاشق يغدو للبعد نشوة القرب، وتنمو في الشهيّة سعادة الاقتراب: «كأنّي أحبّك عنّي ابتعاداً/ كأنّي لكي أشتهيك اقترابا»... ولمزيد من اجتراح الشوق، تستقيل الشاعرة من فردوس الوضوح، وتصطاد فراشات حنينها بشبكة الضّباب، كأنّ في الوصول نهاية، وكأنّ للفجر عطر الغياب: «أبعض الوضوح مريبٌ؟ فندعو/ الضباب لنزداد فيه ارتيابا؟/ ونبقى على أمل الضوء نرجو/ كمن ليس يرجو لفجرٍ إيابا».

وفي قصيدة «رجل مؤجّل» تستحضر بطولي الجسد، حين تدعو إليها حبيباً، وتعلن له: «يرافقك الموكب الأنجميّ/ يرصّع عُريي لعرسي ثيابا»، كما تُعلمه أنه مروِّض الوقت الذي يسترجع تفّاح الشباب من سلال الأمس، ويعوِّض برحابة عينيه ما في يديه من ضيق: «كأنّي به روّض الوقت حتى/ أعاد قديم الزمان شبابا/ لئن ألقَ بين ذراعيه ضيقا/ ففي مقلتيه ضممتُ الرّحابا»... وترفع بطولي نظر قلبها إلى السماء، فهي المرأة الشرقيّة التي تحبّ تحت قنطرة السّماء. تحبّ رجلاً بالصدق نفسه الذي ترشحه حين تحبّ الله الذي تخاطبه بإيمان وحبّ كبيرين: «لكما أرِدني ربِّ أبقى عاشقة/ لك أو له ما كنتُ إلاّ صادقة»، ولا ترى الشاعرة أنّ الله قد يرميها بالإشراك، لأنّها ترتقي بالحبّ إلى منزلة الإيمان وترى الله في حبيبها وحبيبها في الله: «وأراكَ فيه... أراهُ فيكَ... وما أنا/ في الحبّ مُشرِكة ولست بمارقة». ومن غير الله والحبّ سيملأ زمن بطولي العاشق؟ ومن غيرهما سيبارك غرقها ويستردّها من أسر الماء: «أسِواكما مَن سوف يملأ أبحري؟/ لأعوم فيها بينما أنا غارقة؟».

على امتداد صفحات ديوانها لم تتعب بطولي من وشم قوافيها بعطر الحبّ، وإذا كان الحبّ موضوعاً واحداً فهو متعدّد في «على مقام الصِّبا... والصَّبا»، وله في كلّ مناخ طعم مختلف وليس من قاسم مشترك بين قصائد بطولي غير النّزق العاطفيّ الذي يعصف في صدور المفردات.

الحب داء

تصر الشاعرة على اعتناق الحبّ ولو داءً، لأنّه داء على لذّة قد لا تضاهيها لذّة الشفاء، فهي تتلمّس الخلاص من الألم بالألم نفسه: «لذّة الداء أنتَ يا كلّ دائي/ كيف خلّيتني أراه شفائي؟!»، وترصد الرّبيع جارياً في عروق الشتاء، وترقب الورد منسوجاً على نول البرق والرّعد: «لست أحيا ولا أموت... ربيعاً/ مستمرّاً مدى عروق الشتاء». وتمضي بحبيبها إلى شرفات مطلّة على حدائق النبوءات، ليغدو جوهرة الرؤيا، لا يُرى لها لمعان إلاّ بعيون مغمضة على إبحار وتأمّل: «ماسة للرّؤى فريدة اللّمْع/ كلّما أُسْدِلَت جفونُ الرائي».

ولا تستطيع بطولي أن تحيا حبّاً خارج جدليّة القرب والبُعد، فبُعدُها ليس فيه موت واستحالة، وقُربُها ليس فيه يد تصل إلى ما تشتهي، وفي الحالين خفقان قلبٍ لا يكفّ عن البوح عشقاً: «لي في الأعالي حبيبُ/ كنارِ ولوعي غريبُ/ بعيدٌ كنجمٍ... وإنْ في/ ليالي العيونِ قريبُ». وتحت وطأة المسافات العاطفيّة الملتبسة تتقمّص الشاعرة قنديلاً وتملأ رجُلَها رفيفَ فراشة تسكنها شهيّة الموت احتراقا: «يشوق يدي قطفه/ كفراشٍ دعاهُ اللهيبُ»...

ومن الحبّ ما ارتقى ببطولي إلى السّماء، وما الخطيئة سوى الاستقالة من هموم القلوب، إذ إنّ جحيم العاطفة لا يستطيع اغتيال الملائكة وبياض ريشها في أعماق العاشقين: «حتى معاً بجهنّمٍ/ بقيَ الملاكُ بنا مَلاكا»،... وكيف يعرف طعم الهناء في ظلال الفراديس من ليس يعرف عطرَ النّار تحت سُحُب جمريّة عاشقة: «طعم النّعيم بضدّه/ يا للتّبادع بعد ذاك!».

بريشة أصيلة تعرف من أين تؤكَل كتف الحبّ شعرا، كتبَت باسمة بطولي قصيدتها الفريدة، وألبسَتها حريراً بعضه من صِبا والبعض الآخر من صَبا.

back to top