الدوبامين... ليس المسؤول عن حالات الإدمان

نشر في 12-02-2017
آخر تحديث 12-02-2017 | 00:08
الدوبامين
الدوبامين
يشير «قطاع القلق»، حسبما أدعو وسائل الإعلام العصرية، إلى أن الدوبامين، وهو ناقل عصبي في دماغ الإنسان، أساس مشاكل اجتماعية كثيرة. في تسجيل أخير حظي بانتشار واسع، اعتُبر الدوبامين مسؤولاً عن إدمان تكنولوجيا مثل الهواتف الذكية أو مواقع التواصل الاجتماعي. وثمة مجموعة تُدعى «مشروع الدوبامين» تروّج لحياة أفضل من خلال تعزيز الوعي بشأنه، وتؤكد أن «توقع ارتفاعه في الدماغ يدفع المدمنين إلى الاستمرار في الكذب، والغش، والسرقة، والتوق إلى الجرعة التالية».
على نحو مماثل، تذكر مجلة «فوربس» أن الدوبامين يشكّل أبرز سبب لـ«إدمان» الولايات المتحدة الأسلحة. كذلك، يدّعي مَن يعالجون مفهوم الإدمان السلوكي/ العملي غير المثبت وغير المعترف به أن الدوبامين يشكّل أساس مشاكل سلوكية كثيرة، وأن الإنسان يطوّر تحملاً شبيهاً بتحمل الدواء تجاهه، فيتوق إلى المزيد منه.
أتذكر الفيلم Awakenings من بطولة روبرت دينيرو حيث يبقى المرضى في حالة جامودية طويلة الأمد، إلا أن طبيب الأعصاب أوليفر ساكس (استناداً إلى قصة هذا الطبيب الحقيقية) يحقنهم بدواء L-Dopa، وهي مادة كيماوية تتحوّل إلى دوبامين في الجسم، معيداً إياهم مؤقتاً إلى الحياة والوعي. ومن دونها، لا يعمل جسمنا ودماغنا. نصبح كلنا في حالة جامودية.

لا يشكّل الدوبامين هرمون «المكافأة» لأن جسمنا لا يستخدمه بهذه الطريقة. أولاً، على غرار التفاصيل كافة في جسمنا، للدوبامين أهداف كثيرة، أبرزها أنه يوسّع الأوعية الدموية في الجسم، وتؤدي خسارته إلى مرض باركنسون، وهو اضطراب عصبي عضلي تنكسي. كذلك يعمل معظم الأدوية المضادة للذهان على كبح عمل الدوبامين، لا لأن «مكافأته» تسبب الهلوسات، بل لأن حساسية دماغ مَن يعانون الفصام تجاه الدوبامين تكون مفرطة على الأرجح. على نحو مماثل، يشمل اضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه في جزء منه تراجع نشاط الدوبامين، فلا تعمل أجزاء من الدماغ بالشكل الجيد لتتمكّن من تركيز الانتباه ومقاومة مصادر التلهية. إذاً، يخدم الدوبامين وظائف معقدة كثيرة، ولا يصفه عالِم دماغ بمادة تسبب الإدمان إلا إذا كان مبتدئاً.

صحيح أن الدوبامين يرتبط بتجارب مكافئة، إلا أن هذا الرابط لا يعني أنه يمنحنا شعوراً جيداً. تشمل التجارب الممتعة، سواء كانت علاقة حميمة أو ممارسة رياضة ما، كثيراً من المواد الكيماوية العصبية المختلفة والهرمونات التي تُفرَز في الجسم، مولّدة تأثيرات معقدة ومتداخلة.

عندما يوشك الإنسان على أن يختبر المتعة، يُطلَق الدوبامين في الدماغ وفي أجزاء من الدماغ تختبر المتعة وتعالجها. لكن دوره هنا لا يقوم على منحنا شعوراً جيداً، إذ لا يُعتبر مسؤولاً عن مشاعر مماثلة لأن المتعة، أو اللذة، أو النشوة تأتي من المواد الأفيونية في الدماغ، وهي مواد كيماوية تعزّز المتعة وتحدّ من الألم. أما دور الدوبامين في المتعة والمكافأة، فيقتصر على مساعدة جسمنا على إدراك «بروز حافز». لذلك يمكننا تشبيهه بعلم أحمر صغير في الدماغ يقول «أنت! انتبه! ستمنحك هذه التجربة شعوراً جيداً. لذلك ترغب في تذكّرها كي تتمكّن من تكرارها».

تكمن أهم نقطة في هذه المسألة في أن غياب الدوبامين لا يجعل التجربة أقل متعة. في دراسة أُجريت على جرذان تعرّض الدوبامين في دماغها للكبح، «أعربت عن أنماط لذة طبيعية». كذلك جاءت ردود فعلها المرتبطة بالمتعة طبيعية رغم تعرّض الدوبامين للكبح.

في دراسة أخرى أُجريت على الجرذان (اعتمدت على الهيروين)، تبيّن أن عملية نقل الدوبامين ترتفع عند توقع الحصول على الهيروين، إلا أنها تتراجع بحدة بعد الحصول على المخدر (يأخذه الجرذ بمفرده). واللافت أن الباحثين لم يُلاحظوا هذا التأثير في أول مرة حصل فيها الجرذان على الهيروين. لماذا؟ لأن هذه القوارض ما كانت تعلم بعد أن الهيروين يمنحها شعوراً جيداً.

توقع المكافآت

يرتكز دور الدوبامين على تعلّم أن المكافأة تمنح شعوراً جيداً، لذلك نستطيع تكرارها. وينطبق الأمر عينه على ركوب لعبة الأفعوانية، أو تبادل القبل، أو مشاهدة فوز فريقك الرياضي المفضل، حتى حمل طفلك. فضلاً عن ذلك، يأتي إفراز الدوبامين عند توقع المكافآت أكبر إن كانت المكافأة غير أكيدة. إذاً، عندما تتوقّع أمراً أكيداً يتراجع إنتاج الدوبامين، مقارنة بالمرات التي تعتمد فيها المكافأة على الحظ. لماذا؟ لا نعلم السبب. ربما لأنك قد تتعلم من التجربة غير الأكيدة مسائل أكثر، مقارنة بالمكافأة المضمونة. فلا تمنحك المكافأة المضمونة معلومات جديدة.

ما أهمية ذلك كله؟ ألا يمكننا أن نعزو هذه المسألة إلى افتقار وسائل الإعلام إلى العمق الضروري وعجز علم النفس الشعبي عن فهم التفاصيل الدقيقة؟ عندما يستشهد أمثال سايمون سينك، كاتب ومستشار حمّل تسجيله الذي لقي رواجاً واسعاً الدوبامين مسؤولية مشاكل الألفية، بعلم الأعصاب، يلجأون إلى إستراتيجية ذكية للتلاعب بنا. سينك ليس عالم أعصاب ولم يدرس هذا الوجه المعقد من دماغنا أو يجري عنه بحوثاً. لكنه يدرك نقطة تجهلها: يشكّل ذكر علم الأعصاب وسيلة ممتازة لإقناع الناس أنك تملك معارف واسعة عن موضوع ما، فضلاً عن أنك تزيد حججك قوة. برهن باحثون من جامعة بنسلفانيا هذا التأثير أخيراً، مظهرين أن الاستعانة بمراجع من علم الدماغ لا دخل لها بالموضوع تشكّل طريقة ممتازة لحمل الناس على الاعتقاد أن ظواهر معقدة بسيطة، وأن الدماغ يستطيع تفسيرها بسهولة.

لا تُعتبر مشاكل الإنسان بسيطة. وعندما يكرر الناس سلوكاً ما، وإن كان يسبب الاضطرابات، تكون أسبابه كثيرة ومعقدة. كذلك، عندما نقدّم أجوبة بسيطة مثل «بسبب الدوبامين»، نتلهى عن الشخص بحد ذاته. فالشخص هو مَن يتعلّم، وما الدوبامين إلا أحد عوامل عدة يشملها التعلّم. وحين نشجّع مَن يمضون وقتاً طويلاً في استخدام مواد التسلية، أو يستعلمون الهاتف أثناء القيادة، أو يتحققون من موقع «فيسبوك» كل دقيقتين على إلقاء اللوم على الدوبامين، نعلّمهم عزل أنفسهم عن المشكلة وتحميله المسؤولية. ولكن إن ركزنا بدلاً من ذلك على التعلّم وأوجه البروز في هذه العملية، تساهم هذه الخطوة في إعادة انتباه الناس إلى أنماط سلوكهم الخاصة، ودوافعهم، والمعنى الذي يمنحونه لهذا السلوك أو التجربة. كذلك نساعدهم في الإمساك مجدداً بزمام حياتهم. لذلك، لنبدأ بالتحدث عن الناس بدل المواد الكيماوية العصبية التي لا دخل لها بالموضوع.

back to top