مضاعفات الحمل... هل «تصنع» عباقرة؟
المواهب المذهلة، مثل الأولاد النوابغ ومَن يبرعون في الرياضيات أو الفنون، نادرة. وتعمل البحوث راهناً على الكشف تدريجياً عن الآليات التي تقف وراءها. يشير الباحثون في هذا السياق إلى أن طريقة التربية ليست العامل الوحيد الذي يساهم في نشأة العباقرة والمبدعين، فللتجربة التي تعيشها الأم وحالة جهازها المناعي خلال الحمل تأثير كبير أيضاً.
تشير البحوث الأخيرة إلى الأسباب التي تعلّل القدرات الاستثنائية والمذهلة التي يملكها بعض البشر. لنتأمل في ثلاث حالات:• يذكر جاي، وهو شاب مراهق، أن الموسيقى تتدفّق في رأسه بسرعة البرق، حتى إنه يسمع سيمفونيات عدة في آن أحياناً. ظهرت هذه الموهبة لديه باكراً. صحيح أن والديه لا يملكان ميولاً موسيقية وأن منزله لا يضمّ أي آلات موسيقية، إلا أنه بدأ في سن الثانية برسم آلات تشيلو، وسأل والديه في الثالثة إن كان بإمكانه امتلاك آلة تشيلو، فاصطحباه إلى متجر للآلات الموسيقية وذُهلا حين شاهداه يحمل هذه الآلة ويبدأ العزف. ما كان رأى تشيلو في حياته، ولكنه راح منذ ذلك اليوم يرسم هذه الآلة على الأسطر الموسيقية. ومع بلوغه سنته الخامسة، كان ألّف خمس سيمفونيات، ثم تسعاً بحلول سنته الخامسة عشرة. وسجلت أوركسترا لندن سيمفونيته الخامسة التي تألفت من 190 صفحة و1328 ميزاناً.
• مع أن ألونزو كليمنز لم يحظَ بأي تدريب في مجال الفن، بيد أنه ينحت تماثيل حيوانات دقيقة ومعقدة. يصوّرها أثناء حركتها، رغم أنه بالكاد لمح صورتها في كتاب أو على شاشة التلفزيون. يعود عشقه الكبير للنحت إلى طفولته، حين سقط وصدم رأسه. منذ ذلك الحين، أعرب عن قدرة عالية ورغبة جامحة لتشكيل الطين أو الشمع وتحويله إلى تماثيل حيوانات دقيقة في غضون دقائق. إلا أن كلفة هذه الموهبة كانت عالية: صحيح أن ألونزو نجح أخيراً في استعادة استقلاليته، إلا أنه ظلّ عاجزاً طوال سنوات عن القيام بأبسط الأعمال في الحياة، مثل تناول الطعام بمفرده أو ربط حذائه. وما زال حتى اليوم لا يجيد القراءة أو الكتابة، فضلاً عن أنه قليل الكلام.• تعرّض جايسون بادجيت في مطلع ثلاثيناته لهجوم عنيف على يد لصوص. ركلوه في الرأس، فأُصيب بارتجاج في الدماغ أدخله المستشفى. بعدما عاد إلى المنزل في الصباح التالي، لاحظ أمراً بالغ الغرابة حين فتح الماء في الحمام: رأى خطوطاً تنبعث عمودياً من الماء الجاري. يخبر: «بدا المشهد جميلاً جداً، حتى إنني وقفت عارياً ورحت أحدّق فيه». عندما مدّ يده أمامه، كان الوضع أشبه «بمن يشاهد فيلماً بالحركة البطيئة»، كما لو أن كل حركة كانت جزءاً من فيلم معد بتقنية إيقاف الحركة. هكذا صار جايسون مهووساً بكل شكل يراه من النوافذ المستطيلة إلى انحناءات الملاعق. كذلك بدأ بالتفكير في صور معقدة صنّفها الباحثون بعد رسمها من ضمن الهندسة الكسيرية (أشكال جميلة يكون فيها كل عنصر مماثلاً للعمل بأكمله). قبل تعرّضه للسطو، ما كان جايسون يهوى الرسم، كذلك لم يحظَ بتدريب في الرياضيات، ولم ينل شهادة جامعية. حتى إنه وصف نفسه بـ«الأخرق». أما اليوم، فصار يبيع رسومه بمبالغ كبيرة، وهو ملتزم بتعليم الآخرين جمال الرياضيات.
مهارة وعجز
كان جاي عبقرياً منذ نعومة أظفاره، في حين صار ألونزو موهوباً بعد حادث في الطفولة. أما جايسون، فاكتسب موهبته بعد تعرّضه للضرب. لا تساعدنا المصطلحات المتوافرة في التمييز بين هذه الحالات لأنها متداخلة. يتمتع العبقري بمهارة استثنائية منذ سنواته الأولى غالباً لا حصراً من دون تعرضه لإعاقات تحدّ من هذه المهارة. على نحو مماثل، يحظى الموهوب بمهارة عبقرية منذ الطفولة، إلا أنها تترافق مع عجز شبيه بالتوحّد في مجال التواصل، فضلاً عن إعاقة تمنعه من الاعتناء بنفسه (معظم العباقرة والموهوبين من الذكور، وهذا بحد ذاته دليل مثير للاهتمام). أما مَن يكتسب موهبة، فيكون إنساناً «طبيعيا» يعرب بعد تعرضه لحادث أو صدمة عن قدرة مذهلة وهوس يماثل ما نلاحظه بين العباقرة والموهوبين. ترتبط الخصائص الشبيهة بالتوحد (مثل الانتباه إلى التفاصيل والهووس بالأنماط والأشكال المتسلسلة) بالموهوبين وعدد محدود من العباقرة. كشفت الدراسات أن %50 إلى %70 من الموهوبين الفطريين يعانون التوحد. وفي دراسة أقل شمولية إلا أنها لا تقلّ أهمية، تبين أن أكثر من نصف العباقرة حظوا بقريب لصيق يعاني التوحد.كشفت البحوث أن المواهب الاستثنائية ترتبط بثلاث نقاط: الذاكرة، التعرّف إلى الأنماط والأشكال المتسلسلة، والانتباه إلى التفاصيل:أولاً، يتمتع العباقرة والموهوبون بقدرة أكبر من الأشخاص العاديين على الاعتماد على ذاكرة واسعة لإنتاج صور دقيقة حفظوها، أو التلاعب بها، أو تطويرها. ثانياً، يعمل الموهوبون والعباقرة (فضلاً عن مرضى التوحد) وفق أنماط وأشكال متسلسلة معقدة تتجلّى في فنهم، وموسيقاهم، وخرائطهم، وعملياتهم الرياضية والحسابية.ثالثاً، يتمتعون بانتباه بالغ للتفاصيل، حتى إنهم يتفوقون على مرضى التوحّد في هذا المجال. تترافق هذه الظواهر كافة مع اندفاع قوي، فيعرب العباقرة عن إصرار مذهل على إتقان مهاراتهم، في حين ينغمس الموهوبون بالكامل في مهاراتهم أو موضع اهتمامهم.يشير تفسير الموهبة الأفضل حتى اليوم (سواء كانت فطرية أو مكتسبة) إلى أن ضرراً ما يصيب الجزء الأيسر من الدماغ ويطاول أيضاً دارات بالغة الأهمية في الذاكرة. نتيجة لذلك، تُضطر مناطق في جزء الدماغ السليم إلى التعويض عن النقص الحاصل، شأنها في ذلك شأن وظائف الذاكرة الأقل أهمية. وهكذا يشهد الدماغ إعادة تنظيم لوصلاته، ما يؤدي إلى بروز المقدرة الهامدة في المنطقة التي حظيت بالوصلات الجديدة. يدعو دارولد تريفيرت، الذي يُعتبر أهم مرجع في العالم بشأن الموهوبين، هذه العملية «الحشد، وإعادة تنظيم الوصلات، والإطلاق». إذاً، تنجم مقدرات الموهوبين المذهلة عن نشاط فكري سريع ما قبل الشعور. يختلف هذا عن مستوى التفكير التنفيذي الذي نغوص فيه كلنا. يكون الإبداع والمرونة المعرفية محدودين جداً. في المقابل، تسود المعالجة الآلية التي تستند إلى قواعد.يرتبط واقع أن معظم العباقرة والموهوبين من الذكور على الأرجح بـ«التخصيص الجانبي الدماغي». تشير هذه النظرية إلى أن مختلف الاضطرابات التي تؤدي إلى خلل في نصف الدماغ الأيسر (بما فيها التوحد، وعسر القراءة، وتأخر النطق، والتلعثم، وفرط النشاط) تُعتبر أكثر شيوعاً بين الصبية. ويعود ذلك إلى أن نمو نصف الدماغ الأيسر يكتمل بعد النصف الأيمن، ما يجعله أكثر عرضة لتأثيرات ما قبل الولادة فترة أطول. على سبيل المثال، قد يساهم دفق التيستوستيرون في حالة الجنين الذكر النامي في إبطاء نمو نصف الدماغ الأيسر، ما يؤدي إلى عملية «حشد» مع ازدياد النصف الأيمن حجماً وهيمنة.يشكّل دور تجربة ما قبل الولادة في تطور العباقرة مجال بحث جديداً نسبياً. فقد بدأ التركيز عليها نحو منتصف ثمانينيات القرن الماضي. ومن الاكتشافات التي جرى التوصل إليها حتى اليوم بروز مضاعفات الحمل والولادات المبكرة بوضوح. على سبيل المثال، أُدخلت والدة جايك بارنيت (عبقري مشهور في مجال الرياضيات والفيزياء) مرات عدة قبل الولادة. وفي حالة بارزة أخرى، تعرضت والدة عبقري لحادث خلال الحمل. إلا أنه لم يكن عادياً: سقطت أثناء مساعدتها زوجها في مواجهة لص فاجآه وهو يحاول اقتحام منزلهما. تبدو هذه الحوادث مشابهة لما تعرّض له كل من ألونزو، وكليمنز، وجايسون بادجيت، فضلاً عن الكثير ممن يتمتعون بمواهب فطرية أو مكتسبة.مناورة الطبيعة
قدّم عالم النفس من جامعة تافتس ديفيد هنري فيلدمان في دراسته الشاملة المنوِّرة التي حملت العنوان «مناورة الطبيعة»، وتناولت عام 1986 ستة أولاد عباقرة، تقريراً عن الرابط بين ذاكرة الأولاد العباقرة الخارقة وبين مشاكل الحمل. روى أحد هؤلاء الأولاد (يُلقَّب بآدم) ما يبدو ذكريات من ولادته، مثل تفاعله مع الأضواء القوية في غرفة الولادة ووضع أداة الشفط على أنفه. بالإضافة إلى ذلك، تحدث عن ذكريات ما قبل الولادة، مثل صوت والدته وهي تغني و«تطبق الجدران عليّ، هذا مؤلم». وما يجعل النقطة الأخيرة بالغة الأهمية واقع أن حمل أمه اصطدم بمضاعفات عدة، بما فيها تقلصات الرحم التي هددت حياته منذ الشهر الرابع.تشمل الإشارات الأخرى إلى الدور الذي قد يؤديه النمو ما قبل الولادة في حالة العباقرة تزايد مشكلة مقدمة الارتجاع بين أمهات العباقرة المستقبليين. مقدمة الارتجاع حالةً تترافق مع ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم وتورم الوجه، واليدين، والقدمين. تظهر عادةً خلال الجزء الأخير من فصل الحمل الثاني أو فصله الثالث، وربما تعود إلى نقص في نمو المشيمة. وربما يرجع الأخير بدوره إلى خلل جيني يدفع جهاز مناعة الأم إلى التعاطي مع المشيمة على أنها عنصر دخيل.علاوة على ذلك، اتضح أن مقدمة الارتجاع (إلى جانب علاقتها بعدد كبير من الأولاد العباقرة) ترتبط بالتوحد. إذاً، للتجارب التي تمرّ بها الأم خلال الحمل، فضلاً عن العوامل الجينية، تأثير كبير في تحوّل الولد إلى عبقري. بكلمات أخرى، يترتب على مواجهة الأم عدوى أو تعرضها لصدمة أو إصابة (إذا لم نأتِ على ذكر متى تتعرض الأم لمشاكل مماثلة) تأثير بالغ الأهمية. فكما أن مَن يكتسبون المواهب يصبحون فجأة استثنائيين بسبب إصابة حادة في الرأس، كذلك تؤدي «الصدمات» في الرحم إلى تبدّل محتّم في مسار نمو الجنين. لكن المثير للعجب على الأرجح اكتشاف دراسات كثيرة أن العباقرة يتشاركون في تعاطف فائق: يملكون حساسية مضبوطة بدقة تجاه مشاعر الآخرين، فضلاً عن رغبة كبيرة في فعل الخير. تخبر أم أحد العباقرة أن مشاعر ولدها «كانت دوماً أقوى منذ ولادته، إذ تمتع بأحاسيس فياضة في داخله». وفي سن الثانية، راح عبقري آخر يبكي من دون توقف عندما سمع والده يعزف Stabat Mater Dolorosa لروسيني. أفاد لاحقاً أنه شعر بأنه مرتبط بكل نوتة موسيقية سمعها وعرف «أن الموسيقى تعبّر عن روحه».تذكر جوانا روثساتز، عالمة نفس من جامعة أوهايو درست العباقرة طوال 20 سنة تقريباً، أن هؤلاء يتمتعون عموماً «بكرم وحساسية أخلاقية» لم تشهد نظيراً لهما. فلطالما تحلوا بحس عميق بالعدالة وتصميم على تحسين العالم. وإلى جانب مقدراتهم الاستثنائية الأخرى، يحاكي حس الإحسان القوي هذا قدرات كامنة إنما شاملة. أما تريفيرت، فيعتقد من جهته أن السرعة المفاجئة التي يكتسب بها إنسان عادي مواهب تشير إلى أن كلنا نملك «عبقرياً ما» في داخلنا.نظراً إلى ندرتهم، يستحق هؤلاء الأشخاص المميزون دراسة علمية متواصلة. يشير واقع أن أفراداً يكتسبون مواهب كبيرة فجأة بعد التعرض لسكتة دماغة، أو صاعقة، أو إصابة أخرى في الرأس إلى أن هذه المقدرات الخارقة تنبع من أصول بيولوجية. ولا شك في أن فهم الآليات الكامنة وراءها سيكون له انعكاس كبير علينا جميعاً.
مناورة الطبيعة قدّم عالم النفس من جامعة تافتس ديفيد هنري فيلدمان في دراسته الشاملة المنوِّرة التي حملت العنوان «مناورة الطبيعة»، وتناولت عام 1986 ستة أولاد عباقرة، تقريراً عن الرابط بين ذاكرة الأولاد
الخصائص الشبيهة بالتوحد ترتبط بالموهوبين وعدد محدود من العباقرة
الخصائص الشبيهة بالتوحد ترتبط بالموهوبين وعدد محدود من العباقرة