حتى الإنسان يروّض

نشر في 03-02-2017
آخر تحديث 03-02-2017 | 00:15
 تهاني الرفاعي رغم أن الله كرّم الإنسان بالعقل فإن ترويضه يمكن أن يكون أخطر من أشرس المخلوقات على وجه الأرض.

قبل أيام تأملتُ صورة لـجندي في سورية يحمل بندقيته على كتفه الأيمن، ومن ورائه كومة خلفها القتال والحرب، ورغم كل تلك البشاعة التي تحيط بالصورة فإنه كان مبتسما يلعب بـكرة كانت لأحد الأطفال الذين قصفت البيوت على رؤوسهم، فغادرت الطفولة وبقيت أشياءها متناثرة تنتظر أيادي وديعة تلعب بها وتلملم بعثرتها، فكان لـسوء الحظ من التقفها ذات اليد التي يتّمتها!

ظلّت هذه الصورة عالقة في ذهني، ربما لأن خيالي سرح فيها إلى أن توغلت في أعماقها، وكأنني اخترقت عالم الجماد حينها لأصل إلى ذات الجندي الذي كان يلهو بـكرته، وفي اللحظة ذاتها كنت أرقبه من بعيد، فخفت أن أقترب فـيُخيل له أنني عدو فيقتلني!

كان يدحرج الكرة وصوت الرصاص الذي يحمله في جيبه يحدث صوتا مع كل ركلة وحركة، كان مستمتعا جدا وكأنه لم يلعب من قبل! ربما اشتاق لأيام يكون فيها كما هو في سلام نفسي أو أن نفسه اشتهت أن تكون إنسانا طبيعيا حرا غير ملغم!

يبدو طيبا رغم عدوانيته وحمله تلك البندقية التي خشنت يديه! هو طيب لأن الله خلقه أطيب مما هو عليه الآن! كلنا بلا استثناء طيبون لكن الكثير منا روض بألا يكون طيبا! تماما كأسدٍ تبناه أحدهم فعلّمه أن اللحم يُقدّم له كل ساعة في صحن دون حاجة للافتراس والانقضاض، ورغم أن طبيعة الأسود الشراسة لكنه روّض بعكس ذلك!

كذلك الإنسان قد يُبتلى بوالدين يزرعان فيه الكراهية والبغضاء إزاء طائفة أو أشخاص معينين، أو أن يولد في بيئة تحمل من الأفكار الفظيعة البشعة الكثير، ويكبرُ الصغير على ذلك دون دراية منه، فيصبح شرساً جداً كلما مر أمامه من كانوا يحذرونه منه في السابق.

كل شيء هيّن إلا أن تحمل في قلبك كرها لأحد، فتصير وحشا كاسرا لا يرحم دون أن تشعر، والجندي الذي في الصورة وغيره من الجنود المعادين دُربوا على أن قتل الخصم فوز وغنيمة!

أردتُ في تلك اللحظة أن أمسح على وجه ذاك الجندي وأرفع رأسه إلى السماء ليرى بعينيه ما طمسته أدخنة القنابل، وليرى أن السماء أحلى من تلك الأرض التي يطؤها بحذائه الممزّق، وأن الحياة صفاء وهناء، وأن بإمكانه اللعب بالكرة إن أراد، وبإمكانه أن يطلق العنان لحواسه التي ظلّت حبيسة الحرب والرصاص! وليرى أنني لستُ عدوة، وليس كل من يمر أمامه عدو، وأننا نشبه بعضنا، نتنفسُ ذات الهواء معا، وتحت سماء واحدة، أردتُ أن أدعوه لأن يترك بندقيته بعيدا فالبنادق للأشرار، والحياة للحياة لا القتال!

أعرف أنه سيقتنع وأن هذا ما يحلم به هو أيضا، لكنني لستُ هنالك ولم أخترق الصورة كما تخيلت وتوهمت لتوي! وأعلمُ أيضاً أن عقولا كثيرة جدا بدلها ما قيل لها وما اعتادت عليه، وهي في حقيقتها أجمل من كل تلك الدساتير الزائفة التي نحشو بها عقولنا البريئة، الحياة طفولة وابتسامة ومتاع، الحياة سلام يا أهل السلام!

back to top