أشعث الشعر يرتدي نظارات

نشر في 31-01-2017
آخر تحديث 31-01-2017 | 00:00
 د. نجمة إدريس في تقديمه لكتابه "كالنهر الجاري"، يورد باولو كويلو هذا المقال الساخر حول معنى أن يكون الإنسان كاتباً، وكيف ستكون حينها هيئته وطباعه وصورته النمطية. وهي ليست بأية حال سخرية من أجل الاستظراف، بقدر ما تلامس واقع الكُتّاب وبشكل حقيقي وناصع، وطريف أيضاً.

ويبدو أنها ستظل صورة مطّردة ونمطية عبر الأمكنة والأزمنة، ولم يفعل كويلو شيئاً غير أن يضعنا في مواجهة المرآة.

هذه ترجمة للمقال المعني: حين كنتُ في الخامسة عشرة قلتُ لأمي: لقد عرفتُ ما أريد أن أكون في المستقبل، أريد أن أصبح كاتباً.

أجابتني بحزن: يا عزيزي، أبوك مهندس، لذا فهو منطقي وعقلاني ويمتلك رؤية واضحة للعالم. فهل تعلم يقيناً ما الذي يعنيه أن تكون كاتباً؟

أجبتُ: أن أكون من أولئك الذين يؤلفون الكتب.

قالت: عمك هارولدو وهو طبيب يؤلف الكتب وينشرها أيضاً. إذا أصبحتَ مهندساً تستطيع أيضاً أن تكتب في أوقات فراغك. قلتُ: لا يا أمي أريد أن أكون كاتباً، وليس مهندساً يؤلف الكتب.

- ولكن هل سبق لك أن التقيتَ كاتباً؟ أو رأيت كاتباً من قبل؟

- أبداً، رأيتُ صورهم فقط.

- إذن كيف يمكنك أن تكون كاتباً، وأنت لا تعلم معنى أن تكون كذلك؟

من أجل أن أجيب عن سؤال أمي قررتُ أن أجري بحثاً عن الموضوع. وهذا ما توصلتُ إليه عن كيفية أن تكون كاتباً وما يعنيه ذلك حينها.

أولاً: الكاتب عادة ما يضع نظارتين، ولا يمشط شعره أبداً. يقضي نصف وقته غاضباً من كل شيء والنصف الآخر مكتئب المزاج. يمضي معظم حياته في المقاهي، يجادل أمثاله من الكتّاب مشعثي الأفكار والرؤوس. يتكلم بأحاديث (عميقة)، ولديه أفكار عجيبة عن عقدة الرواية القادمة، مع كرهه الشديد لروايته التي نُشرت أخيراً.

ثانياً: عادة ما يكون لدى الكاتب ما يشبه التطلع أو الالتزام بألا يكون مفهوماً من قبل أبناء جيله، ومقتنعاً أيضاً- في حالة تم فهمه واستيعاب كتاباته- أنه سوف يفقد صفة اعتباره عبقرياً. الكاتب كذلك هو من يظل يراجع ويعيد كتابة عباراته مرات عدة. وإذا كان مجموع المفردات اللغوية المستعملة من قبل العامة نحو ثلاثة آلاف مفردة، فإن الكاتب الحقيقي لا يستعمل هذه المفردات مطلقاً، فهناك ما يقارب 189000 مفردة قاموسية متوفرة له، وهو في النهاية ليس من أولئك العامة!

ثالثاً: الكاتب لا يكون مفهوماً إلا من قبل الكتّاب أمثاله، من الذين عادة ما يكرههم في سره، ولكنه يجتهد في الدخول معهم في سباق لملء الفراغات المتروكة في تاريخ الأدب. ولهذا فإن الكاتب ومجايليه عادة ما يتنافسون لتأليف (أكثر الكتب صعوبة وتعقيداً)، والكتاب الذي سيحرز قصب السبق هو حتماً الكتاب الأكثر صعوبة على القارئ.

رابعاً: الكاتب هو الذي يستطيع أن يفهم المصطلحات ذات الوقع الصاخب، مثل مصطلحات: السيميائية، والبنيوية، ونظرية المعرفة.. إلخ. وحين يريد الكاتب أن يصدم أحدهم أو يثير دهشته فهو عادة ما يقول أشياء مثل: "آينشتاين ليس سوى أحمق"، أو "كان تولستوي مهرجاً برجوازياً". وأثناء هذه الانتقادات الفضائحية لا يتورع عن وصف النظرية النسبية بأنها من الترهات، وأن تولستوي ليس سوى مدافع حقيقي عن الأرستقراطية الروسية.

خامساً: حين يحاول الكاتب إغواء امرأة، فعادة ما يقول لها: "أنا كاتب".

ثم يشخبط لها "قصيدة" على منديل ورقي. ودائماً ما تنجح هذه المحاولة.

سادساً: لأن الكاتب لديه ثقافة واسعة، فهو غالباً ما يحصل على عمل (كناقد أدبي). وخلال ممارسته لهذا الدور يستطيع أن يظهر كرمه عن طريق الكتابة عن كتب أصدقائه. فيأتي نصف تلك التقارير عبارة عن اقتباسات من مؤلفين أجانب، والنصف الآخر عبارة عن فذلكات تعبيرية مموّهة بما يعرف من مصطلحات و"كليشيهات". وهو عادة لا يشتري تلك الكتب لأنه يخشى ألا يستطيع إكمال قراءتها حين تلوح تلك الفذلكات اللغوية والاصطلاحية!

سابعاً: حين يُستضاف الكاتب ويُطلب منه أن يذكر آخر كتاب يقرؤه، فإنه غالباً ما يذكر كتاباً لم يسمع به أحد!

ثامناً: هناك دائماً كتاب واحد يثير إعجاب الكاتب ومجايليه، وهو كتاب: عوليس لجيمس جويس. لأنه لا يوجد بين الكتّاب من يقلل من شأنه، ولكن ما أن يُسأل أحدهم عن محتواه إلا ويعجز عن التفسير ويثير الشكوك حول صحة قراءته له.

متسلحاً بكل هذه المعلومات، عدتُ مرة أخرى إلى أمي لأشرح لها ما يعنيه أن يكون الإنسان كاتباً. فبدت لي مندهشة من هذه الأوصاف والحقائق، وقالت لي: إنه من الأسهل لك أن تكون مهندساً، إضافة إلى أنك لا ترتدي النظارات".

على كل حال، لديَّ صفة الشعر الأشعث غير المرتب، وفي جيبي نسخة من عوليس وتحت ذراعي مخطوط مسرحية: (حدود المقاومة)، التي– ويا لغبطتي– وصفها أحد النقاد بأنها "من أكثر الأشياء جنوناً على خشبة المسرح". وكنتُ كذلك أدرس (هيغل) وأنوي بإصرار أن أقرأ عوليس. ولكن فاجأني أحد مغني الروك بطلب أن أكتب له كلمات أغانيه، فانسحبتُ من رحلة البحث عن الخلود ووجدتُ نفسي أسير في الطريق الذي يرتاده العامة من الناس.

هذا الطريق أخذني إلى الكثير من الأمكنة، وجعلني أرتاد البلدان وأتعاقب عليها أكثر مما أستبدل الأحذية كما يقول برخت، وأكسبني الكثير من الخبرات وألهمني حكايات وأفكاراً طوال ترحالي عبر نهر الحياة.

back to top