«مهندس الثقافة السينمائية»!

نشر في 06-01-2017
آخر تحديث 06-01-2017 | 00:00
 مجدي الطيب في نوفمبر الماضي غيَب الموت الباحث السينمائي يعقوب وهبي، وتشاء الأقدار أن يرحل، بعده بشهر واحد، الناقد والباحث والمؤرخ المخضرم «أحمد الحضري» (26 أكتوبر 1926 – 1 يناير 2017)، وفي حين عُرف الأول بأنه «راهب السينما»، الذي أفنى عمره في خدمة الثقافة السينمائية في مصر، وقدم خدمة جليلة للسينمائيين والمهتمين عندما شارك في إعداد باقة ثمينة من الموسوعات والقواميس السينمائية (مع الباحث والناقد محمود قاسم والباحثة منى البنداري)، وأسهم بنشاط وافر في «جمعية الفيلم»، بالإضافة إلى دوره الكبير في تجميع الأعمال الكاملة للناقد السينمائي سامي السلاموني، فإن الثاني حمل لقب «مهندس الثقافة السينمائية»، منذ اللحظة التي قرر فيها أن يكون مشروع تخرجه في كلية الفنون الجميلة عبارة عن تصميم بناء أستديو سينمائي، تردد بسببه على أستوديوهات العاصمة لتفقدها، ومطالعة المجلات والمراجع المتخصصة في العمارة، والأهم أنه بدا وكأنه يستعيد من الذاكرة زيارة قديمة، وهو في المدرسة الابتدائية لأستديو مصر، وزياراته، مع عائلته، لسينما «ريالتو»!

كان طبيعياً، والحال هكذا، أن يغادر «الحضري» مقعد «الهندسة المعمارية»، ويوطد علاقته بالسينما، بعدما استهوته صناعة الأفلام، واتجه، مع شركاء، إلى شراء آلة تصوير صوروا بها فيلماً، وهم يلعبون كرة القدم، وأثناء تبادل الزيارات العائلية، لكن ظروف الحرب العالمية حالت دون تحميض الفيلم، وخاب حلمه في أن يقتدي بجاره في حي السكاكيني، الذي كان يملك آلة عرض سينمائي 35 مللي، تعرض لأصدقائه بعض الأفلام القصيرة!

في سنوات التكوين واظب على متابعة المجلات الشهيرة في تلك الفترة، مثل: «الاثنين»، {المصور» و{الصباح»، وفي فترة لاحقة مجلة «ستوديو» الإنكليزية، ورغم تعيينه كمهندس تصميمات معمارية، في ديوان الأوقاف الخصوصية الملكية ثم هندسة القصور الملكية في وزارة الأشغال، إلا أن المفاجأة التي لم تخطر ببال حدثت مع انضمامه، أثناء دراسته في كلية الفنون الجميلة، إلى مدارس إعداد ضباط الاحتياط، التي تخرج فيها عام 1947، أي قبل عام من حرب فلسطين، التي وقعت في عام تخرجه، بعد ما أبدى حماسة في الانضمام إلى الفدائيين، وهو الذي لم ينتمِ يوماً إلى حزب سياسي، ولم يُعرف عنه أنه «أيديولوجي» أو صاحب رأي في قضايا الشأن العام!

طموح «الحضري» لم يقف عند حدود، ففي أعقاب إعلان مصلحة المساحة عن إيفاد بعثات للحصول على دبلوم الدراسات العليا في المساحة من جامعة لندن، التحق بإحداها، وخلالها ابتاع آلة عرض 8 مللي، ومعها الكاميرا التي لازمته طوال فترة البعثة، التي أقام فيها مع عائلة إنكليزية أغلب الظن أنها انعكست إيجاباً على شخصيته وسلوكياته، بل أزعم أنها كانت سبباً رئيساً في صرامته، جديته، تفانيه، حبه للعمل الفردي، دقته في تعاملاته المالية، مشاعره التي تبدو محايدة للغاية وانضباطه في عمله، الذي يعود أيضاً إلى فترة وجوده في مدارس إعداد ضباط الاحتياط!.

عاد «الحضري» إلى مصر، وكتب أولى مقالاته السينمائية في مجلة «المجلة»، وعندما أسس الكاتب الكبير يحيى حقي «ندوة الفيلم المختار»، في صيف 1956، بزغ اسم أحمد الحضري، وبعد اغتيال «ندوة الفيلم المختار» في العام 1959 تذكر «الحضري» التجربة الإنكليزية، وطرح فكرة تأسيس «جمعية الفيلم»، التي حملت في البداية اسم «هواة السينما»، وكانت أول جمعية أهلية للسينما في مصر، والطريف أن الجمعية، التي بدأت نشاطها في العام 1961، اختارت شقة يعقوب وهبي، الذي رافق «الحضري»، في حضور «ندوة الفيلم المختار»، ولم يفارقه حتى لحظة رحيله، مقراً لمراسلاتها!

كان الهدف الأول الذي قامت عليه «جمعية الفيلم» هو «نشر الثقافة السينمائية وتنمية الوعي السينمائي»، وطوال حياته لم يتخل «الحضري» عن التشبث بهذا الهدف، سواء على صعيد المقالات أو المحاضرات التي كان يكتبها أو يلقيها في الجمعية أو الإشراف على إنتاج أفلام الهواة، أو على صعيد الترجمة والتأليف، كما فعل في الكتب التي أثرت المكتبة السينمائية، مثل: «صناعة الأفلام من السيناريو إلى الشاشة»، «رجال السينما»، «فن التصوير السينمائي»، «يوسف جوهر أديب السينما المصرية»، «سعيد شيمي شاعر الصورة السينمائية» و{تاريخ السينما في مصر»، الذي مات من دون أن يُحقق حلمه في إصدار الجزء الثالث منه، وحتى المناصب الإدارية التي تولاها كانت تصب في خدمة الثقافة السينمائية، مثل: عمادة معهد السينما، إدارة نوادي السينما، تدشين وإنشاء المركز القومي للسينما، رئاسة صندوق دعم السينما، رئاسة الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما ومهرجان الإسكندرية السينمائي، ورئاسة تحرير سلسلة «آفاق السينما».

خسارتنا في أحمد الحضري ليست لكونه «المثقف الزاهد» الذي فقدناه، والباحث كبير المقام، الذي يصعب تعويضه، والمؤرخ رفيع القيمة والقامة، الذي ندر وجوده، بل لأننا سنفتقد «القديس» الذي لم تشب ذمته المالية والأخلاقية شائبة.. وهو أمر نادر في زماننا!

back to top