زبانية
حقيقة ما عاد لأحدكم قيمة اليوم، بسنتكم وشيعتكم، فقد صغرتم أمام الأجساد الصغيرة المسجاة، بكل اختلافاتكم وتواريخكم وآرائكم ونظرياتكم، بجنتكم وجحيمكم، ما عدتم مهمين، تضاءلتم أمام الدماء والموت، أمام رأس صغير يطل من أسفل الركام، ابيضّ شعره قبل أوانه، ليتكم كلكم، بخطبكم وعنفكم وصراعكم ووعودكم وتهديداتكم، كلكم ذهبتم، وبقي، ولو فقط، هذا الصغير.

المهم هو أنني ذهبت لأقف مع إخوة لي وأخوات، فرقتنا الأيديولوجية وأسلوب الحياة وجمعنا الألم والقهر وقلة الحيلة تجاه أهلنا في الإنسانية الذين ينحرون اليوم في سورية بدم بارد، إلا أنني وجدت نفسي فجأة في سوق عكاظ قبل ألف سنة، لا الجمل لها معنى في حياتنا اليوم، لا الإشارات لها فحوى حقيقي، لا الصراخ له منطق، لا الهتاف له رسالة، ضجيج محشو ببذيء القول وعنيف اللفظ والفعل في حالة من الغضب الذي بدا طائفياً خالصاً منفلتاً، الهدف منه التنفيس الحاقد وإثارة الجمهور أكثر منه إرسال رسالة إلى العالم وتحديد مطالبات واضحة. مَن المتضرر مما سمعنا؟ موسكو أم طهران، أم الشباب الذين كانوا واقفين يسمعون، متشبعين بالعنف، مستمتعين بالشتم كوسيلة تنفيس وانتقام؟ ما الذي سيتغير؟ سياسات بوتين وروحاني، أم سياسات الشباب في التعامل مع الكوارث وأسلوبهم في التصرف إبان النكبات؟ أتصل الشتيمة إلى "حزب الله" أم تصل إلى الشباب والشابات الواقفين في الاعتصام فتغير نفوسهم ومستوى حوارهم وطريقة تفكيرهم وتعاملهم، فتضعفهم وتهزم الفعل والحجة لديهم وتحكرهم في الكلام البذيء الذي لا معنى له ولا نتيجة؟ ليس السؤال هنا "هل المجرم يستحق"، لكن السؤال هو "هل كلامك يليق بك وهل أدى الغرض المطلوب؟". في الواقع كان الاعتصام يحتاج إلى شيء أقوى مما كان، نعم أقوى، فالقوة ليست شتيمة، القوة ليست حذاءً يلقى أو بصقة ترمى، القوة هي إصرار، حجة، نداء لا يمكن للإنسانية أن تغفله، القوة هي أن تجعل المستمع يخجل من نفسه لا من كلماتك الفاحشة، القوة هي أن تجبر المتلقي على أن ينتبه إلى فداحة المصاب لا إلى فداحة الغضب والغل في قلبه، تلك هي القوة التي ذبلت تحت وقع السباب والعنف الطائفي، واللذين لم يتجليا في الاعتصام فقط، بل تبديا في وسائل التواصل الاجتماعي قبل وبعد الاعتصام، تغريداً قبيحاً ومن الطرفين. فأي بشر هذا الذي يجد في نفسه مكاناً ليحتفل بنصر سياسي على جثث الأطفال؟ أي إنسان فرغ من إنسانيته يهنئ بانتصار طاغية يفتح النار على أهل بلده وإن كان انتصاره يعني دحراً لجوقة إرهابية معه؟ أي قلب، أي أعصاب أي ضمير تجعلك أيها "الرافضي" تحتفل والأطفال لم يدفنوا بعد وتدفعك أيها "الناصبي" إلى الدعوة بين شتائمك إلى تسليح وجهاد في منطقة تشتعل ناراً وتنطفئ موتاً؟ كيف تحتفل بنصرك هنا أيها "الرافضي" وتبكي أطفال اليمن، وكيف تبكي أطفال سورية هنا أيها "الناصبي" وتفرح بأطفال اليمن؟ تستحقون ألقابكم ويستحق بعضكم بعضاً.حقيقة ما عاد لأحدكم قيمة اليوم، بسنتكم وشيعتكم، فقد صغرتم أمام الأجساد الصغيرة المسجاة، بكل اختلافاتكم وتواريخكم وآرائكم ونظرياتكم، بجنتكم وجحيمكم، ما عدتم مهمين، تضاءلتم أمام الدماء والموت، أمام رأس صغير يطل من أسفل الركام، ابيضّ شعره قبل أوانه، ليتكم كلكم، بخطبكم وعنفكم وصراعكم ووعودكم وتهديداتكم، كلكم ذهبتم، وبقي، ولو فقط، هذا الصغير.طبعاً تخلل الاعتصام دعوات مستمرة إلى الجهاد، لتمويل فصائل المعارضة في سورية وتزويدها بالأسلحة، لم تكن المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار وعزل النظام ومحاكمته، كانت المطالبة بتسليح المعارضة، بالجهاد، طبعاً في مقابل المطالبة الأخرى بمساندة النظام، غير مهم من هم في المنتصف، نحتسبهم طيوراً في الجنة، أيا زبانية جهنم.