المسامحة... طريقك إلى الشفاء

نشر في 06-12-2016
آخر تحديث 06-12-2016 | 00:04
No Image Caption
طوال أسابيع، كان الغضب يعتمل داخل كريستن ماثياسن، وهو مدير سيرك دنماركي. قبل بضعة أشهر، هجرته زوجته لتعيش مع رجل آخر، فتملكه كره شديد لعشيق زوجته الجديد. نتيجة لذلك، ما عاد هذا الرجل البالغ من العمر أربعين سنة يستطيع النوم لأن الألم كان يعتصر معدته والأفكار العنيفة تدور في رأسه، مما دفعه إلى الانكباب على الشرب ليتمكّن من النوم.
لكنّ القلق حيال ولدَيه الصغيرين دفعه في النهاية إلى لقاء هذا الرجل الذي يشعر بغضب شديد تجاهه.
عندما التقى الرجلان في أحد مقاهي كوبنهاغن، أدرك كريستن أنه يستطيع مسامحة حبيب زوجته الجديد. وبدل كوب من القهوة، ارتشفا أكواباً عدة وطال الحديث بينهما ساعات.
في طريق العودة إلى المنزل، ذُهل كريستن حين أدرك أن غضبه وحزنه تبددا. لكن الأفضل من ذلك شعوره بتحسن حالته الجسدية للمرة الأولى منذ أشهر. فضلاً عن أنه في تلك اليلة، نام عميقاً واستيقظ بذهن صافٍ وجسم مسترخٍ. يقول: «شكّلت المسامحة هدية عظيمة قدمتها لنفسي». وهي حقيقة كشفتها بحوث جديدة مفادها أن المسامحة تشفيك عاطفياً وجسدياً.
نعتبر المسامحة غالباً أمراً نقوم به لخير الآخر، لكنّ بحثاً جديداً يُظهر أنها لا تقتصر على ذلك. يذكر الدكتور روبرت إنرايت: «عندما يعرب الإنسان عن المسامحة، تبدّله جسدياً». وبصفته مؤسس معهد المسامحة الدولي وله كتابان بعنوان The Forgiving Life (حياة المسامحة) و8 Keys to Forgiveness (مفاتيح المسامحة الثمانية)، يُعتبر إنرايت رائداً في مجال دراسة قوة المسامحة خلال العقود الثلاثة الماضية.

يوضح: {تساعدك المسامحة في التخلص مما ندعوه الغضب السام، علماً أن نوع الغضب هذا قد يقتل الإنسان فعلاً}.

في دراسة نُشرت في مجلة Psychology and Health، تفحّص إنرايت وفريق من الباحثين تأثيرات المسامحة في مرضى القلب الذين يعانون مرض الشريان التاجي، فاكتشفوا أن الذين أعربوا عن المسامحة حظوا بتحسن كبير في تدفق الدم القلبي، حتى بعد أربعة أشهر من عملية المسامحة.

في دراسة أخرى، تناولت شارلوت فان أوين فيتفليت، بروفسورة متخصصة في علم النفس في جامعة هوب، تأثيرات عاطفية وجسدية يختبرها مَن يتمسكون بذكريات مؤلمة ويؤججون الحقد في داخلهم.

عندما تذكّر المشاركون في الدراسة أحقادهم، ازداد جسمهم تنبهاً إلى حد كبير: ارتفع ضغط دمهم ومعدل نبض قلبهم، وصاروا يتعرقون بغزارة. كذلك أكّد المشاركون أن التفكير في أحقادهم أمر مزعج ويجعلهم يشعرون بالإجهاد.

ولكن عندما طلبت فيتفليت من المشاركين محاولة التعاطف مع المسيئين إليهم أو تخيل أنهم سامحوهم، تمتعوا بسيطرة أكبر على جسمهم وتراجعت ردود الفعل الجسدية التي اختبروها نتيجة الإجهاد. وجاءت النتائج التي توصلت إليها الباحثة مطابقة لما تكشفه دراسات أخرى عن أن ردود الفعل المزمنة الناجمة عن عدم المسامحة تقوّض الصحة، في حين أن ردود الفعل الناتجة عن المسامحة تحسّنها.

على سبيل المثال، تُظهر دراسة قدّمتها عام 2011 الجمعية الأميركية للطب السلوكي أن المسامحة تساهم في الحد من الأرق. كذلك أشارت دراسة أخرى أجراها مركز جامعة ديوك الطبي في كارولاينا الشمالية في الولايات المتحدة إلى أن المسامحة تعزّز جهاز المناعة لدى مرضى فيروس نقص المناعة البشري. وفي كل سنة، تكشف بحوث جديدة أن المسامحة تساهم في شفاء شتى العلل، من الأرق إلى الأمراض الناجمة عن الإجهاد.

تجربة قاسية

انقلبت حياة روزالين بويس رأساً على عقب عام 1999 حين اقتحم رجل منزلها في لندن واغتصبها فيما كانت ابنتها البالغة من العمر سنتين تنام في الغرفة المجاورة. أُلقي القبض على الفاعل، وهو مغتصب متسلسل، بعد ثلاثة أسابيع وأصدرت بحقه المحكمة ثلاثة أحكام بالسجن المؤبد.

ولكن بالنسبة إلى روزالين، لم ينتهِ الكابوس. ملأت ذكرى الاعتداء عقلها باستمرار، حتى إنها اضطرت إلى الانتقال للعيش في منزل عائلتها لتهرب منها. كذلك صعُب عليها تناول الطعام. شخّص الأطباء إصابتها باضطراب الإجهاد ما بعد الصدمة والكآبة التفاعلية ووصفوا لها المهدئات.

مع تراجع صحتها العقلية والجسدية، أدركت روزالين أن عليها أن تشفي نفسها. ومن خلال العلاج النفسي، اكتشفت أن الطريقة الوحيدة لبلوغ الهدف مسامحة المعتدي.

تكتب روزالين: «عنت المسامحة بالنسبة إلي أن أقطع هذا الرابط مع مغتصبي وأن أحرر نفسي من جريمته. وعندما قررتُ رؤية المسامحة من هذا المنطلق، أزلت عبئاً كبيراً عن كاهلي».

عام 2014، تمكّنت روزالين من مقابلة المعتدي ومسامحته ضمن إطار برنامج قضائي إصلاحي. قالت عقب اللقاء: «شعرت بعد ذلك بالغبطة. ما عدت أفكر في الاغتصاب. اختفت هذه الأفكار فجأة».

عدسة أوسع

يملك قليلون فهماً واضحاً عن المسامحة بقدر مارينا كانتاكوزينو. تتولى هذه الصحافية السابقة إدارة «مشروع المسامحة» الذي أسسته، وهو موقع إلكتروني وسلسلة عروض يستخدمان قصصاً شخصية من حول العالم، بما فيها قصة روزالين، لدراسة حدود المسامحة واحتمالاتها.

تقول كانتاكوزينو، مبدِّدةً فكرة أن المسامحة تعني النظر إلى التجربة القاسية كأمر مقبول: «لا تشير المسامحة إلى غض النظر أو تقديم الأعذار والمبررات». ومن المفاهيم الخاطئة الأخرى عن المسامحة فكرة أنها تحتاج إلى التصالح مع المعتدي، إلا أن ذلك غير صحيح. تستطيع أن تسامح من دون أن تستأنف العلاقة مع المسيء. بدلاً من ذلك، تتطلّب المسامحة وضع الماضي في إطار مختلف: رؤية الحادثة والمسيء من خلال عدسة أوسع أكثر تعاطفاً.

توضح الباحثة أيضاً أن المسامحة لا تعني التخلي عن الحق في تطبيق العدالة. يمكنك أن تسامح أحداً. رغم ذلك، يجب أن يدخل السجن ويدفع ثمن فعلته. تخبر كانتاكوزينو أن تعريف المسامحة المفضل لديها سمعته ذات مرة من أحد السجناء: «تقوم المسامحة على التخلي عن الأمل بماضٍ أفضل».

محاربة السرطان

عندما انتقلت ألكسندرا العسيلي من لندن إلى لبنان عام 1999 ورأت بلدها ممزقاً نتيجة 15 سنة من الحرب الأهلية، وقفت مذهولة أمام قدرة البشرية على ممارسة العنف.

توضح عالِمة النفس هذه: «كان من الضروري أن أسامح مَن حوّلوا لبنان من مكان جميل إلى بلد محطّم». لذلك قررت أن تمضي الوقت مع رجال كانوا مقاتلين عنيفين شاركوا في هذا الصراع. تقول: «عندما نجحتُ في رؤيتهم كأناس لا كوحوش، أدركتُ أنني تجاوزت امتحاني».

عام 1984، ساهمت العسيلي في تأسيس مركز الدراسات اللبنانية في جامعة أكسفورد بإنكلترا، حيث تأمل أن تروّج للمسامحة كأداة للشفاء. تخبر هذه العالِمة أنها تقابل خلال عملها أناساً مرضوا فعلاً. على سبيل المثال، تصف حالة امرأة تعيش في روما بقيت مع زوجها الذي يخونها طوال سنوات وتعاني اليوم سرطاناً مميتاً.

تذكر: «تشعر بالمرارة دوماً، وأعتقد أن شعورها سبب مرضها»، مع أن العسيلي تقرّ بأن الرابط بين الغضب والسرطان لم يُثبت علمياً بعد.

لكن الوضع قد يتبدّل قريباً. قرر إنرايت التعاون مع عالِم أورام سلوفاكي يُدعى بافيل كوتوتشيك في دراسة هدفها تحديد ما إذا كانت المسامحة تساهم أيضاً في محاربة السرطان. يؤكد كوتوتشيك أنه عاين حالات عدة في سلوفاكيا وإنكلترا بدا فيها أن المرارة، التي يشعر بها المريض، تكبح جهازه المناعي. ويضيف: «ثمة أدلة قوية على أننا نستطيع التحكّم في السرطان، إذا نجحنا في تحسين جهاز المريض المناعي».

ستُجرى الدراسة في مختلف أرجاء أوروبا من خلال منظمة شاملة تُدعى «مرضى الورم النقوي في أوروبا»، وستُقدِّم لمرضى السرطان علاج مسامحة موجَّهاً، فضلاً عن العلاج التقليدي، مثل زراعة الخلايا الجذعية ونقي العظم، والعلاج بالأشعة، والعلاج الكيماوي.

التخلّص من الغضب

اكتشفت أزاريا بوتا، مساعِدة مدرّس في الثالثة والثلاثين من عمرها من فانكوفر بكندا، قوة المسامحة الشفائية بعدما نشب خلاف بينها وبين إحدى أعز صديقاتها.

حدث ذلك في صيف عام 2004. كانت أزاريا تقوم برحلة متنقلةً مع إحدى أقدم صديقاتها في مختلف أرجاء أوروبا وهما تحملان أمتعتهما في حقيبتين على ظهرهما. انطلقت الشابتان في الرحلة وكلهما حماسة وفرح. عبرتا المملكة المتحدة قبل أن تصلا إلى باريس. لكن أزاريا علِمت من صديقتها في هذه المدينة أنها ستنفصل عنها وستمضي أسبوعاً مع صديق لها.

شعرت أزاريا باستياء عارم وصدمة كبيرة. أمضت الأسبوع وحدها في باريس، وكان الغضب وخيبة الأمل يعتملان في داخلها. كذلك أُصيبت بصداع أليم وتلبكات معوية. ورغم عودة صديقتها إلى باريس بعد أسبوع وإمطارها بالاعتذارات، لم تستطع أزاريا التخلص من غضبها.

عند العودة إلى فانكوفر، ما كان غضب أزاريا قد خبا، شأنه في ذلك شأن نوبات الصداع وآلام المعدة. ولم تستطع هذه الشابة أن تنعم بصفاء البال وتستعيد شهيتها إلا بعدما رجتها صديقتها الصفح عنها، بكتا، وتصالحتا. عندئذٍ تمكنت أزاريا من التوصل إلى استنتاج مهم: كان غضبها سبب مرضها. تخبر: «شعرت بأنني أكثر خفّة. شكّل التخلص من غضبي الخطوة الأولى».

آراء الخبراء

يشدد الخبراء على أن ما من مسار محدد للمسامحة. تشير كانتاكوزينو: «يختلف مسار المسامحة باختلاف الأشخاص». على مر السنين، يقرر بعض مَن أنهكتهم الكراهية القيام بالتغيير بملء إرادتهم. في المقابل، قد يلتقي آخرون شخصاً مثل المسيء أو يشاهدون برنامجاً تلفزيونياً يدفعهم إلى تبديل نظرتهم إلى الوضع برمته، وفق هذه الباحثة.

يوافقها إنرايت الرأي، مشيراً إلى أن المسامحة قد تأخذ أشكالاً عدة. إلا أنه يؤكد أيضاً أنها تبقى في شكلها الأساسي عمل خير تعرب عنه تجاه شخص أساء إليك.

يضيف: «قد تتخذ المسامحة شكل الإعراب عن الاحترام للمسيء، الرد على اتصاله الهاتفي، أو التحدث عنه بكلام إيجابي أمام طرف ثالث. لكن المعضلة تكمن في أنك، عندما تتحلى بالرحمة في التعامل مع شخص لم يُعرب عن هذه الصفة تجاهك، تشفى عاطفياً وأحياناً جسدياً».

المسامحة لا تعني التخلي عن الحق في تطبيق العدالة
back to top