الواقع الافتراضي... تداعياته على الحياة العائلية

نشر في 05-11-2016
آخر تحديث 05-11-2016 | 00:00
No Image Caption
ظهرت حديثاً خوذات تستطيع اصطحابنا إلى عالم آخر. للوهلة الأولى قد تبدو هذه التجربة مثيرة للاهتمام، لكن بعد اختبارها يسهل أن نشكك بها ونقلق من تداعياتها في حياة أولادنا.
تسمح خوذة Samsung Gear VR الجديدة باستكشاف عوالم مختلفة ويسهل أن يدمن عليها الأولاد مع أنها لا تناسب من هم دون الثانية عشرة.

شاهد جيل الراشدين الراهن تطور مسار التكنولوجيا بسرعة البرق ولم يقاومها. منذ ظهور أول هاتف خلوي ضخم وصولاً إلى ابتكار أخف حاسوب محمول، مروراً بالأدوات الرقمية التي تراقب مؤشرات الصحة، يقتني عدد كبير من الناس هذه الابتكارات كلها وينبهرون بمستواها التقني ونواحيها الجمالية كونها تقرّبهم من أقاصي العالم وتسهّل استكشاف المعلومات وتختصر الوقت بفضل وسائل تزداد سلاسة ومرونة.

صحيح أن التكنولوجيا وسيلة قوية وحسّية، تسمح لجميع الناس بتغيير وضعهم وتقدّم بدائل {خارقة} عن التجارب التي اعتاد عليها البشر. لكن يسهل أن نرتعب من الحدود الجديدة التي تجاوزتها خوذات الواقع الافتراضي كونها تعزّز المخاوف من أن يفقد الواقع معناه.

لم يهمّش اختراع التلفزيون الراديو! لماذا نخشى إذاً أن ينسف الواقع الافتراضي الواقع الحقيقي؟ أصبح الواقع الافتراضي أكثر من أداة بسيطة تُستعمل لاستبدال أدوات أخرى. تقترح علينا التكنولوجيا أن نودّع الملل والمشاكل والإحباط والخيبة ومختلف الهموم اليومية.

أصبح واقع الحياة مرادفاً للمظاهر السلبية بينما تحوّل الواقع الافتراضي إلى أداة تضمن السعادة والمتعة والاكتشاف ولا تترك أي وقت فراغ للتفكير، مع أن ذلك الوقت كان يسمح بالنمو وتطوير الرغبات والتكيّف مع الخيبات.

يدّعي الواقع الافتراضي تحسين الحياة. في هذه الظروف، كيف يمكن أن نشرح لأولادنا قيم الجهد والشجاعة والصبر؟ كيف نعلّمهم أن يحبوا الحياة بمصاعبها وأوجاعها كافة إذا كانوا يستطيعون الاكتفاء بوضع قناع كي يستكشفوا المغامرات من دون مواجهة أبسط المخاطر؟ باختصار، يرتكز الواقع الافتراضي على مبدأ {تدليل} الناس على مرّ حياتهم.

هل له إيجابيات؟

يمكن أن نبحث عن بعض الإيجابيات لمكافحة هذا القلق المستجد من الواقع الافتراضي:

أولاً، لم ننتظر ظهور الخوذات الجديدة كي نغرق في الواقع الافتراضي، إذ لطالما كان جزءاً من طبيعتنا وحياتنا. يمكن أن نتواجد في هذه اللحظة مع أولادنا ونتذكر في الوقت نفسه مسار عطلتنا أو نخطط للعطلة المقبلة. تشكّل الذكريات، مثل جميع مظاهر التخيّل، تجربة طبيعية للواقع الافتراضي. قد تبث فينا تلك التجربة مشاعر الحنين لكنها لا تبعدنا عن خصائص الزمن الحاضر.

ثانياً، لا يكون الواقع الافتراضي مجرّد وسيلة للهرب من واقع الحياة بل إنه يعطيه طعماً مختلفاً. في اللحظات العصيبة، تقترح علينا الخوذة الجديدة أن تُرَفّه عنا وتبهرنا وتكشف لنا عن روائع العالم. سرعان ما تصبح الخوذة أداة للسفر ووسيلة لمكافحة الإحباط، لكن من دون الآثار الجانبية التي تسببها مضادات الاكتئاب الشائعة!

ثالثاً، تسمح هذه الوسيلة بتجاوز حالات الإنكار التي نعيشها بدل أن ترسّخها.

رابعاً، تقدّم لنا هذه التكنولوجيا لحظات من العزلة لكنها تمهّد لتعزيز التضامن مع الآخرين لاحقاً. يمكن أن يستفيد منها الأطباء مثلاً حين يستطيعون معالجة المرضى عن بُعد عبر الاستعانة بطبيب آخر. وقد ينجح المدافعون عن الطبيعة في توعية مسبّبي التلوث عبر الرحلات الافتراضية. في مجال علم النفس، يمكن ابتكار تطبيقات تسمح بتقمّص شخصية إرهابي لفهم نفسيته أو لاجئ لفهم مخاوفه. سبق وانطلقت تجربة مماثلة لتوعية الدول حول خطورة الوضع في سورية: أنتجت الأمم المتحدة فيلماً يصطحب مستخدمي الخوذة إلى عمق مخيّم للاجئين. يضمن هذا النوع من التجارب تعزيز مشاعر التعاطف والسخاء، ما يثبت أن الواقع الافتراضي يستطيع تعزيز الانفتاح على العالم والآخرين.

نسخة من العالم الحقيقي

تسمح هذه التكنولوجيا بالغوص في حقائق متزايدة لكنها لا تعبّر مطلقاً عن {الواقع} الفعلي بل تعكس شكلاً من المحاكاة. يطرح العالم الافتراضي جزءاً من الواقع لكنه غير حقيقي بل بديل للواقع الملموس. لم يعد يهدف إلى التقليد والنسخ بل أصبح بديلاً كاملاً عن الواقع ويعمل على إبعادنا عن العالم الحقيقي عبر استعمال مؤشرات ذلك العالم. أو يمكن اعتبار الواقع الافتراضي نسخة من العالم أو واقعاً مضخّماً حيث يجد الفرد حوافز قوية تخلو من الضوابط والمخاطر التي يفرضها عليه واقع الحياة. يسهل أن نستنتج أن هذا العالم {شبه} مطابق للواقع الذي نعيشه.

على صعيد آخر، تحبسنا الصور أو تجربة {محاكاة} الواقع في سجن الجهل، فيما تُعتبر المعرفة شرطاً أساسياً لاكتساب الحرية لأنها تسمح لنا بالخروج من عالم الأوهام. سنتعلّم بفضلها أن نميّز بين الخطأ والصواب وبين الواقع والخيال وسيزيد اندفاعنا للبحث عن الحقيقة بدل الاكتفاء بالنسخ المزيفة أو الأحكام المسبقة.

إنها ركيزة ثقافية مهمة لضمان استمرارية قيمنا الجوهرية.

يحبّ الأولاد حتى الآن اللعب والركض في الهواء الطلق، لكن حين يصبحون في سن المراهقة ويصبّ تركيزهم على عيوبهم الجسدية أو يلاحظون حدود معارفهم وحياتهم، يمكن أن يجدوا ملاذاً في الواقع الافتراضي. بدل أن تتعلّم المراهِقة أن تحب نفسها، قد تتخيل لبضع لحظات أنها تتمتع بجسم مشابه لجنيفر لوبيز! وقد يتخيّل المراهق أنه محارب قوي في ألعاب الفيديو! قد تكون هذه الطريقة أفضل من اللجوء إلى المخدرات أو الكحول!

الهرب نحو عالم مزيف؟

ألا يشتق الضغط النفسي والقلق الجنوني من هذا الانفصال بين الواقع المعيوش والمشاعر والخيال؟ لا عجب في أن تكون ممارسة التأمل فاعلة جداً لمكافحة الضغط النفسي كونها تدفع الجسم والعقل إلى عيش الحاضر. لا يكون الواقع الافتراضي من جهته {آنياً} بل يجعلنا نعيش لحظة {واقعية} لكنها لا تحصل في الزمن الحاضر. حين نلجأ إلى ذلك العالم للتحرّر من جحيم الحاضر، ستتخذ أرواحنا وجهة خاطئة. وكلما حصلنا على فرصة الهرب من الحاضر، ستتراجع قدرتنا على التحكم به وتقبّله، ما يعني أن التكنولوجيا بكل قوتها ستُمعِن في إضعافنا!

التكنولوجيا تقترح علينا أن نودّع الملل والمشاكل والإحباط والخيبة ومختلف الهموم
back to top