كل شيء خفي

نشر في 29-10-2016
آخر تحديث 29-10-2016 | 00:04
 جري سالم الجري بدأت المحاضرة في قاعة المحاضرات بدايتها الرتيبة العادية، إلى أن بدأ التمرد على المنهج، إذ سأل سائلٌ بسؤال واقع، لآذان الحضور ليس له دافع، فقال للبروفيسور: "تتوارد على الذهن تساؤلات كثيرة عن مواد الوجود ومعاني الوجدان، فما الفرق بينهما في حياتنا؟ وأنا متأكد أن البشرية عرفت عنهما كل ما يمكن أن يعرف فما الفائدة من المزيد من الطلاب والمحاضرات؟

أجاب الدكتور: "إن سؤالك خارج المنهج، ولكن أقول لك: ما المواد إلا الأشكال التي تعطي وجودنا كثافة وكتلة وحجماً ملموساً ومحسوساً، وما المعاني إلا المقصد أو حسب العبارة، هي الحكمة خلف وجود كل ما هو موجود بالوجود، فعلى سبيل المثال مادة الدماغ ككتلة ليست سوى مركبة للعقل، والكون كمسرح تتجلى فيه آيات بديع السماوات والأرض.

سأجيبك بقصد إطلاق الوعي لآفاق جديدة في رحلة تأملية في كل شيء خفي... فيزياء المجرة والذرة تتخللهما ذات القواعد الديناميكية الموحدة والمحكمة، ومهما سعينا في التناهي بالكبر أو الصغر، يظهر لنا أنه دائما يكون هنالك شيءٌ أكبر من أكبر ما اكتشفناه، ودائما هنالك شيء أصغر من أصغر ما اكتشفناه. ولكي أوضح بالمثال غرابة هذه الأقوال أقول: في السابق تصور البشر أنهم حبيسو عائلة شمسية هائلة الحجم فحسب، فإن أبعد نجم عن كوكبنا الأرضي بيننا وبينه 27 سنة ضوئية، أي أن الضوء بسرعته التي تكون 299.792 كم/ث يحتاج سبعاً وعشرين سنة لكي يصل إلى أقرب نجمة لنا ولعائلتنا الشمسية، فما بالك بحجم الفضاء؟".

وتابع الدكتور: "ثم اكتشفنا بعد ذلك وجود 200 مليار نجمة في مجرتنا، والمجرة هي مَحضن العوائل الشمسية، ناهيك عن وجود العنقود، وهي مجرد كُرة تشمل مليون مجرة، لكنها تدور حول سلسلة عناقيد من المجرات التي تُشكل ما يسمى بعلم الفلك، وهي سلاسل من عناقيد المجرات التي تحوي الأسر الشمسية الحاوية شموساً تدير الكواكب التي يحوي بعضها الماء الذي منه كل شيء حي، فالمخلوقات فالبكتيريا فمخلوقات متسلقة على البكتيريا إلى عواليم النانو، ثم الذرات ثم البروتونات ثم الكوروموزونات ثم خيوط الطاقة وما خفيَ أعظم.

وما هذا سوى ما عِلمنا عن المادة، فما بالكم بعالم المعاني؟ فقصة قصيرة واحدة تتفجر منها نظريات تربوية وتقييمات اجتماعية فكيف بالرواية والسيناريوات؟ بل كيف بعِبر أحداث التاريخ؟ وحِكم الأقدار والقضاء؟".

فرد الطالب: "كان جوابك شافياً ووافياً".

عقّب البروفيسور: "حقا، إن كل شيء هو حاو خفايا يبصرها العالمون، فهم الذين يخشون الله، لتجلي آياته على بصيرتهم والتي تخفى عن الجاهلين، سواء أكان علمهم باللغات أو المنطق أو التاريخ كعلوم معان، أو علوم مادية مثل الكيمياء والفيزياء. ولن ينال التبصر بهذه الآيات المتدين المتعصب الذي يعتبر الدنيا لم تخلق لدين فيطلقها بعلومها للكافر لكي يسبقه ويهيمن على طبهِ وسلاحهِ واقتصادهِ وإعلامهِ، فلا يكون له عليه سلطان كما كان من زمان، لا تسجلوا هذا في ملخصاتكم، ولا تخافوا يا طلابي، الكون كله لن يكون بالاختبار. أردت أن أشجعكم للعِلم فحسب".

وسط صمت الطلاب تابع البروفيسور محاضرته بالمنهج الرتيب، ولكن كم كانت تلك الخُطبة خفية لولا تمرد ذلك الطالب!

قال تعالى: "فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ* وَمَا لَا تُبْصِرُونَ".

back to top