تكوين الشرف... حضري أم بدوي؟

نشر في 15-10-2016
آخر تحديث 15-10-2016 | 00:03
 جري سالم الجري بالوعي يتقبل المجتمع نفسه، وما المجتمع سوى عوائل وقبائل ارتضت نظاماً يُضبط به سلوك أفرداها بتهديده بالعار وتشجيعه على الشرف، "تشوش" ذهني في تلك الحقيقة عندما سألني صبيٌ وأنا في السادسة في عمري "أنت حضري أو بدوي؟"، توترت واحترت، كيف يتحمل مجتمع واحد نظامين؟ وأيهما الأهم في زمننا؟ وبأيهما أصرح عن انتمائي؟

سألت الناس عن هذه الكلمات "الشرف والقبيلة والتحضر" فوجدتهم يهرعون للتعبير عن انتماءاتهم دون جواب منطقي، فممَّ يتكون الشرف الذي به يتشبثون وعلى موجبه ينتمون؟

كل الحضارات تنطلق من البادية كنقطة بِداية، فالأتراك بدويهم مزارع زهور، وبدوي اليابان يعتاش على الطحالب النهرية، والهنود بدويهم يأوي إلى كوخٍ في الأدغال، والعرب بدويهم يرعى الإبل والأغنام، كرسول الله- صلى الله عليه وسلم- القرشي الأصيل الذي تعمد بنو هاشم أن يتركوه عند البادية طفلاً ليترعرع على بلاغتَي القولِ والعملِ، فالبداوة هي الصفاء والنقاء من تعقيدات التحضر وأمراضه.

وكذلك مثل الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد سماعه "اقرأ"، وبعد أفواج المؤمنين الذين اتبعوه، ودستور المدينة المنورة الذي دَعا له كأمثل منهج مدني عرفته البشرية، غَدت حياته المجتمعية أشد تعقيدا بسبب تمازج القبائل وتداخل الشعوب تحت وطنٍ إسلامي متحضر. تُعقد مجالس الشورى فيه لأجل الخَرَاج والمحاصيل ودراسة دهاليز السياسة والاقتصاد، ناهيك عن الجلسات القضائية لسلوكيات اجتماعية، فلم يبق أعرابي إلا أمروه بالمعروف ونهوه عن المنكر.

جلافة الأعرابي وقسوته على الأطفال والزوجات لقيتا نهياً، إلى أن أوصلوه إلى لباقة "البسملة" قبل الطعام، والأكل بأطراف الأنامل، وشرب الماء بثلاث جرعات، بخلاف المثل "كُل أكل جِمال وقوم قومة رِجال"، لكنني لم أزل أحار في ماهية الشرف، وما إذا كنت بدوياً أم حضرياً؟ فالشرف حُكمٌ يصدره المجتمع، لكن مَن الشريف عند البدو؟ ومن هو عند الحاضرة؟

الحضاراتُ في بدايتها تتشكل من تآزر جماعة من البدائيين، بالمعنى الإيجابي، حيث الفطرة، وخصوبة العقول وسعة الصدور لتبني أي دستور. يتسمون بالتدينِ والرحابةِ والضيافة، والوقتُ لا يعني لهم الكثير، فلا أمراض قلق ولا اكتئاب، بل يَمرض الطبيب النفساني إذا عاش عندهم لفرط شفافيتهم البريئة، التي لا تكبت المشاعر لتحولها إلى ألغاز اللاوعي التي تُحل بنظريات نفسانية يُتلفها البدو كل مرة. كما أوضح سيغموند فرويد حينما عَلل مشاكل مشاعرنا بسبب انقضاض الرأسمالية على النواة الأسرية، ولكن المَدَنية لها نظام عقلاني وإنتاجي، يصنع الاقتصاد ويصرف رواتب الشعوب ويوفر التعليم، بل يُشيد منشآت دينية بتأسيسات عِلمية عالية، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ولكن من الأشرف؟

كتاب "العرب... وجهة نظر يابانية"، يقول فيه الباحث الياباني الذي عاش بكل أرجاء الوطن العربي لأكثر من 30 عاما نوبوآكي نوتوهارا، إن البدو والحضر حلقتا سلسلة واحدة، فالعرب كلهم بدو الأساس. والبروفيسور التونسي محمد الحبيب المرزوقي أوضح أن التحضرَ مرحلة نمو ضرورية لتحكيم ضوابط الدين المَدنية ولتحقيق الحَضارة الإسلامية حيث الأشرف هو الأتقى.

ونحن في زمنٍ لا يعرف ثالث جيل فيه معنى "صُهيب"، والمواطنون الحاملون لبطاقات مدنية لم تمسخهم لعرقٍ آخر، فالحضر دائما وأبدا عرب بأصالة رمل الصحراء، والساعي لكشف الاختلافات بينهما يكون كمن يريد التفريق بين سعف النخلة وجذعها، ولكن ما زلت أتذكر زميلي يسألني "أنت حضري أم بدوي؟"، وأنا إلى يومي هذا لم أُجب.

فشرفهم واحد بنظام موحد، نتقولب فيه حسب ظروف الزمان لا المكان، كما قال صحابة الرسول "لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، لكنني لم أصل لجواب مُشبع لأعرف مم يتكون الشرف؟

الشرفُ الاعتلاء، حيث يرتفع مُحسنهم بسلمهم الاجتماعي فيطلعونه على شؤونهم كلما ازداد تشريفا، ومكنوه من أن يطول قراراتهم، والمجتمع يُخفض المنحط السافِل بأخلاقه، إلى قاع المجتمع، حيث لا يشرف بَصره على شؤونهم ولا يطول زمام أمورهم، ولكن كيف تكوّن الشرف؟ تكوينه بدوي الجذور حَضريّ الفروع، فالبداية بسيطة والتطورات غير ذلك. فيبدو أنني بدوي الأصل حَضري المَدَنية، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "البدو هم أصل العرب ومادة الإسلام".

back to top