انتقام الصحافي مسعود عقيل...

لاجئ سوري يساعد الألمان على ملاحقة عناصر «داعش»

نشر في 13-10-2016
آخر تحديث 13-10-2016 | 00:04
عانى الصحافي مسعود عقيل في سورية الأمرين من عذاب وتهديدات بالقتل حين كان سجيناً معتقلاً لدى «داعش». وها هو اليوم في ألمانيا ودوره الأساسي مساعدة قوى الأمن الألمانية على مطاردة عناصر سابقة من التنظيم، نجحت في التسلّل إلى الأراضي الألمانية مع قوافل اللاجئين. «شبيغل» تحكي لنا قصة هذا الصحافي المشوقة.
في ذروة عملية المطاردة التي ستعيد لمسعود عقيل حريته المنشودة، يقف محكماً قبضة يديه وكاتماً نفسه بحذر. إنه مختبئ في مرأب للسيارات وراء فسحة كبيرة تُستخدم للمصانع في بافاريا. ينظر متلصلصاً من خلف السيارات. يرى نزلاً لللاجئين يساراً، ومتجراً لبيع الأحذية قربه، ورجلاً مقبلاً على دراجة في الشارع المقابل. هل هو فعلاً الإرهابي الذي يعرفه؟

ينحني قدماً ليتسنى له الاطلاع على ملامح الرجل عن كثب. يرى ندبة كبيرة على جبينه. «إنّه هو الحيوان! يا إلهي إني أتذكّره جيداً!» يهتف عقيل. لا يلبث الرجل أن يتّجه نحو النزل. سبع ساعات أمضاها عقيل منتظراً هناك إلى أن وصل الرجل. خلال انتظاره كان يتمتم جملاً حول الثأر وضرورة إشباع كرامته بما يبعد عنه مهانة الشعور بأنه كان يوماً ما ضحية. ولكنه لا يلبث أن يتراجع في خطواته. لوهلةٍ عاد السجين رقم 6015، المعتقل لدى «داعش» والمهدد بالقتل الوحشي. عمل الإسلاميون بجهد حثيث لتمريغ كرامته وعذبوه أشدّ تعذيب. قالوا له إنهم سيقطعون رأسه كحيوانٍ وسخ. عقيل صحافي كردي من سورية في الثالثة والعشرين من عمره. اختطفه «داعش» وبقي في سجون التنظيم المظلمة ما يربو عن ٢٨٠ يوماً إلى أن أُطلق سراحه ضمن صفقة لتبادل الأسرى هرب بعدها إلى ألمانيا.

لكنّ أهوال سورية ما لبثت أن طاردته الى أراضي أوروبا الهانئة. وقع عقيل فجأةً على رجل كان من الطرف الآخر من عناصر «داعش» الدمويين. ها هما اليوم معاً. لاجئان في ألمانيا، الضحية والجلاد تحت السقف نفسه، أحدهما في شمال ألمانيا والآخر في جنوبها. يؤكد السيناريو هذا أنّ بعض اللاجئين حمل أهواله معه إلى ألمانيا، ولا شك في أنه دليل ساطع على صعوبة تمييز المحققين الألمان بين المجرمين وضحاياهم.

أسباب للخوف

غالباً ما يطلب الناس التكتّم عن اسمهم في أحوال كهذه، ولكن عقيل بقي مصراً على استخدام اسمه الحقيقي. يريد أن يبرهن ألا سطوة للإرهابيين عليه هنا. ولكنه ما زال مرعوباً وهو مؤمن بضرورة الخوف حتى هنا في ألمانيا. لذلك تراه لا يتوانى عن تقديم العون للسلطات الأمنية لملاحقة الإرهابيين.

عقيل من القامشلي السورية، الواقعة في شمال سورية وذات الغالبية الكردية. كان أبوه مزارعاً للقمح ومالكاً لأراضٍ شاسعة، فيما كانت والدته ربة منزل تقضي معظم وقتها في الطبخ لعائلتها. كانت حياةً هنيئة، وفق رأيه.

انتقل عقيل إلى حلب لقصد الجامعة، حيث تسجّل في كلية الأدب الإنكليزي وأمعن في قراءة كتابات إرنست هيمنغواي ووليام فوكنر ليعود إلى القامشلي في العام 2013 بعدما قُصفت الجامعة. دبرّ له أحد الأقارب وظيفةً في محطة الأكراد الإذاعية. كان يجري مقابلات مع الضباط الأكراد ويكتب عن الحفلات في المدينة وعن السياسة. ولما كان ذكياً وسريعاً، فوجد العمل مهمةً سهلة. وكان يتمتّع بحريته في أوقات الحرب على قدر ما أتيح له ذلك.

ولكن الحياة الهادئة تلك ما لبثت أن انقلبت رأساً على عقب في منتصف ديسمبر 2014. كان هو وزميله فرهد هامو على موعد في مدينة «تل علو» لإجراء مقابلة مع أحد قادة المحاور الكردية على تخوم منطقة تسيطر عليها عناصر «داعش». كان هامو يقود السيارة فيما يغفو هو على المقعد الخلفي. شعر بعد ساعةٍ بيد زميله تهزّه بعنفٍ كي يستيقظ. فتح عينيه ليرى مجموعة من 50 رجلاً على بعد خمسين متراً منهما. كانت تلك وحدة هجوم تابعة لـ{داعش».

لاحقاً في السجن راح عقيل يكرّر المشهد الذي سبق إلقاء القبض عليهما من «داعش». لو أنّهما ملكا ما يكفي من الوقت للانعطاف بالسيارة في الاتجاه المعاكس. لو فعلا لما كانا في هذه المصيبة الآن! ولكنه بقي في تلك اللحظة مسمّراً في مكانه وكأنّه مشلول لا يقوى على الحراك. اقترب أحد عناصر «داعش» من نافذة السيارة مخاطباً إياه بغضبٍ: «من أنتما؟ وماذا تفعلان هنا؟ إلى أين تذهبان؟» صاح بهما. كان يرتدي سترة خُصّصت للانتحاريين ويغطي وجهه بقناعٍ أخضر ويحمل بندقية «إم 16». يقول عقيل: «كنا نملك معدات صحافية في السيارة: ميكروفونات وكاميرات في الصندوق. ما كنا نستطيع إنكار ذلك. كل ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظة هو أنه ما كان يجب أن نكون موجودين هناك!».

تعذيب وألم

اقتاد الإسلاميون عقيل وزميله الى مدرسةٍ كانوا يستخدمونها كسجن. عصبوا عينيهما وأوثقا يديهما وراحوا يبرحانهما ضرباً، ثم يسحلونهما على الأرض بحبل. «خلتُ أنني سأموت»، يقول عقيل.

أراد الإرهابيون أن يعرفوا من أين أتيا، وكم من الوقت مرّ على عملهما كصحافيين، وما إذا كانا من وحدة حماية الأكراد، وهي أحد ألد أعداء «داعش».

فتح الإسلاميون كومبيوتر عقيل النقال. تفحّصوه بتمعّن. لكلّ تغريدة «تويتر» أرسلها كانوا يضربون قدميه العاريتين بقضيبٍ من خشب. بلغ عدد التغريدات 154 تغريدة.

في اليوم التالي حين أتى أحد عناصر {داعش} لسحبهما من زنزانتهما صاح عقيل به مستفسراً: {ما الذي سيحصل بنا؟}. ردّ عليه بضحكة صفراء فيما راح يمرّر أصابعه على عنقه: {ماذا سيحصل بكما برأيك؟ سنقطع رأسيكما طبعاً!}.

اصطحبهما إلى محكمة الشريعة التي كانت منعقدة في فضاء رحبٍ أمام جمع من العناصر الإرهابية المبتسمة بمكرٍ. أمرا بالركوع وما زال يذكر كم كانت فرائصهما ترتعدُ فيما شعرا برطوبة الأرض تحتهما وبالريح تلفح وجهيهما. كانا معصوبي العينين ولكنهما أدركا من الأصوات الصادرة أن عدد الإرهابيين ما كان يتجاوز العشرة. كانت نبرة القاضي عاليةً وقاسية وكان في معظم الأوقات يصرخ متوعّداً: {اقتلوا هذين الشيطانين الآن... فوراً}.

ما لبث أن رمى بهما الإسلاميون في السيارة. خاطب عقيل زميله هامو بهمسٍ خافتٍ: {علينا أن نتحلّى بالشجاعة يا أخي لقد أذن وقتنا!}.

ولكن السيارة لم تتجه بهما نحو الصحراء بل نحو بلدة الشدادي على بعد ستين كيلومتراً، ثم توقفت أمام سجنٍ صغير. يبدو أن ثمة من اعتقد أن بقاءهما على قيد الحياة أفضل بكثير من تحويلهما جثتين هامدتين. في الشدادي، أُلبسا ثياباً برتقالية وزجّ بهما في زنزانة صغيرة مع أربعة رجال آخرين. كانت رائحة العرق والنتانة تفوح بشدة في الأرجاء. {أنا نهاب}، قال له أحدهم. مثل عقيل تماماً كان نهاب من القامشلي واحتُجز لارتكابه مخالفةً بسيطة. في اليوم التالي، رمى الحرس بضع قطع من الخبز في الزنزانة. تقاسمه الموجودون. كان عقيل أصغر عمراً من نهاب، ولكنه اضطر إلى مواساة الأخير حين راح يجهش بالبكاء. استرسل يخبره عن القامشلي. شعر بأن في الأمر ما يخفّف عنه وعن نهاب وطأة الخوف الطاغية. أطلعه نهاب على قلمٍ أخفاه عن الإرهابيين وما زال متمسكاً به وكأنه طريقه إلى الخلاص. فكّر عقيل في سرّه: {إنه كابوس بشع. إنّه فيلم مقيت ولا بدّ من أن ينتهي قريباً في نهاية المطاف}.

انتظار الموت

يخبر عقيل أنه تعرّض للتعذيب بشكلٍ يومي وخصوصاً في الليل. كانوا يبرحونه ضرباً بشرائط معدنية وأسلاك بشكلٍ وحشي. ثم وبعد نهاية حفلة الضرب يتمدّد أرضاً وهو يشعر بطعم الحديد الممزوج بالدماء في فمه. كان في تلك اللحظة يستسلم لأحلامه الوردية. ها هو مجدداً في منزله العائلي متلذذاً بأطايب أمه. أحياناً، يقول عقيل {كنا نشعر بالسرور لتعرّضنا للتعذيب لأنّ ذلك كان يعني أننا ما زلنا على قيد الحياة وبأن الموت ما زال بعيداً عنا}.

أيام الجمعة وبعد الصلاة، كان الإسلاميون يعمدون إلى قتل بعض السجناء. كان بوسع عقيل سماع الطلقات النارية بوضوح. وكان الإسلاميون أحياناً يرغمونه على مشاهدة فيديوهات القتل الوحشي على هواتفهم النقالة. كانوا يصيحون به بضحكات هستيرية: {أنظر أيها الصحافي ماذا فعلنا بأصحابك!}، فيما يحاول أن يضبط مشاعره وأن يمسك عن التقيؤ. {سنحرقك حياً ذات يوم}، صرخ به عنصر آخر بتهكّم.

سمع بعد فترة بدنوّ موعد إطلاق سراح نهاب. استخدم قلم الأخير المخفي ليكتب على ورقة مهترئة مزّقها من صفحات القرآن رسالة إلى والديه: {أمي، أبي كم أتمنى في هذه اللحظة بالذات أن أكون معكما. أعرف أنكما تحاولان إنقاذي. أحبكما جداً}. أخفى نهاب الرسالة في حذائه، وما لبث أن أطلق سراحه بعد مدّة وجيزة}.

احتفظ عقيل برزنامة على ورقة أخرى. كان يرسم خطاً مستقيماً بكل يومٍ يمرّ. خبّأ الورقة في سرواله الداخلي. {كنت بحاجة إلى بعض النظام وإلا كان سيجنّ جنوني من شدّة الخوف} يشرح عقيل.

بعد بضعة أيام زار الزنزانة أحد قادة الدولة الإسلامية من مدينة الرقة. لعلّه أبو لقمان حاكم الرقة. أمر الأخير باقتياد عقيل إلى سجن الرقة المركزي وهو ملعب كرة قدمٍ كبير حوله الإرهابيون إلى سجن.

كان ذلك في شهر فبراير واستغرقت الرحلة إلى الرقة خمس ساعات، وكان الملعب مغطى بالثلج عند وصولهم. ما لبث أن وجد عقيل نفسه في زنزانة صغيرة بمساحة متر. كان ينام فيها وسط برازه وكانت الطفيليات تنهش جسده يوماً بعد يوم. راح يخاطب نفسه لساعاتٍ إلى أن سمع ذات يوم صوت هامو زميله. لا بدّ من أنه على بعد زنزانتين أو أكثر منه. {رحنا نصلي بأن يتسنى لنا سماع صوتينا كي ندرك أننا لم نكن وحدنا}. ليلاً كان عقيل يحلم بجوربين من الصوف وبحبيبة قلبه. كان جسده يحكه حكاً شديداً وحين يفعل كان الدم يسيل منه سيلاناً مؤلماً.

الحرية

حين جرّه عناصر {داعش} خارج الزنزانة بعد مئة يوم، ما كان يقوى على الوقوف. لم تكن درب الجلجلة انتهت بعد، بما أنه كان يقتاد من زنزانة إلى أخرى. ما كان ليفهم سبب إبقائه حياً تلك الفترة كلها. أمضى في الاعتقال سبعة أشهر ونمت لحيته لتطاول صدره. أرغمه الإسلاميون على تسجيل فيديو يقرأ فيه أمام الكاميرا رسالةً حول المطالبة بفدية وبتبادل للأسرى. {كنت أتحلى بالأمل طبعاً} يؤكد عقيل. {ولكن لم يسبق لصحافيّ كرديّ أن نجا من اعتقال إرهابيي داعش}، يردف.

وفي اليوم المئتين والتسعة وسبعين من اعتقاله تحديداً في شهر سبتمبر، سمع أحد العناصر ينادي باسمه. اُقتيد مع أكراد آخرين إلى شاحنة حُشروا فيها، وقادها بعض العناصر ليلاً في طريق وعرة. مرة أخرى كان عقيل يحضّر نفسه لفكرة الموت.

كان سائق الشاحنة يتحدّث إلى أحدهم على جهاز اللاسلكي. سمعه عقيل ينطق بجملة {موقع التبادل}. {كنت أرجف، يقول، لعلّه فخّ ولعلّهم سيفجرون الشاحنة بنا في اللحظة الأخيرة، من يدري؟}.

تمّ التبادل على حدود الصحراء في جنوب الحسكة: {قل للكفرة بضرورة خضوعهم للإسلام} نهر به أحد العناصر فيما كان يفك وثاق يديه. نُقل إلى دراجة نارية خلف رجل قاده إلى الطرف الآخر. صار حراً أخيراً.

في الأسابيع المقبلة، التقى عقيل أصدقاءه وأقاربه ولكن الخوف الدفين ظلّ يطارده. في الشارع، كان غالباً ما يلتفت يمنةً ويسرة خوفاً من تربّص الإرهابيين به. كان يريد الابتعاد عن الحرب وعن الرعب الذي عاناه. قرّر السفر بعيداً نحو أكثر البلدان أماناً حيث كان يعيش أخواه: ألمانيا.

حين عبر عقيل الحدود الألمانية النمساوية مع أمه بالقطار، كان الجوّ في ألمانيا مسموماً بحوادث كولونيا حيث تعرّضت عشرات النساء في عيد رأس السنة للتحرّش الجنسي من اللاجئين. قبل أشهر فحسب استُقبل اللاجئون بالأحضان، ولكن هذا التعاطف ما لبث أن تلاشى حين شعر الألمان بخطر محدق بأمنهم.

الإرهابيون باتوا هنا

انتهى عقيل مع أمه في خيمة للاجئين في شمال ألمانيا. بعد فترةٍ وجيزة في شهر مارس، فجّر ثلاثة عناصر من {داعش} نفسهم في بروكسيل واكتشف المحققون شبكةً إرهابية ممتدة في أوروبا بما فيها ألمانيا. حذّر السياسيون ورجال الأمن من إمكان تسلل عناصر {داعش} إلى أوروبا وألمانيا عبر القوافل المهاجرة. وصل عدد كبير من اللاجئين إلى ألمانيا من دون أوراق، وكان من المستحيل التأكد من هويتهم نظراً إلى الظروف العصيبة. كيف يمكن التمييز إذاً بين الإرهابيين المحتملين واللاجئين الفعليين. يؤكد عقيل: {اقترفت ألمانيا خطأً فادحاً بسماحها بدخول كلّ هذا الكم من الناس إلى أراضيها. الإرهابيون انتقلوا إليها. إنهم هنا الآن}.

فتح حاسوبه النقال وأشار إلى صورة من الفيسبوك لرجلٍ يضع نظارة. حين رأى الصورة تلك للمرة الأولى عجز عن التنفس. كان يعرف هذا الرجل الذي يحمل ندبةً كبيرةً على جبينه.

كان الرجل من القامشلي، وسكن على مقربة من بيته، إلى أن اختفى فجأةً من المدينة في العام 2013 التي وقع بعض أجزائها تحت سيطرة الأكراد. وما لبث أن رأى صوراً للرجل بعد فترة حاملاً الكلاشنكوف إلى جانب محاربي {داعش} على صفحة الفيسبوك الخاصة به. بدا أنه انضم إلى صفوف الإرهابيين.

بعدما خطف الإرهابيون عقيل، اتصل أخوه بالرجل ذي الندبة عبر الفيسبوك. كان يحاول التقرّب من الإسلامي لمعرفة مصير أخيه ولم يجد جواباً بالطبع. {إنه الشيطان بعينه}، يشير عقيل. {كان الكل في مدينتنا يعرف أنه انضم إلى صفوف الإرهابيين}.

اليوم غيّر الرجل صورته الأساسية على الفيسبوك وما من صور له مع عناصر {داعش}. وقع أخو عقيل على صفحته بالمصادفة على الفيسبوك مع إشارة إلى مكان السكن في بافاريا. حوّل تفاصيل الصفحة إلى أخيه الأسير السابق.

في الليلة التي وقع فيها نظر عقيل على صفحة الرجل غادر النوم جفنيه. انتقل الى ألمانيا كي يعيش بهناءٍ وأمان، ولكن الرعب انتقل إلى البلد الذي هرب إليه سعياً إلى راحة البال.

راح يبحث عن معلومات عن الرجل عبر الفيسبوك متصلاً ببعض الأطراف لمعرفة الحقائق. كان عليه أن يجد الرجل ذا الندبة وأن يدلّ الشرطة إليه. {كان عليّ أن أحمي ألمانيا منه} يقول بنبرةٍ واثقة. وهكذا تحوّل السجين السابق إلى تحرّ يلاحق الإرهابيين ويعمل مع أكثر من جهةٍ استقصائية للهدف نفسه. لقد وفّر معلومات دقيقة عن أكثر من مشتبه به مستنداً إلى وقائع جمعها من فترة اعتقاله، وهو ينال احترام المحققين للجهد الحثيث الذي يبذله للقيام بهذا العمل النبيل.

تحدٍ كبير

كانت أولى القضايا التي تولاها قضية الرجل ذي الندبة. في مايو اكتشف عقيل مكان سكن الرجل، ولكن كان عليه أن يتأكد أولاً من صحة المعلومة التي يملكها، لذا توجّه بنفسه إلى المنطقة لتبيان الحقيقة. {ما كنت أريد تضييع وقت الشرطة بمعلوماتٍ غير أكيدة. كان عليّ أن أتأكد بنفسي} يوضح عقيل.

المطرُ ينهمر بغزارة فيما يصعد عقيل السلالم إلى مكتب التحقيق الجنائي. كان في انتظاره محققان في غرفةٍ تحمل لوحاتٍ من مشاهد بافاريا الطبيعية الخلابة. {لا تقُل أية معلومة قد تستخدم ضدّك لاحقاً} قال له أحد المحققين. تنفسّ عقيل بعمق. خرج المحققان من الغرفة بشعورٍ عارم بالرضا. كانا يصدقان عقيل حتى لو لم يقدم لهما أدلةً حاسمة. الرجل بنظرهما يتمتع بمصداقيةٍ عالية. {علينا أن نتحقق من أقواله في هذه القضية الشائكة ولكننا نأخذ كلامه على محمل الجدّ} قال أحد المحققين.

ثمة مئات القضايا الشبيهة التي تواجه المحققين في ألمانيا. كيف السبيل إلى جمع أدلة ملموسة عن أشخاص لا أوراق لهم ولا معلومات متوافرة عن ماضيهم أو عن هويتهم الحقيقية؟ كل ما لدى المحققين معلومات حول {الندبة} وشهادة لاجئ آخر. ثم ليس بوسع الشرطة الألمانية التواصل مع السلطات السورية للتأكّد من المعلومات المتوافرة. في الأشهر الأخيرة، تلقى المحققان أكثر من 30 شكوى شبيهة بشكوى عقيل. ولكن لم يُلقَ القبض إلا على مشتبه واحد منذ تلك الفترة.

هذه المرة أيضاً بدأ المحققان بطرح الأسئلة. الرجل ذو الندبة أمامهم. فتشوا حاسوبه وهاتفه ولم يجدوا شيئاً، فأطلقوا سراحه.

قرّر عقيل مواجهة الرجل ذي الندبة بنفسه. بعد يومين ها هو في مرأب السيارات مراقباً الرجل مقبلاً. مرّ كل شيء كشريطٍ سريع. حين رأى الرجل يقترب بدراجته من نزل اللاجئين تسمّر عقيل في مكانه. كان يريد أن يوقفه هناك في تلك اللحظة ولكنه كان عاجزاً عن ذلك.

بعد برهة كان الرجل واقفاً أمام النزل يدخن لفافة من السجائر. كانت الفرصة مناسبة لطرح السؤال: {هل أنت من القامشلي السورية؟}.

{نعم}، ردّ بنبرةٍ هادئة وحازمة {كيف عرفت؟}، أكمل مستفسراً.

{كانت الشرطة هنا منذ لحظات، ماذا كانت تريد منك؟}.

وقف الرجل صامتاً. تناول لفافةً أخرى من السجائر ولكنه لم يشعلها.

{هل كنت يوماً من عناصر داعش؟}.

{ما هذا الهراء؟} صاح بغضب رامياً سيجارته أرضاً.

كانت يداه ترتجفان بشدة فيما حاول إخفاءهما في جيبي سرواله بسرعةٍ خاطفة.

* جوناس برنغ

قالوا له إنهم سيقطعون رأسه كحيوانٍ وسخ

اللاجئان معاً في ألمانيا... الضحية والجلاد تحت السقف نفسه

بعد نهاية حفلة الضرب يتمدّد أرضاً وهو يشعر بطعم الحديد الممزوج بالدماء في فمه

كان عليه أن يجد الرجل ذا الندبة وأن يدلّ الشرطة إليه

وفّر معلومات دقيقة عن أكثر من مشتبه فيه مستنداً إلى وقائع جمعها من فترة اعتقاله
back to top