المخرج الأميركي أوليفر ستون:
النقاش حول «وكالة الأمن القومي» يجب أن يحدث في الكونغرس لا في السينما!
حين يقابل أكثر مخرج مصاب بجنون الارتياب في هوليوود أوليفر ستون أهمّ رجل تطارده الولايات المتحدة إدوارد سنودن، لا مفر من حصول لقاءات سرية في موسكو وشعور المنتجين الأميركيين بالهلع. بذل أوليفر ستون مجهوداً فائقاً في فيلم Snowden الذي يروي قصة عالِم الكمبيوتر الشاب الذي كشف للعالم عام 2013 كيف كانت الاستخبارات الأميركية تتجسس على اتصالات آلاف الناس حول العالم.لم يكتفِ المخرج الأميركي بما قرأه في الصحف عن القضية بل عمد إلى مقابلة إدوارد سنودن في أماكن سرية داخل روسيا. أراد أن يراه ويسمعه ويفهم وجهة نظره. مع اقتراب صدور الفيلم، قرر ستون أن يتكلم عن لقاءاته مع أهم رجل مطلوب في العالم. بدأ كل شيء في يناير 2014. كان المخرج يزور الصين هرباً من الفشل المؤلم الذي واجهه في هوليوود غداة اضطراره إلى وقف فيلمه عن مارتن لوثر كينغ. في صباح أحد الأيام، اتصل به منتجه موريتز بورمان لإبلاغه أن المحامي الروسي أناتولي كوشيرينا الذي يتولى الدفاع عن إدوارد سنودن يريد التكلم معه. كان ستون يعرف أن الموظف السابق في «وكالة الأمن القومي» الأميركية لجأ إلى روسيا بعدما أرسل لصحيفة «ذي غارديان» البريطانية آلاف الوثائق السرية.
اعترف ستون بأنه يدعم خطوة سنودن بصفته مواطناً أميركياً. لكنه لم يكن يعرف شيئاً عن ذلك المحامي الروسي المقرّب من الكرملين. في تلك الفترة، كان كوشيرينا نشر للتو رواية مستوحاة من حياة سنودن بعنوان Le temps de la pieuvre (زمن الأخطبوط) وكان يبحث عن مخرج سينمائي لاقتباسها واعتبر أوليفر ستون خياراً مثالياً لأنه يساري يعارض علناً السياسة الأميركية الخارجية ويبدي إعجابه بأحد أقدم حلفاء موسكو، الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وظنّ أن الفيلم سيكشف ناحية إنسانية من هذه الشخصية أمام الرأي العام وسيبرر دوافعها إذا وافق المخرج على نقل قصة سنودن إلى الشاشة الكبيرة.اهتمّ ستون في المقام الأول بالقصة التي سيعرضها وتساءل عن احتمال تحويلها إلى فيلم، فسافر إلى موسكو وقابل كوشيرينا ثم سنودن. لم يكن المخرج يهتم في تلك المرحلة بالفضائح التي قد يكشفها سنودن، بل صبّ تركيزه على شخصية بطل القصة وطريقة كلامه وتصرفاته، وهي مهمّة صعبة لأن سنودن بدا له شخصاً بارداً ومهووساً بالتكنولوجيا ويفرط في تحليل المسائل. كان يتكلم عن حياته بأسلوب مُشَفّر وراح المخرج يتساءل عن الجانب الإنساني في شخصيته منشغلاً بسؤال واحد: هل يستطيع تحويل سنودن إلى بطل سينمائي؟على صعيد آخر، لم يكن سنودن يرغب في أن يروي أحد قصة حياته بل أراد التركيز على المعلومات التي يكشفها. تتعلق أهم الحوادث في مغامرته بالأيام القليلة التي تلت هربه من الولايات المتحدة وأمضاها في غرفة فندق في هونغ كونغ مع مراسلين من صحيفة «ذي غارديان» فيما كان عملاء «مكتب التحقيقات الفدرالي» يطاردونه. يُذكر أن المخرجة الأميركية لورا بواتراس صوّرت تلك اللحظات في فيلم Citizenfour (المواطن الرابع) الذي فاز بجائزة «أوسكار» عن فئة أفضل فيلم وثائقي عام 2015.مع ذلك، أراد ستون تنفيذ المشروع لأن عمر سنودن الصغير حين وقعت تلك الحوادث كلها يدهشه كثيراً: «يصعب أن يصدّق الناس أنه فعل كل ما فعله في التاسعة والعشرين من عمره. شخصياً، أجد صعوبة في تصديق ذلك حتى الآن».راح ستون يبحث عن الثغرات في شخصية سنودن ونقاط ضعفه واهتمّ بنوبات الصرع التي تصيبه منذ طفولته، فضلاً عن أنه قابل حبيبته السابقة ليندسي ميلز التي عرضت أمامه ألبوماً من الصور الشخصية، وهو يعتبر أن علاقة هذا الثنائي كانت أكثر إثارة للاهتمام مما ذكرت الصحافة. يستعمل المخرج هذه الشخصية لتسليط الضوء على أعمق دوافع سنودن: «من خلال خلافاتهما، يمكن أن أعرض مسار تطور إدوارد. في البداية كان شخصاً وطنياً يدعم التدخل الأميركي في العراق بينما كانت ليندسي تعارضه. لكنه سيصبح في النهاية أقوى شخص يتمرّد على السلطة».
أداة اتصال آمنة
في ربيع عام 2014، عاد ستون إلى الولايات المتحدة للعمل على السيناريو. بدأ الوقت ينفد لأن الصحافي غلين غرينوالد من «ذي غارديان» كان يعمل في الوقت نفسه على مشروع مماثل. اعتبره المخرج الأميركي منافساً جدياً لأنه أقنع شركة «كولومبيا بيكتشرز» بالمشروع وحظي بدعم كل من باربرا بروكولي ومايكل ويلسون، ابنا المنتج النافذ ألبرت بروكولي الذي تولى إنتاج سلسلة «جيمس بوند». كذلك أبدى جورج كلوني اهتمامه بأداء دور الصحافي لأن زوجته أمل علم الدين كانت محامية خصمٍ آخر لـ«وكالة الأمن القومي»، مؤسس موقع «ويكيليكس» جوليان أسانج.لكن كان ستون مقتنعاً بأن الكتاب الذي اقتبس منه غرينوالد عمله لا يصلح كفيلمٍ سينمائي، فعاد إلى موسكو لمقابلة سنودن وسط جوّ من السرية التامة. على مرّ محادثاتهما، بدأ سنودن يفتح قلبه تدريجاً، فتكلم عن دراسته الكارثية واكتشافه الإنترنت ومحاولته الفاشلة دخول القوات الأميركية الخاصة حين كان في الثامنة عشرة من عمره، ثم وصوله إلى «وكالة الاستخبارات المركزية».فصّل سنودن مهماته في جنيف حيث كان يمدّ العملاء الأميركيين بالمعلومات ووصف كيف اكتشف السلطة المطلقة التي تتمتع بها «وكالة الأمن القومي» كونها تستطيع اختراق ملايين الاتصالات الهاتفية والرسائل الإلكترونية من دون التعرّض للمساءلة. في هذه الأثناء، كان ستون يصغي إليه ويطرح الأسئلة ويدوّن الملاحظات. تقابل الرجلان بشكل متكرر في أماكن مختلفة ومعزولة. خلال مرحلة كتابة السيناريو، توخى المخرج حذراً شديداً وراح يرسل له الرسائل عبر محاميه الأميركي بن ويزنر الذي كان يستعمل أداة اتصال آمنة. يقول ستون: «لا يمكن أن تتهمني السلطات الأميركية بشيء. صحيح أنني أقابل مجرماً لكني لا أقدم له المساعدة». دفع المنتجون نحو مليون دولار للحصول على حقوق كتاب كوشيرينا مع أن السيناريو النهائي لا يشمل أي أثر منه. في نهاية عام 2014، انتهى السيناريو وتقرّر أن يؤدي جوزيف غوردن ليفيت دور سنودن وتم اختيار الممثلين الآخرين، أبرزهم شايلين وودلي ونيكولاس كيج. لكن وجد المخرج صعوبة في الاتفاق مع شركة أميركية لإنتاج الفيلم بسبب موضوعه الشائك. بعد سنة من العمل الحثيث، وجد نفسه بلا مال أو دعم، فلجأ منتجه الألماني موريتز بورمان إلى بلده لإيجاد التمويل المنشود.أحدثت قضية سنودن ضجة كبيرة في ألمانيا بعد الكشف عن تجسس «وكالة الأمن القومي» على اتصالات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. لذا عرضت شركة «كروت باك» الترفيهية مساعدتها، ثم قرر المخرج تصوير العمل في «بافاريا». في المرحلة اللاحقة، تدخّل المنتج الفرنسي ديمتري راسام وأقنع شركتَي «باتيه» و«وايلد بانش» بالمشاركة في المشروع. كانت المفاوضات شاقة جداً، يقول ستون في هذا الشأن: «في فبراير 2015، قبل ثمانية أيام من بدء التصوير، لم نكن نعرف إذا كنا سنحصل على المال المطلوب. كان موريتز يمضي أمسياته على الهاتف مع شركائه في أوروبا وسط عشرة محامين أو أكثر».عرض خاص
لتصوير الفيلم في «ميونيخ»، استُعمل ملعب أولمبي قديم لبناء نموذج عن مركز «وكالة الأمن القومي» في هاواي، أي آخر مكان عمل فيه سنودن مع الاستخبارات الأميركية. أُعيد تشييد قاعات أخرى تحت الأرض في ذلك الموقع أيضاً. يوضح ستون: «ساعدنا سنودن كثيراً في اختيار الديكور والمحادثات والكلمات. يستطيع هذا الرجل تذكّر أدق التفاصيل وسمح لنا بإعادة بناء الصالة التي تستعملها الوكالة في السفارة الأميركية في جنيف. عرضتُ الفيلم على خبراء وأشخاص يعرفون «وكالة الأمن القومي» من الداخل ففوجئوا حين شاهدوا كل ما نعرفه. يشمل فيلمي تفاصيل لم يرها أحد».خلط بين الخيال والواقع
يقول ستون إن سنودن لم يتابع مسار تصوير الفيلم. فور انتهاء السيناريو والتأكد من موافقته عليه، صُوّرت المشاهد في «ميونيخ» طوال سنة ولم يقابله المخرج خلال هذه الفترة. في نهاية عام 2015، عاد إلى موسكو بعد أول عملية مونتاج ونظّم له عرضاً خاصاً. أصرّ سنودن على مشاهدة الفيلم وحده واكتشف قصته والممثل الذي يؤدي دوره داخل قاعة معزولة في موسكو.يؤكد المخرج أن سنودن أحب العمل وهنّأه، ثم عرض عليه ستون فكرة مدهشة في نهاية الفيلم تقضي بظهور سنودن الحقيقي للخلط بين الخيال والواقع، فوافق على الفكرة. في الأيام اللاحقة، صوّر المخرج سلسلة من المشاهد الصامتة في غرفة فندق. بدا سنودن مسترخياً وشبه سعيد مع أنه كان تعرّض للملاحقة للتو من الاستخبارات الأميركية. تكشف صورة سرية عن وجوده مع ليندسي ميلز في منزل صغير كانا يسكنان فيه على ما يبدو في موسكو. إنه مشهد غامض وكأنه يريد أن يكشف جانباً حميماً من شخصية سنودن. بحسب ستون، سيكون من المدهش أن يغيّر الفيلم نظرة الناس إلى سنودن في الولايات المتحدة حيث يُعتبر هذا الرجل خائناً للوطن، لكن يحمل المخرج طموحات أكثر تواضعاً: «أريد أن يشاهد الناس فيلمي ويستمتعوا بوقتهم ويطرحوا الأسئلة. لكن يجب أن يحصل النقاش الحقيقي حول «وكالة الأمن القومي» داخل الكونغرس لا في صالات السينما».حين سُئل إذا قابل سنودن مجدداً أجاب بالنفي، وقال: «لا يسهل التواصل مع شخصيات مماثلة. يمضي سنودن معظم وقته على حاسوبه ويعيش حياته خلال الليل. بقيت علاقتنا مهنية ولم يَدْعُني يوماً إلى منزله». سبق وحصل ستون على لمحة عن ردود فعل إدارة أوباما: شاهد الجنرال مايكل هايدن الذي تولى إدارة «وكالة الأمن القومي» ثم «وكالة الاستخبارات المركزية» مقتطفاً من الفيلم واعتبر أنه يعرض عالماً بعيداً كل البعد عن واقع جهاز الاستخبارات. لكن لم يتأثر المخرج بهذا الرأي بل قال أمام طلاب في جامعة «كونيتيكت» في مايو 2016: «لا تنسوا أن سنودن كان أكبر منكم ببضع سنوات فقط حين واجه النظام باسمنا جميعاً».كلهم أبطال
يعتبر ستون كل من يواجه أفعال أجهزة الاستخبارات أبطالاً، فلا يميّز مثلاً بين ويليام بيني وتوماس دريك اللذين كانا يعملان في «وكالة الأمن القومي» قبل أن يبلغا الصحف ببعض الأساليب التي تُعتبر غير مقبولة، وبين المقرصن الأسترالي جوليان أسانج الذي عرّض موقعه «ويكيليكس» عشرات المخبرين للخطر بعد نشر آلاف المراسلات الدبلوماسية. ولا ننسى فيليب آغي الذي أصبح أول عميل يفضح المعلومات عبر كتابه Inside the Company: CIA Diary (مذكرات عميل سري داخل وكالة الاستخبارات المركزية).يعترف ستون بأنه قابل آغي في كوبا حين كان يجري مقابلة مع كاسترو. كان رجلاً صالحاً بحسب قوله لكنه مات منكسر القلب بعدما قضت عليه «وكالة الاستخبارات المركزية» التي لاحقته طوال ثلاثين سنة.حين وصف ستون حياة سنودن في موسكو، أكّد أنه حرّ في تحركاته. هرب من الولايات المتحدة منذ سنتين وكان واثقاً من أنه سيموت بعد فترة قصيرة، وترك حبيبته وحياته كلها وراءه. لذا يعتبر صموده وحريته حتى اليوم أشبه بنهضة جديدة في حياته وبات يستطيع أن «ينام الليل» من الآن فصاعداً كما يقول في نهاية الفيلم.
لا يمكن أن تتهمني السلطات الأميركية بشيء
صحيح أنني أقابل مجرماً لكني لا أقدم له المساعدة
أريد أن يشاهد الناس فيلمي ويستمتعوا بوقتهم ويطرحوا الأسئلة
عرضتُ الفيلم على خبراء يعرفون الوكالة من الداخل ففوجئوا بكل ما نعرفه
صحيح أنني أقابل مجرماً لكني لا أقدم له المساعدة
أريد أن يشاهد الناس فيلمي ويستمتعوا بوقتهم ويطرحوا الأسئلة
عرضتُ الفيلم على خبراء يعرفون الوكالة من الداخل ففوجئوا بكل ما نعرفه