التأمل... يمدّك بالطاقة!

نشر في 17-09-2016
آخر تحديث 17-09-2016 | 00:00
No Image Caption
هل تشعر أنك دائم التوتر والقلق، أنك ترزح تحت عبء أشغالك الكثيرة، وأنك تختنق بسبب فيض الأعمال التي عليك إنجازها؟ تحوّل ضيق الوقت اليوم إلى مصدر الإجهاد الأكبر الذي يعانيه الإنسان. ولكن تتوافر طرق عدة تتيح لنا تحسين علاقتنا بالوقت وتعزّز مواردنا الداخلية، ولعل أبرزها التأمل. لمَ لا تتعلم إذاً هذه الطريقة التي تعود عليك بفوائد جمة؟
كيف ننجح في العودة إلى الإصغاء إلى “وقتنا”، ذلك الوقت الداخلي الخاص بنا؟ أي جزء في داخلنا ينجذب إلى المتع تلقائياً؟ كيف نتمنى التحكم في حياتنا وتوزيع وقت فراغنا؟ وهل نرغب في تنمية ذاتنا بحق أم نكتفي بمصادر التلهية المتوافرة بكثرة من حولنا؟ بات من السهل اليوم ملء وقت الفراغ، إلا أن هذه السهولة تقود مباشرةً إلى السأم والتعب. وهكذا تحوّلت هذه السهولة إلى خطر أساسي جديد يهدّد نوعية حياتنا. لا تقتصر المعركة التي نخوضها اليوم على الفوز بوقت فراغ أطول، بل تشمل أيضاً النجاح، وسط هذا الكم الهائل من الأشغال، في تحديد “وقتنا” الذي يتوافق مع تطلعاتنا الحقيقية وما نشعر به في داخلنا.

خصص الوقت لنفسك

تشمل الطرق أفضل، التي تتيح لك تخصيص الوقت لنفسك، ممارسة إحدى تقنيات الاسترخاء الكثيرة. لذلك، إن كنت تشعر بالقلق أو الإنهاك، فلا تتردّد في تعلم الاسترخاء والتنفس. وعندما تطبق هذه التقنيات يومياً، وخصوصاً في الفترات التي تواجه خلالها وضعاً يصعب عليك التحكّم فيه، تكتشف أنها تمدّك بالراحة وتعود عليك بفوائد جمة. وبخلاف معظم التقنيات المتبعة، لا تكتفي تقنية الاسترخاء التي تقوم على التركيز الذاتي بمساعدتك في التخلص من التوتر والقلق، علماً أن هذه فائدة كبيرة، بل تزودك أيضاً بمفتاح أساسي يتيح لك التحكم في ذاتك وفي قدراتك الشخصية. وهذا ما يُعرف بالتركيز الداخلي أو “الانتباه المركّز”.

من الوسائل الأخرى التي تسمح لك بتخصيص الوقت لنفسك، والتي أثبتت فاعليتها بوضوح، التأمل. تشمل تقنيات ما يُعرف بالتأمل الواعي تمارين صغيرة عدة تمارسها بانتظام بغية إبقاء الاهتمام مركزاً على الحاضر (من دون إصدار أي أحكام أو توقعات أو إطالة التفكير في أي مسألة: تكتفي بوجودك في اللحظة الراهنة)، فضلا عن الغوص في مراقبة “مجردة” لحالاتك العاطفية المختلفة. وقد برهن نوع التأمل هذا فاعلية عالية في تفادي الانتكاس والعودة إلى الكآبة في حالة المرضى الذين سبق أن عانوا ثلاث فترات من الكآبة الحادة على الأقل.

التأمل على طريقة «زازن» والوعي الكامل

لا شك في أن التأمل يشكّل أقصى درجات الاسترخاء. وثمة أساليب عدة لممارسة التأمل: ابدأ أولاً بالتأمل على طريقة زازن. يقوم أسلوب “زازن” على التركيز على وضعية تكون فيها جالساً (وذلك بغية الحفاظ عليها بالشكل الصحيح لأطول فترة ممكنة)، فضلاً عن التركيز على تنفسك. تقتصر الأدوات التي تحتاج إليها لممارسة هذا النوع من التأمل على “الزافو”، أي وسادة التأمل. وتمثّل هذه الوسادة في آن واحدة أداةً ورمزاً لممارسة التأمل على طريقة “زازن”. يجلس المتأمِّل وسط هذه الوسادة وساقاه متشابكتان على شكل زهرة اللوتس أو نصف لوتس. كذلك من الضروري أن يبقي عموده الفقري مستقيماً، على غرار وضعية اليوغا التي تحمل الاسم ذاته. أما يداه، فتتخذان وضعية تُدعى “مودرا” (تتلامس الإبهام والسبابة، فيما تظل الأصابع الثلاث الأخرى ممدودة). بالإضافة إلى ذلك، ينبغي للمتأمِّل أن يركّز نظره على بقع في الأرض تبعد عنه نحو متر من دون أن يتأمل غرضاً محدداً.

في المقابل، يهدف التأمل على طريقة “زن” إلى ترك الصور والأفكار التي تخطر على بال المتامِّل من دون محاولة تحليلها أو الاحتفاظ بها. وقد برهنت الأدلة العلمية الفوائد الكثيرة التي يقدمها التأمل على طريقة “زن” للإنسان. فأظهرت دراسات عدة أن هذا التأمل يطلق موجات دماغية من نوع ألفا وثيتا مشابهة لما نختبره خلال مرحلة النوم العميق. لكن التأمل على طريقة “زازن” يساهم مساهمة كبيرة في تطوير التركيز ويمنح المتأمِّل الهدوء والسكينة.

مراحل عليك تعلّمها

مَن لم يتمنَّ منا في لحظة ما من حياته لو أنه يستطيع الانفصال في الحال عن العالم، الكفّ عن التفكير، الخروج من جسمه، والتوقّف عن مساعدة الآخرين أو حتى نفسه؟ نتيجة لذلك، من الضروري أن تخصّص فترة استراحة يومية تتأمّل خلالها التبدّلات التي تطرأ على حياتك، تنظر إلى المشاكل التي تواجهها نظرة موضوعية وتفهمها، وتبطئ دوامة الحياة التي تدور بك كي تحيا الحاضر بكل سكينة وهدوء. ولا شك في أن التأمل بوعي تام يتيح لك تحقيق هذا الهدف. أثار التأمل وما يحمله من فوائد للإنسان اهتمام العلماء والباحثين في جامعة هارفارد. فأظهرت دراساتهم أن التأمّل اليومي يعيد تجديد المادة الرمادية في الدماغ في غضون ثمانية أسابيع فقط.

إذا رغبت في تعلّم التأمل، فمن الأفضل أن تبدأ بالتدرّب على تقنياته ضمن مجموعة يشرف عليها مدرب متمرّس, لأنّ من الصعب أن تتقن التأمل بمفردك من دون أن تتثبط وتسأم. على سبيل المثال، تقدّم مايل تيكسيه، مدربة متخصصة في التأمل ومؤسِّسة Libre comme l’air (www.librecommelair.fr)، تقنية تأمل تقوم على الوعي الكامل. تتيح هذه التقنية للمتأمِّل إعادة توجيه تفكيره ليركّز على اللحظة الحالية وعلى الاستفادة من كل عمل ينجزه بمتعة، من دون خوف، وبطريقة واعية تماماً. ولكن لكي تتمكن من تعلّم تقنيات التأمل الواعي هذا، عليك المشاركة شخصياً في صفوف التأمل. فعلى غرار صفوف التمارين الرياضية، تساعدك جلسات التأمل هذه في تقوية عضلات الذهن بممارسة تمارين تأمل تؤثر في الفكر، المشاعر، التوازن الداخلي، النشاط المهني، التحليل المنطقي، النوم، الحالة الجسدية، والسكينة.

بالإضافة إلى ذلك، ينظّم بعض المؤسسات والمراكز صفوفاً لتعلّم التأمل في الريف. وهكذا يحظى المتأمِّل بإطار مذهل يجمع بين الرفاهية، المتعة، والتأمل الواعي ويقدّم تجربة تنعش الجسد والفكر معاً. فلمَ لا تمضي أسبوعاً في مكان ساحر مماثل كي تجدّد مواردك الداخلية وتتعلّم تقنيات التأمل الفاعلة، التي يمكنك الاستفادة منها عندما تعود إلى حياتك الطبيعية؟

يقدّم عدد من المتمرسين في التأمل وأنواعه في عدد من البلدان صفوفاً تلائم كل شخص يود أن يعيش تجربة التأمل بثقة، صبر، ومثابرة خلال مسيرته هذه لتعزيز الانتباه وعيش حياة واعية ومتيقظة في كل لحظة منها. كذلك، تنظّم بعض المراكز صفوفاً تساعد المتأمِّل في التركيز عمداً على الأحاسيس الجسدية، التنفس، والأفكار في اللحظة الحالية، اللحظة تلو اللحظة، من دون إصدار أي أحكام أو توقعات باتباع أسس برنامج M.B.S.R. لتخفيف الإجهاد الذي طوره جون كابات-زين.

ولكن بغض النظر عن أسلوب التعلّم الذي تختاره، تتقن خلال التأمل المهارات التالية:

• تظل متنبهاً في كل لحظة لما يدور في جسمك (أحاسيسك، مشاعرك، وحالتك النفسية) وفي فكرك (الأفكار والصور التي تمر في ذهنك).

• تتقبل شتى المسائل بكل تفهُّم ومن دون إصدار الأحكام.

• تتدرّب بصبر.

• تتحوّل إلى كائن منفتح، مسالم، متصالح مع ذاتك ومع ما تصادفه في حياتك من ظروف وأشخاص.

• تنجح في التخفيف تدريجاً من معاناتك، وخصوصاً تلك المرتبطة بالإجهاد والمقاومة الذاتية الفكرية، النفسية، والجسدية.

إذاً، ما رأيك في أن تمضي ساعات أو حتى أياماً في فقاعة الهدوء هذه لتتعلم تبديل حياتك، التواصل مع ذاتك، وتجدد مواردك الداخلية؟

أنواع التأمل المختلفة

أنواع التأمل الرئيسة أربعة:

1 التأمل بوضعية زهرة اللوتس أو وضعية الجلوس: تُعتبر تقنية وضعية زهرة اللوتس أو وضعية الجلوس الأكثر شيوعاً، وهي تشمل التركيز على التنفس.

2 التأمل بانتباه: لا تُعتبر تقنية وضعية زهرة اللوتس الوحيدة. فمن الممكن ممارسة التأمل أيضاً من خلال سلوكنا. يقوم هذا النوع من التأمل على فن الانتباه أو العيش في اللحظة الحالية، ويُدعى التأمل بانتباه.

3 التأمل بواسطة الشعارات: بإمكانك أيضاً ممارسة التأمل بالتركيز على الشعارات، ومن أشهرها om mani padme hum، الذي يعني “سلام لك أيتها اللوتس المكرمة”، أو OM، أي “خالق الكون”.

4 التأمل أثناء المشي: إن قررت التوجه إلى عملك سيراً على الأقدام أو القيام بنزهة، تستطيع ممارسة التأمل أثناء المشي بالتركيز على تنفسك. احرص على السير وظهرك ورأسك مستقيمان. سرّ بخطى حثيثة، مركّزاً على كل خطوة منها. كذلك حاول أن تركز على كل ما يدور من حولك من أصوات وألوان وروائح.

كيف تتعلم التأمل؟

إليك بعض التوجيهات لجلسة تأمل واعٍ:

1 اجلس بوضعية مريحة. حاول أن تجلس في المكان ذاته كل يوم، وتفادَ الوضعيات التي تُشعرك بالنعاس وتدفعك إلى النوم. أبقِ ظهرك مستقيماً، كتفيك مسترخيتين نحو الأسفل، عنقك ممدوداً، وذقنك مستقيماً. كذلك ابذل الجهد لتبقي وجهك مسترخياً.

2 حاول أن تتنفس من الأنف. راقب بطنك وهو ينتفخ، القفص الصدري وهو يتسع، وحركة عظم الصدر والكتفين الخفيفة أثناء دخول الهواء إلى الرئتين. اشعر بتنفسك بكل أحاسيسك.

3 ركّز على وجه واحد من التنفس: ركّز مثلاً على حركة دخول الهواء وخروجه من المنخارين أو على حركة انتفاخ البطن وهبوطه.

4 راقب حركة التنفس: عندما يبدأ الفكر بالشرود، حاول أن تعيده برفق إلى التركيز على التنفس أو على الحركة التي قررت مراقبتها. كرر هذه العملية قدر ما تدعو الحاجة. وتذكّر أن ما من تمرين تأمل سيئ أو جيد، لأن «الجودة» أو «السوء» من الأحكام أو حركات الفكر التي علينا التخلي عنها للتركيز على التنفس دون سواه مارس تمرين التأمل هذا طوال 5 إلى 10 دقائق في البداية ومن ثم أطل هذه الفترة تدريجياً إلى أن تتمكن من ممارسة التأمل طوال 30 دقيقة أو أكثر.

نم حضوراً قوياً

يخبر أحد علماء النفس: «أمارس أنا شخصياً التأمل الواعي منذ سنوات، وأنصح به كثيرين من مرضاي. صحيح أن هذه التقنية مستوحاة من الفلسفة البوذية، إلا أن لا دخل لها بالدين، وهي منظمة بدقة. يعود النجاح الحالي الذي يشهده هذا النوع من التأمل، سواء بين الناس العاديين أو بين الباحثين والمعالجين، إلى بساطته وقدرته العالية على التغيير. يقوم التأمل الواعي على تدريب الفكر بإرغامه على التركيز على اللحظة الحالية. وهكذا يركّز المتأمِّل الثانية تلو الثانية والدقيقة تلو الأخرى على ما يدور في داخله. لا يعني التأمل الانقطاع عن العالم أو دخول فقاعة هادئة. على العكس، يساعدنا التأمل على أن نعيش الواقع واللحظة. فنرى هذا الواقع على حقيقته بكُليته. عندما تمارس التأمل يومياً، تتعلّم تدريجياً أن تميّز بفاعلية ما يحمل إليك السعادة وما هو جيد بالنسبة إليك، فضلاً عما يسبب لك الألم، وذلك لمواجهته، فهم ماهيته، ومعرفة الاتجاه الذي يدفعك إليه. إذاً، ننجح من خلال التأمل في تطوير حضور قوي غير تفاعلي لأن التأمل لا يقوم على الهرب من العالم، بل على العيش فيه بسكينة ووضوح».

مدرسة تأمل مميزة

تُعتبر «مدرسة التأمل الشرقية» في فرنسا وسويسرا من أبرز مدارس التأمل. تتيح هذه المدرسة لمن ينضمون إليها تبديل حياتهم من خلال أساليب التأمل الصارمة، البسيطة، التي تتبعها. كذلك تساعد هذه المدرسة المتأمِّل في تحويل التأمل وتقنياته إلى جزء لا يتجزأ من حياته اليومية والعيش في عالم من السلام والسكينة. ولكن قبل أن تقرر الانضمام إليها، اقرأ كتاب “ممارسة التأمل” لفابريس ميدال، مؤسس هذه المدرسة. يُباع هذا الكتاب مع قرص مدمج يحتوي على عدد من الجلسات التدريبية التي تدوم كل منها 15 دقيقة. وإن لاءمتك هذه المقاربة، فلا تتردد في الانضمام إلى مدرسة التأمل الشرقية التي تساعدك على تعلم التأمل بسهولة وجني ما يقدّمه من فوائد في مجالات الحياة كافة.

التأمل على طريقة «زن» يهدف إلى ترك الصور والأفكار التي تخطر على بال المتأمل من دون محاولة تحليلها

إذا رغبت في تعلّم التأمل فمن الأفضل أن تبدأ بالتدرّب على تقنياته ضمن مجموعة يشرف عليها مدرب متمرّس
back to top