«أولاد حارتنا»... سيرة رواية «ملعونة» «7 - 7»

«طعنة الإرهاب» لا تمنع نشر الرواية

نشر في 03-09-2016
آخر تحديث 03-09-2016 | 00:00
في الحلقة الأخيرة من حلقات «سيرة رواية ملعونة»، نعرض وقائع عدة، جاءت كلها ردّ فعل على الرواية المثيرة للجدل، بعدما طعن أحد المهووسين الكاتب نجيب محفوظ، منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بسبب ظنّه كفر صاحب الرواية.
محفوظ، الذي رفض واستنكر نشر «أولاد حارتنا» في جريدة «الأهالي» عقب الحادثة، قال إن روايته «إسلامية إيمانية تعرضت للظلم»، مضيفاً أنه لا يريد أن يدخل في صراع مع الأزهر، ومؤكداً ضرورة الالتزام بالاتفاق مع الأخير، حتى آخر لحظة من حياته.
في تحقيقات النيابة، أعاد نجيب محفوظ تأكيد هدفه من الرواية: «أولاد حارتنا» مثل «كليلة ودمنة» ترسم عالماً متصوراً لتوحي بعالم آخر. نحن بين الحيوانات نعيش في غابة، لكن نعرف والقارئ العادي يعرف أن قصدنا نقد البشرية ونظام الحكم والعلاقات بين الأفراد، وحكمة الحكماء، وسفاهة السفهاء. ولكن ما دمنا التزمنا بأننا في الغابة، فلا بد من أن يكون أبطالنا من الحيوانات، ولا نحاسب ونحن نعاملهم معاملة الحيوانات، لأننا نعامل المرموز له بالحيوان، وعلى النمط نفسه أنا مشيت في «أولاد حارتنا». أعرض فيها لمصريين في حارة، وأسلوب حياتهم الظالم بكل ما فيه». أضاف محفوظ في التحقيق معه: «هؤلاء (يقصد محاولي قتله) لا يقرأون القصص الأدبية بعين أدبية أو إنسانية تريد أن تعرف الحقيقة وصراع الخير والشر. المهم في نظرهم أن يخضع العمل حرفياً لتعليمات الدين. حتى في ذلك هم يغالون، لأن الدين نفسه عرض قصة الخير والشر، وقصة عصيان إبليس للذات الإلهية، وروايات كلها تدور حول مفاهيم واضحة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون القصد منها التعرض لأي دين من أديان السماء، أو الازدراء به والقول بأنني كافر أو مرتد فيه افتراء».

بعدما أدلى محفوظ بأقواله، طلب منه رئيس النيابة التوقيع عليها، لكن يده المصابة لم تستطع إمساك القلم، فاضطر وكيل النيابة إلى أن يأخذ بصمة محفوظ.

كانت الحادثة بداية كي تخرج الرواية إلى النور في طبعة مصرية، فنشرتها جريدة «الأهالي» كاملة في أحد أعدادها، وهو ما استنكره محفوظ. ولكن كان النشر بداية لكسر الصمت، إذ ظل الروائي على موقفه، متمسكاً برفض النشر في مصر تنفيذاً لما اُتفق عليه مع حسن صبري الخولي، معترضاً على نشر بعض الجرائد الرواية من دون الرجوع إليه. لاحقاً، ومع تكرار محاولات نشر الرواية في مصر من دون إذنه، اشترط موافقة الأزهر، موضحاً موقفه: «أولاد حارتنا، رواية إسلامية إيمانية مظلومة، وهذا ما جعلني لا أوافق على نشرها في مصر إلا بعد موافقة الأزهر عليها، أي بعد اتفاق الأزهر معي في فهمي لها. لماذا أشترط ذلك؟ لأنني لست ضد الدين، ولا ضد الأزهر، ولو كنت ضده، ولو كانت الرواية ضده، لدخلت في تحد للأزهر، وسعيت إلى نشر الرواية رغماً عنه. لكنني لست كذلك، فأنا لست ضد الأزهر، ولا ضد الدين، فأنا أزهري المولد والمنشأ، إنني أزهري مدني!». ورغم حرصه على موافقة الأزهر، فإنه رفض بإصرار طلب البعض بأن يتقدم بطلب إلى الأزهر كي يعيد فحص الرواية، واعتبر ذلك «سابقة خطيرة ضد الإبداع وحريته!».

عقب الحادثة، زاره محمد الغزالي الذي كتب أول تقرير طالب فيه بمنع الرواية. كذلك طلب خالد محمد خالد أن يكتب مقدمة لها، وفعلاً التقى بمحفوظ وسأله عدة أسئلة عن الرواية وأجابه محفوظ عن ظروف نشرها، وكيف فهمها الأزهر: «قرأها الأزهر باعتبارها تاريخاً وليس كونها عملاً فنياً». تابع: «حين تكتب عملاً أدبياً تكون لديك فكرة وربما تكون لدى القارئ فكرة أخرى، ولدى الناقد فكرة ثالثة، والله أعلم أيها الصحيح. لكن تلك هي سمة الفن فهو يشع بالمعان ولا يتوقف القارئ عن اكتشاف معاني جديدة فيه كلما قرأ. لكن الكتب الفكرية ذات معنى واحد محدد، والبعض نظر إلى «أولاد حارتنا» ككتاب فكري، وهكذا ضاعت معانيها، لأنها لم تُقرأ كرواية ولم تفهم إلا بمعنى واحد محدد».

«ازدراء الأديان»

فشلت عملية اغتيال نجيب محفوظ، ونجا من الموت بأعجوبة. بعد أسابيع قليلة على خروجه من المستشفى، وقبل أن يتعافى تماماً، وجد نفسه متهماً ومطلوباً في القضية رقم 1787 لعام 1995 - جنايات المنصورة. كان أحد المحامين أقام دعوى ضد محفوظ يتهمه فيها بازدراء الأديان، وإضافة اسم جديد إلى أسماء الله الحسنى وهو «الجبلاوي»، وهي تهمة تستوجب الحبس والغرامة، بل والتفريق بينه وبين زوجته قياساً على ما حدث لنصر أبو زيد.

كانت هذه هي المرة الأولى التي تذهب فيها «أولاد حارتنا» إلى المحكمة، فالجدل الذي أحدثته لم يخرج عن مقالات أو بيانات رسمية كانت تصدر من مجمع البحوث الإسلامية، أو اتفاقات بعدم النشر داخل مصر. تكتيك جديد إذن اعتمد فيه المحامي على ما نشرته جريدة «الأخبار» بأن محفوظ عندما أفاق من التخدير سأل زوجته عن موعد إجراء الجراحة له، فقالت له: «تمّت الجراحة»، فضحك وقال: «الجبلاوي راض عني أذاً». حسب تحقيقات النيابة، لم يقرأ المحامي «أولاد حارتنا»، (مثله مثل من حاول اغتيال محفوظ). بل قال في التحقيق: «حاشا لله أن أقرأها لما تنطوي عليه من خروج!».

ترافع عن محفوظ طوال الجلسات محاميه الشخصي أحمد السيد عوضين الذي نشر تفاصيل المحاكمة والمرافعة في كتابه «محاكمة أولاد حارتنا». الغريب أن المحكمة لم تُبرئ نجيب محفوظ، لكنها قضت بعد خمس جلسات على امتداد الفترة من 23 مايو حتى 30 نوفمبر 1995 بعدم قبول الدعوى لانتفاء شرطي المصلحة والصفة، وألزمت المدعي بالمصروفات، عدم براءة محفوظ يفسره محاميه بأن «القانون يوجب على المحكمة ألا تتصدى للحكم في موضوع أية دعوى إلا بعد أن يُقضى في الدفوع الشكلية، أو بعبارة أخرى أن الحكم لا يعرض للموضوع إلا بالنسبة إلى دعوى مقبولة شكلاً، فإذا شاب الشكل عيب يجعل الدعوى غير مقبولة. توقف القضاء عند ذلك وحكم بعدم قبول الدعوى لثبوت ذلك النقص الشكلي في شروط قبولها، وعلى رأسها انتفاء شرط المصلحة بالنسبة إلى المدعي!».

لم يهدأ الجدل حول «أولاد حارتنا» في أي وقت من الأوقات. كانت محوراً رئيساً في لقاءات نجيب محفوظ مع ضيوفه كافة، العرب والأجانب. في الحوارات الصحافية التي أجريت معه، كان لا بد من السؤال عن الرواية «المحرمة»... تنشر أو لا تنشر؟ كان السؤال سنوياً؟ فضلاً عن أسئلة أخرى عن «تأويل» الرواية... ومقاصد محفوظ منها. كان الأخير حريصاً على أن يترك تأويل أعماله للنقاد، لم يتحدث عن أي عمل مفسراً أو موضحاً، وحدها «أولاد حارتنا» حظيت بجانب كبير في حواراته وأحاديثه بتأويله.

محفوظ وأبوزيد

جمع لقاء نادر الراحلين نصر أبو زيد ونجيب محفوظ، في أحد أيام ديسمبر 2003. يومها زار أبو زيد القاهرة بعد ثماني سنوات من النفي إلى هولندا. جاء نصر ليحتفل بعيد ميلاده الستين و«يسوّي» أوراقه في «جامعة القاهرة». في تلك الزيارة، طلب نصر من بعض أصدقائه لقاء نجيب محفوظ. كان نصر تردّد على ندوة محفوظ في «مقهى ريش»، لكنّهما لم يتبادلا حديثاً منفرداً. في اللقاء، كان نصر مهموماً بـ«أولاد حارتنا»، وانصبت أسئلته كلها حول هذه الرواية «الإشكالية». سأله بداية عن رواية «الحرافيش»، هل كانت صيغة أخرى من «أولاد حارتنا»؟ نفى محفوظ الأمر قائلاً: «إنّهما روايتان منفصلتان»، ثمّ بدأ يحكي عن لقاء جمعه بأحد شيوخ الأزهر: «جاء لزيارتي في مقهى «على بابا» قبل جائزة «نوبل»، وتناقشنا طويلاً في «أولاد حارتنا». بعدما اقتنع الشيخ بتفسيري للرواية، أخرج من جيبه كراسا وقال «أنا كاتب مسرحية عايزك تقرأها وتقولي رأيك». سأل أبو زيد: «لماذا حدثت ضجة عقب نشر «أولاد حارتنا» ولم تحدث الضجة نفسها عندما كتب توفيق الحكيم روايته «أهل الكهف؟». أجاب محفوظ: «قد يكون اختلاف الزمن هو السبب، أو قد يكون الحكيم نجح في شرح فكرته أفضل منّي». وتحسّر الروائي على الجو الليبرالي في العشرينيات والثلاثينيات، على عكس السائد هذه الأيام، عدّ «أولاد حارتنا» امتداداً لتيار الإصلاح الديني كما أرساه محمد عبده.

بدت أسئلة أبو زيد كأنّها تصبّ في رغبته في معرفة أسرار أزمة «أولاد حارتنا»، هل كان في صدد كتابة شيء عن المصادرة حينها أم عن نجيب محفوظ؟ المهم أنّ محفوظ استفاض يومها في الحديث عن الرواية، وما حدث يوم زار جمال عبد الناصر جريدة «الأهرام» وسأل محفوظ عما يكتب الآن، فأجاب محمد حسنين هيكل عنه: «رواية تودّي في داهية». ضحك عبد الناصر وقال «تودّيك أنت». ثم تحدث أبو زيد باستفاضة عن أزمته مع الجامعة، وكان محفوظ ينصت باهتمام، ويقطع الحوار أحياناً بـ«قفشة» من قفشاته الساخرة. بعد ثلاث سنوات، كتب في وداع محفوظ مقالاً بعنوان «المقاوم العظيم»، موضحاً أن «أولاد حارتنا» كانت «التعبير الأدبي عن تيار عميق الجذور في الفكر العربي المصري الحديث، وهو تيار يمتد إلى محمد عبده رائد الإصلاح الديني الحديث بلا منازع».

عام 2005، ذهب عضو مكتب الإرشاد في جماعة «الاخوان المسلمين» عبد المنعم أبو الفتوح إلى نجيب محفوظ ليهنئه بعيد ميلاده، وكانت «أولاد حارتنا» حاضرة في المناقشات. قال أبو الفتوح إنه جاء ليهنئ محفوظ بشكل شخصي، لا يعبر عن الجماعة، وأنه مع نشر «أولاد حارتنا»، بل يلوم محفوظ أنه يشترط موافقة الأزهر قبل نشر الرواية. محفوظ استمع وقال «إنه ضد موافقة جهات دينية على نشر الإبداع، ولكن «أولاد حارتنا» حالة خاصة... حالة خاصة جدا!».

فعلاً، هي «حالة خاصة». «أولاد حارتنا» ليست مجرد رواية يطرح فيها نجيب محفوظ الأسئلة حول العدل والحرية، بل هي حكايتنا مع السلطة، والرقابة، حكاية المجتمع نفسه وصراعه للتفكير خارج الصناديق الضيقة، وخارج الخطوط الحمراء... هي الكتاب الرمز، رمز لمعركة ثقافية واجتماعية وسياسية، تتخذ كل فترة شكلاً جديداً ومثيراً، فقد طال المنع عشرات الأعمال قبلها، وعشرات الأعمال بعدها، أحرقت كتب، وخرجت تظاهرات تطالب بإعدام مؤلفين، وخطب خطباء على المنابر، وتدخلت السلطة لتمنع... ولكن رواية محفوظ ظلت هي النموذج الأكمل لفكرة المنع الذي يدفع صاحبه الثمن مرات ومرات.

أسئلة كثيرة غامضة حول العمل، وإجابات تزيد الأمر غموضاً. هكذا ظلت الرواية في دائرة الضوء... منذ نشرت مسلسلة في جريدة «الأهرام» وصولاً إلى رحيل محفوظ (2006) وصدورها بمقدمة كأنها صك براءة لاهوتية لعمل فني خيالي. وبين الحدثين، حصلت في الكواليس وعلى خشبة المسرح حكايات بأبطال كثيرين: رؤساء، ومسؤولون، ورجال مخابرات، وكتاب وشيوخ، وقتلة... مع «أولاد حارتنا» حسم محفوظ أمره بالإخلاص لمهنة الكتابة، رغم ما ستجره عليه من مشاكل، كتب وسجل الحكايات التي يتناقلها شعراء الربابة، أو يرويها الرواة الشعبيون، سجلها الراوي لأن أحد أصحابه أوصاه بذلك: «أنت من القلة التي تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟ إنها تُروى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجل بأمانة في وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها». سجل الراوي/ محفوظ الحكاية الشفهية المتوارثة ليحكي عن حلمه، حلم البشرية بأن تمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء، وأن تشهد حارتنا مصرع الطغيان، ومشرق النور!

درس الرقابة

اللص المجهول الذي سطا على فيلاّ أمير الشعراء في اليوم الذي بدأ فيه نجيب محفوظ نشر «أولاد حارتنا» لم يعد مجهولاً، فقد سرق بعد أيام فيلاّ أم كلثوم، وتمكن البوليس من القبض عليه، وحكى في التحقيقات أنه ارتكب 58 جريمة، ولكنه تمكّن من الهرب قبل محاكمته!

بعد أشهر قليلة، كانت الصحف تتتبع خطوات اللص محمود أمين سليمان، تفتش في تفاصيل حياته وعلاقاته، وتاريخه، وعائلته، وزواجه الفاشل. أصبح «السفاح» لقباً له، إذ لم يعد لصاً يسرق بيوت المشاهير إنما صار قاتلاً أيضاً، بحثاً عن العدالة كما قال.

كانت حكاية محمود أمين سليمان الموضوع الرئيس لكل الجرائد في مصر، باعتبارها قضية رأي عام، على مدى ثلاثة أشهر تقريباً. راحت الصحف تفتش في حياة اللص الذي تحوّل كما كتبت جريدة «المساء»: «في خيال بعض الناس إلى أسطورة شعبية». في اليوم الذي تمكنت فيه الشرطة من محاصرته في إحدى مغارات حلوان، طلب سليمان من محاصريه أن يسلم نفسه بشرط أن يأتي له البوليس بزوجته سبب مأساته، وأن يأتوا له بالكاتب الصحافي رئيس تحرير «الأهرام» محمد حسنين هيكل، وبورق أبيض لأنه يريد أن يكتب مذكراته. الغريب أن الشرطة فتشت آخر شقة أقام فيها اللص في شارع محمد علي، لتجد رسالة موجهة إلى رئيس تحرير «الأهرم»، كتبها سليمان في كراسة مدرسية، ونشر هيكل نصها في الصفحة الأولى من «الأهرام». طلب اللص منه أن تنشر له الجريدة سيرته الذاتية، في حلقات، حتى إنه كتب عناوين الحلقات: «محمود أمين يتكلم بعد صمت ويخص الأهرام بهذه الرسالة»، وشرح لهيكل بأسلوب روائي مليء بالأخطاء اللغوية دوافعه إلى السرقة، وخيانة زوجته له»، ونفى عن نفسه أن يكون «سفاحاً، بل مجرد إنسان منكوب بخيانة زوجته». نشر هيكل الرسالة كاملة، لتنتهي قصة «السفاح» صحافياً.

مع صخب هذه الحوادث، كان ثمة «عقل» آخر يتتبع، ويربط الوقائع والدوافع، ويتابع الرسائل، وينشغل بها. لم يتوقف نجيب محفوظ كثيراً أمام الصخب والضجيج الذي أحدثته «أولاد حارتنا». المعركة حولها لم تشغله طويلاً، فقد كان مشغولاً بالسفاح، أو اللص الغامض، الذي سيكون لاحقاً بطلاً لروايته «التالية». حتى أن الكاتب يحيى حقي سأله في تلك الأيام: ماذا تقرأ هذه الأيام وما يشغلك؟ فأجابه: لا شغل ولا تفكير إلا في محمود أمين سليمان. وإذا كان هم محفوظ في «أولاد حارتنا» الوصول إلى «مصرع الطغيان، ومشرق النور والعجائب»، فإنه حاول أن يختبر ذلك في «اللص والكلاب» التي كانت إعادة كتابة لـ«أولاد حارتنا». هي قصة واحد من أبناء الحارة، يبحث عن العدالة، مستخدماً هراوته الخاصة، ولكن من دون أن يقدم بديلاً فيكون مصيره الفشل.

أعمال محفوظ التي تلت «أولاد حارتنا» لم تكن سوى حكايات أخرى عن الحارة، أو حكايات عن أبنائها ولكن في رحلة بحثهم عن «النور». متأخراً اعترف الروائي بذلك، قبل أيام من افتتاح مكتبة الإسكندرية سألته (في حوار منشور في أخبار الأدب): هل تتوقع أن تضمّ المكتبة الكتب الممنوعة؟ ضحك آنذاك وأجاب: «في أيامنا، كان في كتب ممنوعة، يعني أنا ماكنتش عارف أقرأ كتاب «الاشتراكية» لسلامة موسى، وكان موجوداً في دار الكتب، ولكن استعارته ممنوعة حتى داخل المكتبة نفسها». سألته: ألم تفكر في أن تحصل على الكتاب من سلامة موسى نفسه وقد ربطتك به علاقة صداقة؟ أجاب: «لا، لأن سلامة موسى عبّر في مجلة «المجلة الجديدة» عن الأفكار الموجودة في الكتاب ولكن بأسلوب آخر».

أسلوب آخر... ربما كان ذلك درساً آخر تعلمه محفوظ من سلامة موسى، أي أنه يستطيع أن يقول ما يشاء، عليه فقط أن يغير الأسلوب إذا وجد أن أسلوبه الأول غير مفهوم، أو صح للجدل، وهذا ما فعله. كانت «اللص والكلاب» صفعته لمن تآمروا على «أولاد حارتنا»، هي إعادة كتابة لها، وهو ما أدركته «الرقابة» وقتها، وكادت أن تمنعها!

محفوظ: لست فيلسوفاً لكني متفلسف

مبكراً، حاورت مجلة «حوار» اللبنانية (أبريل 1963) نجيب محفوظ عن الرواية، التي وصفها المحاور بأنها لا تضيف جديداً إلى الفلسفة الإنسانية، الجديد هو إضافتها هذا الشكل الفني إلى الأدب العربي. محفوظ أجاب بهدوء: «أولاد حارتنا» لا تضيف جديداً إلى الفلسفة الإنسانية، هذا حق ولكن متى ادعيت أنني فيلسوف بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة؟ الفيلسوف هو الذي يضيف جديداً إلى الفلسفة الإنسانية، أما الأديب المتفلسف فهو الذي يعبر تعبيراً فنياً عما يأخذه من هذه الفلسفة، وهو يفيد الفلسفة بذلك، لأنه يحولها إلى تجربة حية تعيش في النفس البشرية، بعدما كانت معادلة عقلية يختص بها الفلاسفة وتابعوهم. ماذا أضاف شكسبير أو غوته، أو إبسن أو شو إلى الفلسفة الإنسانية؟ لا شيء. الأدب لا يخلق الفلسفات، ولكنه يعالجها، وإذا وجد أدب، وفي الوقت نفسه أضاف جديداً إلى الفكر، فذلك لأن مؤلفه فيلسوف وأديب معاً، مثل سارتر».

حاول محفوظ أن يقدم رؤيته للشكل الفني الذي اختاره إطاراً لفكرته في الرواية، وقال: «لكن ما هو الشكل الفني لـ «أولاد حارتنا؟ لعله، أقول لعله، شيء نقيض ما فعل سويفت في رحلته المشهورة، فقد نقد الواقع عن طريق الأسطورة، أما هنا، فأنا أنقد الأسطورة عن طريق الواقع، لقد ألبست الأسطورة ثوب الواقع لتزداد للواقع فهماً وأملاً».

جريدة «الأهالي» تعيد نشر «أولاد حارتنا» بعد محاولة اغتيال صاحب نوبل في التسعينيات

محفوظ رافضاً طبع الرواية في مصر إلاّ بعد موافقة الأزهر: هذه رواية إسلامية إيمانية مظلومة
back to top