«أولاد حارتنا»... سيرة رواية «ملعونة» «6 - 7»

فتوى تتحوّل إلى سكين في رقبة نجيب محفوظ

نشر في 02-09-2016
آخر تحديث 02-09-2016 | 00:05
بمجرد نشر الرواية المثيرة للجدل، في جريدة «الأهرام» نهاية عام 1959، اندلعت ردود الفعل العربية والدولية. في بيروت، اهتم مراسل مجلة «الآداب» بالخلاف الناشب بشأن رواية محفوظ الجديدة، في حين دعا أحد كبار المترجمين باحثاً شاباً إلى ضرورة ترجمتها إلى الإنكليزية.
ومن حسن الحظ، أن النسخة التي ترجمها المترجم الشاب بمساعدة من محفوظ نفسه، تعتبر أكمل نسخة حتى الآن، علماً أن الطبعة العربية الوحيدة الصادرة عن دار الآداب البيروتية اعتبرها محفوظ ناقصة.
في مايو 1963، سأل سعد كامل، المحرر في «آخر ساعة»، نجيب محفوظ: لماذا لم تصدر «أولاد حارتنا» حتى الآن في كتاب؟ أجاب: «لم تنشر لأنني لم أتمكن من الحصول على تصريح من رقابة الكتب آنذاك بنشرها، ومع أن هذه الرقابة ألغيت فإن أي ناشر يخشى عرض الرواية نظراً إلى اعتراض الأزهر. سأله المحاور: وما مصيرها الآن؟ أجاب: «حاولت جهة في لبنان الحصول على حق طبعها ولكنني أجلت ذلك إلى حين نشرها في مصر أولاً بعد أن يزول سوء التفاهم الذي أثاره الأزهر والأخذ والرد الذي دار حولها».

كانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها محفوظ عن منع رسمي للرواية داخل مصر لعدم تمكنه من الحصول على تصريح من الرقابة، ثم خشية الناشرين من نشرها. بعد أكثر من عامين على هذا الحوار، تساءل الروائي محمد جبريل في مقال له في جريدة «المساء» (26 يونيو1965): «متى تصدر أولاد حارتنا في كتاب؟».

سرد جبريل كثيراً من التفاصيل، مؤكداً إحجام ناشر محفوظ عن طبع «أولاد حارتنا» مكتفياً بأن يعلن في آخر كل مؤلف جديد لنجيب محفوظ أن «أولاد حارتنا» تحت الطبع... من دون أن يقدم على طباعتها فعلاً. وأضاف جبريل: «ولعل في حرص الناشر على أن تكون «أولاد حارتنا» تحت الطبع دوماً ما يؤكد أن قراراً بعدم النشر لم يصدر، وإلا لما أصرّ على أن يعلن في نهاية كل فصل عن قرب موعد صدورها. ألا تعني «تحت الطبع» قرب موعد الصدور؟». اقترح جبريل حلاً بأن: «تنهض بمسؤولية طبع «أولاد حارتنا» دار نشر عامة، أي تابعة للقطاع العام مثل الدار المصرية للتأليف والترجمة والدار القومية وغيرهما... فليس من المعقول أن يرفض محفوظ عرضاً مغرياً من دار نشر بيروتية بطبع «أولاد حارتنا» ويصرّ على أن تصدر الرواية مثل باقي أعماله في القاهرة. وليس من المعقول أن يكون هذا موقفه، ثم لا تنهض دور نشر القطاع العام بأول واجباتها وهو تذليل عقبات النشر أمام الأدباء والفنانين. وأديبنا ليس نكرة، إنه واجهة مضيئة لتطور أدبنا العربي الحديث».

طال انتظار محفوظ لأكثر من سبع سنوات. ظلّ متردداً حتى استجاب لعرض دار الآداب البيروتية، لتصدر الرواية في ديسمبر عام 1967. تحدث سليمان فياض أنه التقى محفوظ في جلسته الأسبوعية في مقهى ريش، وسأله عن مصير نشر الرواية في كتاب. أجابه محفوظ: «يبدو أن السحار متردد في نشرها، ولا أظنّ أنها ستنشر في مصر». قال فياض: «على أية حال، لديّ الناشر إذا رفضت أية دار مصرية نشر الرواية». سأل محفوظ: من؟ أجاب فياض: «دار الآداب البيروتية». لم يعترض الروائي، واتصل فياض بسهيل إدريس الذي قال: «سأكون في القاهرة خلال أسبوع لأجل الرواية». فعلاً، جاء سهيل واتفق مع محفوظ على نشر الرواية، التي مهدت لها مجلة «الآداب» بحملة إعلانية بعنوان «الرواية التي طال انتظارها».

طوال سنوات الانتظار، لم يكن ثمة قرار رسمي مكتوب بمنع نشر الرواية. لم ترفض الرقابة أو توافق... وفي هذه السنوات، كانت الضجة هدأت قليلاً، وانشغل محفوظ بأعماله الأخرى، والدولة بمشروعها. بين الحين والآخر، كانت الصحف تنشر دراسة هنا أو هناك عن الرواية المثيرة للجدل. لكن في مايو 1968، أصدر مجمع البحوث الإسلامية أول تقرير رسمي بمنع الرواية، استعرض فيه أحداثها وشخصياتها... ورصد التقرير: «جوانب المؤاخذة في القصة، ولا يخفف من وقعها الانتقال من الأحداث الطبيعية وشخصياتها إلى أحداث دالة وشخصيات رامزة، فإن ذلك كله لا يخفي الوجه الحقيقي لكل حادثة ولكل شخصية، كذلك لا يخفف من وقع هذه المؤاخذات أن ما قدمه الكاتب من حيث هو، بعيداً عن المعتقدات والمقدسات، عمل فني ممتاز. وقد كان في مقدور الكاتب أن يخرج عمله الفني بعيداً عن هذا السقوط»... وانتهى التقرير إلى توصية: «بعدم نشر القصة مطبوعة أو مسموعة أو مرئية».

لماذا صدر التقرير في هذا التوقيت؟ ليست لدينا إجابة مؤكدة، ولكن يشير البعض إلى أن طبعة من الرواية البيروتية تسربت إلى القاهرة، وخشي مجمع البحوث أن يطلب البعض توزيعها في مصر، فاستبقه بالتقرير.

عام 1962، وصل إلى القاهرة الشاب فيليب ستيورت (المولود في لندن عام 1939)، ويدرس العربية في جامعة أكسفورد. كان مطلوباً منه اختيار رواية لترجمتها، وكتابة بحثه للتخرج. لم تكن الترجمة بهدف النشر، بل هي مجرد ترجمة تجريبية بهدف التخرج. التقى فيليب المترجم الشهير دنيس جونسون ديفز الذي رشح له رواية «أولاد حارتنا» التي لم تكن صدرت بعد بالعربية في كتاب، ولم تكن الضجة التي أثارها نشرها مسلسلة هدأت بعد.

فيليب التقى محفوظ الذي ساعده في الترجمة، وصدرت في طبعة أكاديمية محدودة وفقيرة عام 1981. لم تبع الترجمة الإنكليزية للرواية سوى 400 نسخة طوال ثماني سنوات حتى حصول محفوظ على جائزة «نوبل». في أثناء الترجمة، طرح فيليب قضايا كثيرة على محفوظ، حاول مناقشته في تصوراته الدينية والفنية، سأله محفوظ: «ماذا في الرواية يثير غضب الرأي العام؟». عدّد فيليب ثلاث قضايا: «تجسيد الأنبياء روائياً، موت الجبلاوي في الرواية وكأنه تمثيل لموت الإله، وأخيراً محاكاة القرآن على اعتبار أن الرواية تنقسم إلى 114 فصلاً (عدد سور القرآن)». محفوظ ذكر لمترجمه عندما سرد له الاعتراضات ضاحكاً: «أعوذ بالله. سأوضح لك الأمر: الرواية بالمقدمة 115 فصلاً، هذا تقسيم لم يكن في ذهني في أثناء الكتابة، كان في ذهني أن تكون الرواية من خمسة فصول رئيسة. أما التقسيم داخل الفصول فتمّ بعدما انتهيت من الرواية، أرقاماً لمجرد تسهيل القراءة ليس إلا، وسور القرآن تحمل أسماء لا أرقاماً، فضلاً عن أنها متفاوتة الطول». أضاف: «أما ما يتعلق بفكرة تجسيد الأنبياء، فهو أمر مرفوض من معظم رجال الدين، وفي الأديان كافة، وقد تعرض كازنتزاكس لهجوم شديد بسبب روايته «المسيح يصلب من جديد». لا يريدون أن يتصوروا أن الأنبياء بشر مثلنا، يأكلون ويشربون، وردي عليهم من القرآن: «وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق»، ورغم ذلك أنا لم أكن أقصد الأنبياء في روايتي. قاسم ليس هو النبي محمد، هو شاب ينتمي إلى قاهرة القرن التاسع عشر، ليس شاباً من مكة ينتمي إلى القرن السابع».

تابع: «أما ما يتعلق بالجبلاوي، فالماركسيون هم الذين تصوروا في نقدهم أنني أدعو إلى موت الإله. الجبلاوي ليس هو الله المطلق الخالد، إنما هو الإله في أذهان بعض البشر. لا يمكن أن يمثل الله شيئاً لأنه ليس كمثله شيء. عندما انتهيت من الرواية شعرت بأنني وجدت إيماني».

تعددت النقاشات طوال أيام الترجمة، وفي كل لقاء كان محفوظ يكشف بعضاً من مصادر إلهامه. قال إنه تأثر في الرواية بجورج برنارد شو تحديداً في مسرحيته «العودة إلى متوشولح» التي تتضمن خمسة فصول عن تاريخ البشرية: «إنه الكتاب الغربي الوحيد الذي يمكن إقامة علاقة بينه وبين أولاد حارتنا».

يرصد فيليب 961 اختلافاً بين النص الذي نشرته «الأهرام» ونص الرواية الصادر عن دار «الآداب»، وهي تمثّل ما يقرب من 1241 كلمة ناقصة بخلاف آلاف الاختلافات في علامات الترقيم. اعتمدت طبعة دار «الآداب» على المخطوط الأصلي لأن طبعة «الأهرام» فيها كثير من الكلمات التي سقطت في أثناء عملية الكتابة، كذلك أن طبعة «الآداب» فيها فقرات كاملة محذوفة، لذا فالنصان غير مكتملين، محفوظ أبدى غضبه من طبعة دار الآداب: «ناقصة، ولم أشارك في مراجعتها». كذلك قال إن «الأهرام» لم تعد المخطوط الأصلي للرواية، ولم يسأل عنه محفوظ فاستنتج ضياعه. الترجمة الإنكليزية قد تكون هي النص الوحيد المكتمل للرواية بعد مقارنتها بالنصين، فضلاً عن مراجعة محفوظ بنفسه، ومساعدته في الترجمة!

بعد حصول محفوظ على جائزة «نوبل» تجدّد الجدل، خصوصاً أن لجنة الجائزة أشارت في تقريرها إلى الرواية باعتبارها «رواية بحث الإنسان الدائم عن القيم الروحية». في حفلة أقامها الرئيس الأسبق مبارك لتكريم محفوظ ومنحه «قلادة النيل» أرفع وسام مصري، أثار عدد من المثقفين قضية منع «أولاد حارتنا»، وقال مبارك: «ليس ثمة ما يمنع نشرها»، وهو ما تحمس له وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني الذي أعطى تعليماته لهيئة الكتاب بالبدء فوراً في نشر الرواية ما دام لا يوجد حكم قضائي يمنع نشرها، فنشرت جريدة «الجمهورية» الخبر في صفحتها الأولى.

اللافت أن اجتماعاً لمجلس الوزراء في 30 نوفمبر 1988 ناقش موضوع طبع الرواية، وانقسم المجلس إلى فريقين: فاروق حسني المتحمس للنشر، وعلى الجانب الآخر وزير الإعلام صفوت الشريف الذي رفض طبع الرواية، وطلب عرض الموضوع على الرئيس مبارك مجدداً، واستقر الرأي على منع الرواية.

لا يتذكر فاروق حسني هذه الواقعة، مؤكداً أنه هو من أعطى أوامره لسمير سرحان، رئيس هيئة الكتاب آنذاك، بطبع الرواية من دون تدخل من مبارك. لكن جابر عصفور ويوسف القعيد اللذين شهدا تكريم محفوظ يؤكدان صحة الواقعة، ويبدو أيضاً أن لنظام يوليو في مراحله المختلفة جناحين، ودائماً ما ينتصر العنصر الأمني اليميني، فقد أصدر مجمع البحوث الإسلامية بعد يوم من اجتماع مجلس الوزراء بياناً يجدّد فيه منعه صدور الرواية، رغم أن أحداً لم يطلب منه أساساً إذناً أو يقدم له طلباً لإبداء الرأي. هل كان صفوت الشريف وراء هذا المنع الثاني، من ثم وراء التقرير؟ لا أحد يعلم الإجابة.

في يونيو 1991، كان الشيخ محمد الغزالي ضيفاً على صالون إحسان عبد القدوس الثقافي، حيث اعترف لأول مرة أنه كتب تقريراً رفعه إلى الرئيس عبدالناصر يعترض فيه على نشر الرواية، وشاركه في كتابة تقارير أخرى الشيخان محمد أبو زهرة وأحمد الشرباصي. ذكر الغزالي أن الرواية «كانت ناضحة بأن الحضارة محت الدين كله»، داعياً محفوظ إلى التبرؤ من «أولاد حارتنا» معتبراً أنه كاتب ثري ولديه أعمال رفيعة القيمة»... ولكن الروائي علق باختصار على ما طلبه الغزالي: «الإنسان لا يستطيع أن يتراجع عن عمل كتبه»، معلناً أنه على استعداد لمناقشة شيوخ الأزهر في ما جاء في الرواية... ولكن للمرة الثانية لم يكن أي من الشيوخ مستعدا للمناقشة!

يتجدّد الجدل بعدما أصدر الخميني فتوى بقتل الروائي سلمان رشدي (فبراير 1989) بسبب روايته «آيات شيطانية». في التوقيت ذاته سُئل عمر عبدالرحمن مفتي الجماعة الإسلامية عن رأيه في رواية رشدي فأجاب: «لو أن الحكم بالقتل نفذ في نجيب محفوظ حين كتب «أولاد حارتنا» لكان ذلك بمثابة درس بليغ لسلمان رشدي». وكرر إجابته تلك في صحف عدة، وفي خطبته للجمعة، بصيغ أخرى: «لو قتلنا محفوظ من 30 سنة ماكنش طلع سلمان رشدي». والغريب أن رجال الأمن المصري اتصلوا بمحفوظ كي يخصصوا له حراسة خاصة، فرفض قائلاً: «عبارة عمر عبدالرحمن ليست فتوى بالقتل، ولكنها جملة شرطية لأنه يقول لو قتلنا محفوظ من 30 سنة». فعلاً، ما قاله عبدالرحمن لم يكن فتوى، كان رسالة أو إشارة لقتل محفوظ.

وهو ما استجاب له بعد خمس سنوات، شاب لم يقرأ لمحفوظ حرفاً ليرتكب الجريمة في يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994، وكان الروائي يستعد لركوب السيارة متجها إلى ندوته الأسبوعية، إذ طعنه بسكين في رقبته محدثاً جرحاً غائراً، ولاذ بالفرار إلى أن قُبض عليه وعلى المجموعة المشاركة في الجريمة، واعترف بأنه ارتكب الجريمة بسبب «أولاد حارتنا» التي لم يقرأها.

مجلة «الآداب»
اهتمت مجلة «الآداب» البيروتية اهتماماً خاصاً بأزمة «أولاد حارتنا». وكتب مراسلها في القاهرة محيي الدين محمد في عدد فبراير 1960 منتقداً الهجوم على الرواية التي لم تنشر في «كتاب جامع بل قُرأت متفرقة في جريدة يومية مع ما يؤديه ذلك من نسيان للملامح، ومن فواصل زمنية، ومن تشتت، ومن فقدان للخيط الرئيس الذي يلملم الشخصيات ويعطيها الطابع الإنسيابي الحياتي». كذلك أشار في مقالته إلى أن سر الضجة التي أثيرت حول العمل ربط بها بعض المسؤولين في الأزهر، وبعض النقاد في الصحف اليومية والندوات، شخصيات الرواية بالرجال العظام في التاريخ كالأنبياء»... وأوضح الكاتب: «هجوم الأزهر يستند إلى ما يسميه تطاول الروائي على مقدسات الأمة العربية، مسلمين ومسيحيين، يرفض أن تكون شخصية الرسول مرسومة بهذه الألوان «الضحلة» التي لا دلالة لها سوى الرغبة في السخرية من الأديان. أما هجوم النقاد فاستند إلى نوعية أكثر نضجاً، فالبعض أقام في ذهنه مقابلة بين هذا العمل وبين أمثاله في الغرب، وكان دافعهم إلى إقامة المقابلة هو رغبة شخصية لنجيب محفوظ بأن يكون كاتباً على غرار توماس مان كروائي إنساني، على أن يكف نهائياً عن مجرد التصوير الحرفي لحياة الطبقة الوسطى في المدينة». لكن محيي الدين محمد نفسه يدافع عن هذا الهجوم النقدي والديني على محفوظ: «لم يتخل محفوظ عن طبقته، لم يقفز بعمله الفني إلى المستوى الإنساني، إنه مغمور ما زال في وحل شرقنا العربي، يحاول أن يداوي أمراضه، ويشفي قروحه، والظن الساذج يرجع إلى انخداع بعض هؤلاء النقاد برموز الرواية وتسرعهم في الاستنتاج».

وفي النهاية، يدعو محيي الدين محمد النقاد ومهاجمي محفوظ إلى التمهّل في الحكم والصبر حتى «تخرج الرواية كاملة في كتاب».

فاروق حسني تحمس لطباعة «أولاد حارتنا» في حين رفض الفكرة صفوت الشريف

عندما انتهيت من الرواية شعرت بأنني وجدتُ إيماني نجيب محفوظ

مترجم الرواية إلى الإنكليزية يرصد 961 اختلافاً بين نص «الأهرام» ونسخة «الآداب» البيروتية
back to top