«أولاد حارتنا»... سيرة رواية «ملعونة» «4 - 7»

اتفا ق بين الرقابة ومحفوظ على عدم نشر الرواية في مصر

نشر في 31-08-2016
آخر تحديث 31-08-2016 | 00:03
في الحلقة الرابعة من حكاية الرواية «الملعونة»، يحكي الكاتب مسيرة الرواية بعد أسابيع من نشرها، أواخر الخمسينيات، يومياً في جريدة «الأهرام»، راصداً مساحات أوسع من ردود الفعل التي انتابت القراء وهم بعشرات الآلاف.
نجيب محفوظ بدأ ينتبه إلى أن ثمة من يحاول أن يضفي على الرواية معاني لم يكن يقصدها، وبدأ الكاتب الأشهر في مصر وقتها، والذي أصبح بعد ذلك صاحب نوبل الأدب العربي الوحيد، ينتبه إلى خطورة ما يحاك له في الخفاء، سواء من أبناء التيار المتشدد أو من أبناء السلطة في مصر، وبات من المهم الاتفاق معه على صيغة تسمح له بنشر الرواية في العالم ما عدا مصر.  
التزم محفوظ الصمت تماماً طوال أيام نشر الرواية، التي كانت الحلقة الأخيرة منها الجمعة 25 ديسمبر 1959. في اليوم ذاته، ذهب محفوظ إلى ندوته الأسبوعية في «كازينو الأوبرا». كان اعتاد أن ينصرف كل أسبوع في الواحدة والنصف، ولكنه في ذلك اليوم حرص على البقاء حتى الثالثة والنصف لسخونة النقاش حول الرواية الجديدة. تزعَّم رفض الرواية في الندوة، مدرس أدب في كلية الآداب وناقد صحافي في إحدى الجرائد اليومية، لم تشر جريدة «الجمهورية»، التي غطت تفاصيل اللقاء إلى اسميهما. ولكن محفوظ أوضح وجهة نظره كاملة في الرواية لأول مرة، إذ قال: «كنت أريد الكشف عن الهدف الأساسي للبشرية، وهو البحث عن سر الكون. كي تستطيع البشرية الكشف عن هذا السر، تحتاج إلى التفرغ والاستعداد له، وهي لن تتمكن من هذا إلا بعد القضاء على استغلال الأغنياء للفقراء، والصراع بين الناس لأجل لقمة العيش». وأضاف: «تصوّر القصة هذا الصراع المرير الذي تزعمه الأنبياء والرسل دفاعاً عن الفقراء وتهيئة العيش السعيد للناس أجمعين كي يتفرغوا للبحث الأعظم. ولكن ما إن تنتهي الرسالة حتى يعود الأغنياء فيقبضون على زمام الأمور، وتعود المعركة من جديد للوصول إلى العدل والرفاهية للجميع. ثم تدخل «العلم» بعد انتهاء الرسالات، ليقوم بالغاية نفسها وهي إسعاد الناس. ولكن المستغلين سخروا العلم لمصلحتهم أيضاً، وقتلوا رمزه في القصة. إلا أن شخصاً آخر استطاع الهروب بسر الاختراعات العلمية الحديثة ليعاود الكفاح لأجل إنهاء الصراع بسبب لقمة العيش والتفرغ لمعرفة سر الحياة».

الناقد، الذي لم تذكر الجريدة اسمه، اعترض على كلام محفوظ، معتبراً أن «القصة لم تضف جديداً، لأنها فكرة قديمة. بالتالي، هي مجرد تسجيل لتاريخ البشرية بلا إضافة من الكاتب، الذي لم يحاول أن يستخلص من التاريخ مغزى عاماً جديداً، أو موقفاً فكرياً خاصاً، وأنه فضلاً عن ذلك جعل العلم يتمسّح في الغيبيات، في حين أنه نبذها من أول ظهوره حتى الآن».

في 2 يناير 1960، أي بعد أقل من أسبوع من الانتهاء من نشر الرواية، أجرى أحمد حمروش حواراً مطولاً مع محفوظ، نشرته «الجمهورية»، تحدث فيه عن اندهاشه من الضجة ضد الرواية وأوضح قصده من كتابتها: «هذه الرواية أقصد بها قصة البشرية... وأبعد ما يكون عن ذهني أن أكتب سير الأنبياء في حارة. ولكن أود أن أبلغ الرجل العادي أنه حتى لو كانت حياته في حارة، فإن الظروف تقتضيه أن يقتدي تماماً بما يفعله النبي... أي نبي».

سأله حمروش: لكني سمعت يا نجيب، وأنا لم أقرأ الرواية بعد، أنك أظهرت الشخصية التي تمثل نبينا محمداً وهي تدخن الحشيش؟

أجاب محفوظ: «هذه الشخصية ليست محمداً في ذاته، وهي ليست النبي الذي ندين بديانته، ولكنها «إنسان» في الحارة... وإلا فقل لي هل كان واجباً أن نحرق «كليلة ودمنة» والحيوانات فيها ترمز إلى البشر... والكلب فيها يرمز إلى «الوفاء» رغم أنه «يهَوهو».

في الحوار تحدث محفوظ عن انتهاء المرحلة الواقعية التقليدية في إبداعه: «ذلك ليس نتيجة للتفكير الفني، بل نتيجة لتغيير الشخص نفسه. كنت في الماضي أهتم بالناس وبالأشياء، ولكن الأشياء فقدت أهميتها بالنسبة إلي، وحلّت محلها الأفكار والمعاني، وأظن أن هذا تطور طبيعي بالنسبة إلى سن الكاتب. أصبحت أهتم اليوم بما وراء الواقع»... هو الأمر الذي اعتبره حمروش فلسفة جديدة. لكن محفوظ اعترض على استخدام كلمة فلسفة لوصف الأمر: «هي ليست فلسفة... أرجوك، فأنا لست فيلسوفاً، ولكني أحلم وهذه هي أحلامي، أتطلع إلى لون من ألوان الحياة تستطيع أن نطلق عليه «الصوفية الاشتراكية». وأوضح محفوظ مقصده من المصطلح: «هو التطلع إلى الله، والإنسان لا يستطيع أن يعرفه إلا إذا ارتفعت حياته إلى مستوى نظيف خال من المفاسد والشرور. وطالما ثمة إنسان يستغل الآخرين فالفساد والشر باقيان، المُستغِل شرير، والمُستَغَل بائس... والعلاقات بينهما فيها حقد وكراهية، وما بين الشر والبؤس، أتطلع الى الله». ويضيف: «أتطلع إلى حياة بإنسانية. علاقات الناس تقوم على الحب والتعاون كي يستطيعوا أن يتجهوا إلى الله، وهذه هي الاشتراكية التي أطلبها». يسأله حمروش: وهل تتفق رواياتك الأخيرة مع أفكارك الجديدة؟ يجيب: «أظن ذلك».

تقديس العلم

في حوار آخر نشرته «الجمهورية» (9 أبريل 1960) تحت عنوان «رحلة في رأس نجيب محفوظ»، سأله إبراهيم الورداني: في «أولاد حارتنا»، لماذا حبست نفسك ومعك القراء في زنزانة الأسلوب الرمزي؟! أجاب: «اسمع، لكل واحد فكرة في ما يتعلق بهذا الكون الذي نحيا فيه، وأحسست أنني أريد أن أقول فكرتي بتلك الطريقة التي عرضتها بها. حتى الآن لم أعرف لماذا كتبتها هكذا، وأصارحك بأنني أعود إلى نفسي أحياناً، فأقول إنها دعوة إلى الاشتراكية وتقديم العلم بطريقة الدين... نعم، لماذا لا يكون العلم مقدساً مثل الدين؟ أو لماذا لا أصارحك... ربما في هذه الرواية تطور فكري لي أنا شخصياً لم يتضح لنفسي حتى الآن».

لم تكن أفكار الرواية، وتجديد محفوظ وأسئلته داخل النص فحسب ما يشغل الوسط الثقافي آنذاك، بل كان السؤال الأهم: هل نشرت الرواية كاملة أم تعرضت للحذف؟  

ملك إسماعيل حاورت محفوظ في «المساء» ( 26 أكتوبر 1960) سألته: «روايتك الأخيرة «أولاد حارتنا» التي كانت تنشر في «الأهرام»، لماذا لم تستمر في نشرها حتى نهايتها؟» بعد صمت، ابتسم الروائي قبل أن يجيب: «إزاي الكلام ده؟ أنا نشرتها إلى آخرها ولكن القراء لم يفهموها... وعندما تنشر في كتاب ويقرأونها كلها ستزيد قوتها ويتأكدون أنني أكملتها إلى النهاية في الأهرام!».

استمرّ محفوظ يدافع عن روايته، واستمرّ اهتمام الوسط الثقافي والصحافي بها. مرة أخرى تعود مجلة «الإذاعة» ( في 12 نوفمبر 1960) لتسأل محفوظ  في تحقيق بعنوان «الجديد الذي أحلم بتحقيقه»، شارك فيه عدد كبير من الأدباء والفنانين، من بينهم عبدالوهاب، وأمينة رزق، وصلاح جاهين. قال محفوظ: «حلمي أن أترك الأدب وأعيش مرتاح البال في مزرعة أعمل فيها بعيداً عن ضجيج المدينة وأهل المدينة». ولكن محرر المجلة لم يترك محفوظ، وذهب به بعيداً عن طبيعة التحقيق... فسأله: «أنت مثلاً كنت تسير في رواياتك وقصصك كافة ككاتب واقعي طبيعي، يصف ويحلل ثم ظهرت لك فجأة آخر رواية كتبتها «أولاد حارتنا»، وكان لونك فيها يختلف تماماً عن واقعيتك التي عرفناها عنك في قصصك كلها. كانت «أولاد حارتنا» رواية رمزية، تناولت فيها شخصيات صغيرة ورمزت بها إلى شخصيات خطيرة أنت تقصدها؟» فرد محفوظ: «أبداً، أنا لم أرمز إلى شخصيات كبيرة أنا قصدت الرمز من خلال هذه الشخصيات الصغيرة إلى أفكار كبيرة. بعض الشخصيات رمزت به إلى التفكير الديني، وبعضها إلى التفكير العلمي، لأصور أفكار العصر الذي نعيشه، ونعيش قلقه. وأنا أعرف فترة القلق النفسي والخوف التي يعانيها الفنان قبل أن يقدم على تحقيق فكرة جديدة أو حلم جديد. أما ما هو الجديد الذي أريد أن أكتبه بعد «أولاد حارتنا» فأرجوك يا عم، أنت عاوز توديني في داهية».

اتفاق «جنتلمان»

رتَّب حسن صبري الخولي، رئيس جهاز الرقابة على المطبوعات في ذلك الوقت، وقبل أن يصبح مبعوثاً شخصياً للرئيس عبدالناصر، لقاء بين محفوظ وعدد من شيوخ الأزهر المعترضين على نشر الرواية، وكان من بينهم ثلاثة كتبوا تقارير أوصت بوقف نشر ومصادرة الرواية وهم: الشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد أبوزهرة، والشيخ أحمد الشرباصي. ذهب محفوظ إلى مكتب الخولي في الموعد المحدد وتخلف الشيوخ الذين، ربما، خشوا من المواجهة، ودار حوار بين الخولي ومحفوظ انتهى إلى اتفاق «جنتلمان» أن بإمكان محفوظ نشر الرواية في أي بلد عربي باستثناء مصر إلا بموافقة الأزهر. «لا نريد أن ندخل في مشكلات مع الأزهر» كما قال الخولي.

محفوظ ذكر في حوار مع مجلة «باريس ريفيو» (1992) إن ما فعله مدير جهاز الرقابة على المطبوعات حسن صبري الخولي مجرد «نصيحة» بألا يطبع الرواية في مصر، مع تعهده بألا تُهاجم في الصحافة المصرية.

استجاب الروائي للنصيحة، وظلّ ملتزماً بالاتفاق، معتبراً أن لديه في الرواية رسالة لم تصل: «شعرتُ أن رسالتي لم تصل فلم أسع إلى الدفاع عنها ولم أسع إلى نشرها»... ولكن ما الرسالة التي أرادها محفوظ... ولكنها لم تصل؟ هل كانت رسالة سياسية؟

كان نجيب محفوظ توقف عن الكتابة طوال خمس سنوات، سماها «سنوات اليأس» أو «سنوات الجفاف» (1957-1952)، كان أنهى روايته «الثلاثية» ورفض ناشره الخاص عبد الحميد جودة السحار نشرها لحجمها الكبير، وإن كان البعض يرجِّح أن رفض السحار للرواية ليس بسبب حجمها ولكن لأسباب أخرى يمكن استنتاجها مما حكاه محفوظ لجمال الغيطاني في «نجيب محفوظ يتذكر»: «أخطأت خطأً كبيراً، لم أكرره في ما بعد أبداً في حياتي. في هذه الفترة تحدثت كثيراً عن هذا النوع من الروايات، وأفضت في شرح أفكاري، ونيتي في كتابتها يوماً ما، أحد الأدباء الذين استمعوا إليّ ذهب وشرع في كتابة رواية من هذا النوع، أي رواية أجيال، وأصدرها بعد ستة أشهر»... لم يذكر محفوظ اسم الكاتب الذي تحدث أمامه عن الفكرة، لكن يعرف المقربون من محفوظ أنه يقصد السحار نفسه وروايته «الشارع الجديد».

يقول محفوظ للغيطاني: «أذكر الفترة التي تلت رفض السحار نشرها بأسى، كانت صدمة فظيعة، بل إهانة، خصوصاً عندما قال لي لحظة رؤيته لها: إيه الداهية دي؟». سليمان فياض حكى الواقعة بطريقة أخرى: «قال محفوظ للسحار: أريد أن أكتب رواية عن مصر. استحسن السحار الفكرة وراهن محفوظ بأنه سيكتب هو أيضاً رواية «مصر»... فاتفقا أن يلتقيا بعد سنة... أيهما يستطيع أن ينتهي أولاً. السحار انتهى قبل الموعد المحدد... ونجيب قال لفياض في وصف رواية السحار: «حلوة... بس لو استنى عليها شوية وما استعجلش».

خدعة السحار، وصدمة محفوظ تسببا بتوقف محفوظ عن الكتابة، خصوصاً مع تأخر نشر «الثلاثية» خمس سنوات كاملة، يضاف إلى ذلك أنه تزوج عام 1954 فأصبح مسؤولاً فجأة عن ثلاث عائلات: أمه، وزوجته، وشقيقته التي تٌوفي زوجها وأبنائها... يذكر: «كان لا بد لي من عمل أحصل منه على دخل إضافي أواجه به مسؤوليات الزواج والأسرة الجديدة»، فوجد ملاذاً في فن آخر هو السينما التي أتاحت له دخلاً معقولاً، فكتب في تلك الفترة نحو 12 نصاً. كذلك كان يكتب القصة القصيرة بين الحين والآخر، فنشرت له مجلة «الرسالة الجديدة» في سبتمبر 1958 قصة قصيرة بعنوان «لك ما تشاء»، لم يضمها إلى أي من مجموعاته القصصية، ولا تشير إليها «الببليوغرافيات» عن أعماله!

عندما كان الصحافيون والنقاد يسألون محفوظ عن أسباب التوقف، كان يجيب دائماً: «الثورة حققت الأهداف، والمجتمع صار خالياً من القضايا التي تستفزني». كما أن «عصر ما قبل الثورة أصبح جثة هامدة»، ولم يعد هدفاً للكتابة.

محفوظ في أعلى درجات صراحته مع جمال الغيطاني قال له: «كان للسؤال حول أسباب التوقف جانب سياسي، وكانت هذه الإجابة تبعد عني الشبهات. بدا لي أن إجابتي سبب معقول، ولكن هل هذا حقيقي؟ إنه مجرد تفسير حقيقي». ويضيف: «ربما كانت الثلاثية هي السبب، إذ يمكن القول إنني أشبعت من خلالها رؤيتي، ولكنني لا أستطيع الجزم بذلك أيضاً... كان السيناريو عزاء محدوداً، وكنت في أسوأ حالات عمري، لدرجة أنني كنت أشتهي الموت!».

طريق الأنبياء أم الفتوات؟

من الممكن أيضاً، أن نجد تفسيراً لتوقف محفوظ عن الكتابة في تلك الفترة، في رواية محفوظ «السمان والخريف» التي نشرها عام 1962.

ربما يحمل محفوظ بعض ملامح بطل الرواية عيسى الدباغ، الوفدي الذي ينتمي إلى جيل ما بين الثورتين، ولكن يوليو تعاملت مع هذا الجيل بمنطق المنافسة، وأصرت، كما يقول صلاح عيسى في كتابه «شخصيات لها العجب»، على أن تقتلعهم من الخريطة السياسية المصرية، وخيرتهم بين أمرين لا ثالث لهما: أن يقرأوها على أنها بداية تاريخ الوطن، وأن كل ما قبلها لم يكن شيئاً إلا فساداً وخيانة، فيغتالوا بذلك تاريخهم، أو أن يلتزموا الصمت التام وينسحبوا من العمل العام، ويضعوا على أفواههم أقفالاً من حديد. لهذا يقول الدباغ: «كنا طليعة ثورة، فأصبحنا حطام ثورة».  يضيف عيسى: «كانت مشكلة الدباغ، أنه يكره العهد الجديد بقلبه، ولكنه لا يستطيع أن يكرهه بعقله. ومع أنه تلقى نبأ نجاح الثورة في إجلاء الإنكليز عن مصر، بارتياح، إلا أنه لم يخل من فتور مشوب بالغيظ لا لشيء إلا لأنه لم يتحقق على يد حزبه. وهكذا يظلّ عيسى الدباغ وجيله، أسرى الإحساس بالخيبة، لأنهم شاركوا في صنع الثورة، وحين انتصرت عادتهم بلا سبب، وأكرهتهم على خيار شرير، أن يؤيدوا بلا تحفظ، أو أن يصمتوا إلى الأبد!

لم يدم صمت الدباغ طويلاً. ذات ليلة من خريف 1957 بينما كان جالساً تحت تمثال سعد زغلول في الإسكندرية، يلتقي بشاب ممن حقق معهم سابقاً، حين كان حزبه في السلطة، ويدور بينهما حوار طويل. يدعوه الشاب لأن يتحاور معه في أحوال الدنيا، فذلك أفضل من أن تجلس في الظلام تحت تمثال سعد زغلول.

وأدرك عيسى أن الشاب يدعوه لأن ينفض عنه ثوب الإحساس بأنه زائد عن الحاجة ليستأنف نضاله في سبيل وطنه وشعبه. ومع أنه تردد قليلاً، إلا أنه انتفض في نشوة حماسة مفاجئة، مضى في طريق الشاب بخطى واسعة... تاركاً وراء ظهره مجلسه الغارق في الوحدة والظلام!

في 1957، شعر نجيب محفوظ بدبيب غريب يسري في أوصاله، وكما حكى لرجاء النقاش: «... وجدت نفسي منجذباً مجدداً نحو الأدب». كانت أفكار محفوظ في تلك الفترة تميل ناحية الدين والتصوف والفلسفة، فجاءت فكرة رواية «أولاد حارتنا» لتحيي داخله الأديب الذي ظنّ أنه مات. ولكن مع ذلك فالرواية، كما قال للنقاش: «لا تخلو من خلفية اجتماعية واضحة... لكن المشكلات التي صاحبتها والتفسيرات التي أعطيت لها جعلت كثيرين لا يلتفتون إلى هذه الخلفيات..».

يوضح محفوظ «الخلفيات الاجتماعية» التي يقصدها في حوار معه (جريدة القبس الكويتية - ديسمبر 1975): «لا أكتب إلا إذا حدث انفصام بيني وبين المجتمع، أي إذا حدث عندي نوع من القلق وعدم الرضا. بدأت أشعر أن الثورة التي أعطتني الراحة والهدوء بدأت تنحرف وتظهر عيوبها، بدأت تناقضات كثيرة تهزّ النفس، بدأت أشعر أن ثمة عيوباً وأخطاء كثيرة تهزّ نفسي، خصوصاً من خلال عمليات الإرهاب والتعذيب والسجن. من هنا، بدأت كتابة روايتي الكبيرة «أولاد حارتنا» التي تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات. كنت أسأل رجال الثورة: هل تريدون السير في طريق الأنبياء أم الفتوات؟».

تلميذ سلامة موسى

مبكراً جداً انشغل محفوظ بالفكرة الرئيسة التي دارت حولها «أولاد حارتنا»، تحديداً في أوائل الثلاثينيات، عندما التقى سلامة موسى لأول مرة. روى محفوظ تفاصيل اللقاء في «ثلاثيته»، عندما التقى أحمد شوكت (في شخصيته جانب من جوانب نجيب محفوظ مثله مثل كمال عبدالجواد في الرواية ذاتها) بعدلي كريم (الذي يبدو في الرواية معادلاً فنياً لسلامة موسى) ليعمل معه في مجلته «الإنسان الجديد»، كانت نصيحة عدلي لشوكت: «أنت تدرس الأدب، ادرسه كما تشاء، ولكن لا تنس العلم الحديث، يجب ألا تخلو مكتبتك، إلى جانب كتب الأدب، من كتب داروين وفرويد وماركس وإنغلز، هؤلاء علماء، لكل عصر أنبياؤه، وأنبياء هذا العصر هم العلماء. سلامة موسى هو الأب الروحي لنجيب محفوظ، القارئ الأول لأعماله الأولى، مرشده أيضاً لما ينبغي أن يقرأ. تكشف ثلاثية محفوظ ذلك بجلاء، كذلك حواراته المتناثرة: «وجهني سلامة موسى إلى أمرين مهمين، هما العلم والاشتراكية، ومنذ دخلا مُخي لم يخرجا منه إلى الآن».

إذاً بذرة الفكرة الأولى ألهمه إياها «موسى» الذي كان «أكبر مبشر في جيلنا بالعدالة الاجتماعية وبالعلم وبالرؤية العصرية، وبقدر تطرفه في الدعوة إلى العلم والصناعة وحرية المرأة كان في الجانب السياسي معتدلاً فلم يجنح إلى الدكتاتورية، لذلك اعتبره الأب الروحي للاشتراكية والديمقراطية». محفوظ نفسه احتفظ بتلك الأفكار، كان مشغولاً فعلاً بدور العلم في حياة البشر وتقدمهم.

في 22 أغسطس 1959 (أي قبل أقل من شهر على نشر «أولاد حارتنا» أجرى عبدالله أحمد عبدالله، «الشهير بميكي ماوس» حواراً مع محفوظ في مجلة «الإذاعة»، سأله عن حكمته التي التقطها من الحياة: أجاب محفوظ فوراً: «العلم أساس الملك».

أديب نوبل توقف عن الكتابة ٥ سنوات سمّاها «سنوات اليأس أو الجفاف»

لماذا لا يكون العلم مقدساً مثل الدين؟

محفوظ دافع عن روايته مؤكداً أنها لا تتضمّن سير الأنبياء بل إشارات إلى دورهم في تاريخ البشرية
back to top