Hitchcock/Truffaut... الكتاب الذي يغوص في عقل هيتشكوك

نشر في 31-08-2016
آخر تحديث 31-08-2016 | 00:04
فرانسوا تروفو متحدثاً إلى هيتشكوك
فرانسوا تروفو متحدثاً إلى هيتشكوك
تقليدياً يكون شهر أغسطس من كل سنة خاملاً في المجال الثقافي، فتعجّ دور السينما بأفلام بعد اعتبارها أتفه من أن تُعرَض في بداية الصيف وأسخف من أن تصدر في الخريف. لكن برز حدث نادر في هذا الموسم المحتدم وتَمثّل بميلاد ألفريد هيتشكوك.
بلغ عمر كتاب Hitchcock/Truffaut خمسين عاماً، وفيه يكشف «سيد التشويق» أسرار عقله المبدع خلال مقابلات مع فرانسوا تروفو، وقد أوحى هذا العمل أيضاً بإصدار فيلم وثائقي يحمل الاسم نفسه للمخرج كينت جونز على شبكة «إتش بي أو». يستحق الكتاب الإشادة به مجدداً لأنه لا يزال، بعد مرور نصف قرن، إحدى أكثر الدراسات الدقيقة والجاذبة عن الفكر الإبداعي.
يرتكز كتاب Hitchcock/Truffaut على قاعدة معجبين واسعة. في عام 1962، كان فرانسوا تروفو لا يزال شاباً وتألّق في اكتشافاته التقنية وأجرى مقابلة مع هيتشكوك للاستفسار عن عمله بالاستعانة بمترجم. نُشرت الوثيقة في فرنسا أولاً ثم في الولايات المتحدة (سمّاها تروفو في النهاية «هيتشكوك» بعدما أصبح مهووساً بالمشروع).

ربما يبدو الكتاب الذي يرتكز على المقابلات مملاً. لكن سخّر تروفو كامل قدراته الإبداعية لتغيير هذه الفكرة. تنقّل Hitchcock/Truffaut بين الأفلام، مروراً بسجل هيتشكوك الحافل، وكشف أنّ هيتشكوك الذي يُعتبر عموماً الورقة الرابحة لنجاح أي فيلم على شباك التذاكر لم يكن مجرّد أستاذ بارع كما وصفه نقّاد «الموجة الجديدة» بل كان رائداً أيضاً في مساعيه لتطوير الفن الشعبي الحديث.

معاصر بارع

يتولّى النقاد والصحافيون والمؤرخون تحليل آليات العمل الإبداعي. تُعتبر جهودهم مهمة لأن المبدعين لا يجيدون التحدث عما فعلوه بشكل عام. يتعدّد الفنانون الذين أجابوا عن أسئلة مرتبطة بأعمالهم طوال سنوات بأسلوب غامض وغير مفهوم، من بينهم إنغمار برغمان وبابلو بيكاسو وبوب ديلان: كان كلامهم مبهماً وهشاً ومضلِّلاً. أما هيتشكوك، فكان معاصراً بارعاً بشكل استثنائي ولم يكن يعرف ما يحاول فعله فحسب بل يستطيع التعبير عن مشاريعه بكل طلاقة.

إذا كنت من ضمن الذين يظنون أن الفن الخالد يشتق من القيود الحِرَفية (بمعنى أنّ العبقري لديه طريقته في اختراق الناس، مثلما يقاوم العاملون المجتهدون ضغوط السوق ويحاولون تلبية مطالب الجمهور)، يمكنك اعتبار مقابلات هيتشكوك نسخة إبداعية من برنامج «روزيتا ستون»!

هذا ما كنت أشعر به على الأقل! تلقّيتُ نسخة من كتاب Hitchcock/Truffaut حين كنت في السنة الأولى من مرحلة الدراسة الثانوية: أعطتني إياه أستاذة اللغة الإنكليزية التي كانت تخوض تجربتها التعليمية الأولى وتحاول إيجاد نص يناسب كل طالب. كتبت لي داخل الغلاف: «أفادني هذا الكتاب كثيراً. أعرف أنه سيؤثر فيك مثلما أثّر بي».

قد يكون ذلك الكتاب أفضل توصية تلقيتُها يوماً. أحتفظ به بقربي منذ ذلك الحين. أعتبره عملاً أدبياً مع أنه لم يكن مكتوباً بمعنى الكلمة بل كان واضحاً أن المشروع الذي أصبح قيد النقاش سيتحوّل إلى فيلم. أوضحت لي أستاذة اللغة الإنكليزية أن الكتاب يتمحور حول سرد القصص ومن الضروري أن يقرأه كل شخص يحاول إتقان السرد بطريقةٍ تضمن إعطاء الأهمية لكل تفصيل.

الكاميرات العلوية

أحب أن أفتح كتاب Hitchcock/Truffautعلى صفحة عشوائية وأقرأها. يشرح مخرج فيلم Psycho (مريض نفسي) في هذا المقطع سبب استعمال الكاميرات العلوية دوماً للكشف عن الحدث النهائي في الأفلام:

ألفريد هيتشكوك: رفعتُ مستوى الكاميرا حين كان بيركينز يصعد السلالم. يدخل الغرفة ولا نعود نراه لكننا نسمعه يقول: «أمي، يجب أن أنزلك إلى القبو. هم يتجسسون علينا». ثم نراه يصطحبها إلى القبو. لم أشأ أن أقطع المشهد الذي يحملها فيه إلى الأسفل وأصوّر لقطة من الأعلى لأن المشاهدين كانوا ليتساءلوا عما جعل الكاميرا تتحرك فجأةً. لذا علّقتُ كاميرا كي تلاحق بيركينز حين يصعد السلالم. وعندما دخل إلى الغرفة تابعتُ الصعود من دون أن أقطع المشهد، فوصلت الكاميرا إلى أعلى الباب واستدارت ونظرت إلى أسفل السلالم مجدداً. في غضون ذلك، عرضتُ نقاشاً بين الابن وأمه لإلهاء المشاهدين كي لا يلاحظوا ما تفعله الكاميرا. بهذه الطريقة أصبحت الكاميرا فوق بيركينز مجدداً حين اصطحب أمه إلى الأسفل ولم يلحظ الجمهور شيئاً.

اختلال توازن اللقطات

بالانتقال إلى أول فيلم أميركي نفّذه هيتشكوك بعنوان Rebecca، يركّز تروفو على ابتكار سلس وأساسي في أفلام المخرج اللاحقة، أي اكتشافه أن اختلال توازن اللقطات التي تجمع بين شخصين قد ينتج توتراً سردياً:

فرانسوا تروفو: كانت علاقة البطلة بمدبرة المنزل، السيدة دانفرز، جديدة بعض الشيء في أعمالك. وعادت للظهور في مناسبات متكررة لاحقاً ولم تقتصر هذه النزعة على السيناريوهات بل شملت المؤثرات البصرية أيضاً: يظهر وجهان، أحدهما جامد وكأنه تحجّر خوفاً من الآخر. هكذا نشاهد الضحية والجلاد في الصورة نفسها.

ألفريد هيتشكوك: أصبت! في فيلم Rebecca، استعملتُ هذه الحيلة عمداً. لم نشاهد السيدة دانفرز تمشي في أي مشهد ونادراً ما كنا نشاهدها تتحرك أصلاً. إذا دخلت إلى أي غرفة تتواجد فيها البطلة، كانت تلك الفتاة تسمع صوتاً مفاجئاً ثم تظهر السيدة دانفرز الحاضرة في كل مكان وتقف بكل استقامة بالقرب منها. بهذه الطريقة، عُرِض الموقف كله من وجهة نظر البطلة. لم تعرف يوماً متى يمكن أن تظهر السيدة دانفرز وكان هذا الجانب مرعباً. كان تحرّك السيدة دانفرز بشكل طبيعي ليعطيها طابعاً بشرياً عادياً.

حين ضغط تروفو على هيتشكوك لمعرفة خلفية قراراته في أفلامه المتلاحقة، برز منطق دقيق وعقلاني: كان المخرجان اللذان يميلان إلى استعمال الشكلية البصرية الدقيقة حريصَين على تطبيق هذه المقاربة. لكن يبدو هيتشكوك أحياناً لامبالياً عن غير قصد. أثناء مراجعة مختلف الأعمال، بدأ النقاش حول فيلم Rear Window (النافذة الخلفية) من عام 1954 وقد بدا لي أعظم عمل لهيتشكوك. لكن تراوح موقف المخرج بين اللامبالاة والاستياء، فاعتبر أعمال فرانز واكسمان مخيّبة للآمال (مع أن تلاعبه بأصوات المدن المتداخلة يبقى مدهشاً حتى اليوم!). حتى المخرج الذي كان صاحب أقوى رؤية سينمائية لم يتمكن من توقّع كامل إنجازاته على ما يبدو.

متسلط وعنيد

في مقدّمة المجلّد، شرح تروفو أنه أراد التشجيع على إعادة تقييم أعمال هيتشكوك: «أدركتُ أنه لو قَبِل للمرة الأولى أن يجيب جدّياً على استطلاع منهجي، قد تُغيّر الوثيقة النهائية معاملة النقاد الأميركيين لهيتشكوك». لكن في النهاية، ساهم كتاب Hitchcock/Truffaut في اختلاق خرافات جديدة. في مرحلة معيّنة من الكتاب، يوضح هيتشكوك ميله إلى «الشقراوات الراقيات»: «أظن أن النساء الإنكليزيات هنّ الأكثر إثارة للاهتمام». (يجيب تروفو بالطريقة الوحيدة التي يجيدها الرجل الفرنسي: «أقدّر وجهة نظرك»). ربما نجح الكتاب في تغيير الفكرة المأخوذة عن هيتشكوك باعتباره شخصاً يهتم بمصالحه الخاصة، لكنه رسّخ في الوقت نفسه صورته كشخص متسلّط وعنيد.

ألغاز الفن

حقق كتاب Hitchcock/Truffaut ما كان يتمناه وأكثر. استُعمل نموذج الإجابات والأسئلة الطويلة في أساليب نقدية سابقة في بداية الستينيات (بدأت مجلة «باريس ريفيو» تستجوب أمثال ويليام فولكنر وإرنست هيمينغواي ودوروثي باركر)، لكن كان ذلك الكتاب أحد أوائل المشاريع البعيدة عن الأسئلة المرتبطة بالسِيَر والفلسفة والمتعمّقة في الجانب التقني.

أثبت تروفو في مقابلته أن نظرية التأليف يمكن تفسيرها بشفافية استناداً إلى مسار هذه العملية، بمعنى أنّ الاختراع لا يكون حادثاً سعيداً بل عادة فكرية. أثبت هيتشكوك في إجاباته أن الوهم المرتبط بغياب الجهود يشتقّ من خيارات بسيطة تحصل بشكل متعمّد ومدروس. يمكن رصد الإرث الذي خلّفته تحقيقاتهم في التفسيرات الشعبية والثقافية المعاصرة والتلفزيون الانعكاسي والمقابلات الرقمية.

ساهم كتاب Hitchcock/Truffaut في رسم معالم الحياة الإبداعية الراهنة. لكنه يذكّرنا أيضاً بأن الفن لا يزال يحمل ألغازاً تتجاوز أهم الإنجازات الحِرَفية.

المخرج الذي كان صاحب أقوى رؤية سينمائية لم يتمكّن من توقّع كامل إنجازاته

الإصدار يتمحور حول سرد القصص بطريقة جذابة تهتم بالتفاصيل الدقيقة
back to top