ذاكرتنا... تصوغ هويتنا وترسم أهدافنا

نشر في 25-08-2016
آخر تحديث 25-08-2016 | 00:02
No Image Caption
في المرة التالية التي تشوّه فيها الوقائع خلال محاولتك التذكّر، لا داعي للقلق لأن علماء النفس يؤكدون أن لا بأس في ذلك.
يشير عدد من الدراسات، التي أجريت السنة الماضية، أن الذكريات غير الدقيقة قد تكون مفيدة أيضاً. فعلى غرار الذكريات الدقيقة، تساعد هذه الذكريات الإنسان في صوغ هويته ورسم أهدافه.
يقدّم مارتن كونواي، مدير قسم علم النفس في جامعة مدينة لندن، مثالاً على هذه الفكرة: يعزُّ على محامِ في منتصف العمر لحظة مميزة في طفولته ما زال يتذكرها جيداً، إذ حاول والده طمأنته عندما كانت والدته في المستشفى تلد أخاه الأصغر. يتذكر المحامي أن والده سعى لإمتاعه وتسليته بالتحدث عن نزول الإنسان على القمر. فاعتبر هذه إشارة إلى أن أباه ما زال يحبه ويقدّره مع أنه ينتظر مولوداً جديداً، وفق الدكتور كونواي.
لم يدرك المحامي أن ذكرياته هذه غير دقيقة على الأرجح إلا بعد عقود من الزمن. وُلد أخوه الصغير عام 1968، أي قبل سنة من الهبوط الأول على القمر، حسبما يوضح الدكتور كونواي الذي أجرى أكثر من 150 دراسة عن الذاكرة. أخبر المحامي هذا الباحث: {تمسكتُ بهذه الذكريات المميزة طوال ثلاثين سنة ظننت خلالها أنها صحيحة. ولكن فيما كنت أصغي، أدركت فجأة أنها خاطئة}.

يوضح الدكتور كونواي أن المحامي جمع على الأرجح تفاصيل حدثين منفصلين ليكوّن ذكرى واحدة. لكن هذه الذكرى كانت ملائمة من ناحية ما. يوضح الدكتور كونواي: {شكّل واقع أنه ما زال محبوباً حقيقة مهمة بالنسبة إليه}، ما عزز بالتالي شعوره بهويته. {إذاً، ليس مهماً أن تكون الذكرى دقيقة. المهم حقاً أن تساعدنا في تحديد هويتنا}.

يرتكز عمل الدكتور كونواي على تبدّل فهم علماء النفس لذكرياتنا الطويلة الأمد عن حياتنا أو ما يُدعى ذاكرة السيرة الذاتية. فيعتبر عدد متزايد من الباحثين أن الذكريات لا تشكّل مخزناً من الوقائع فحسب، بل أيضاً خليطاً مبتكراً من الوقائع والخيال يساعد الناس في سرد قصص ذات مغزى عن حياتهم، تحديد أهدافهم، وتخيّل المستقبل بطريقة منطقية.

يسود الاعتقاد أن عملية التخزين في الذاكرة تشبه إعداد شريط فيديو، إلا أن الذكريات الطويلة الأمد لا تشكل دوماً إعادة عرض دقيقة، بل تتحول إلى وقائع مُعاد بناؤها، استنتاجات، وتفاصيل متخَيلة يجمعها الإنسان معاً بعد انتهاء الحدث.

على سبيل المثال، يستنتج الناس أحياناً تفاصيل لم يلاحظوها أو لا يتذكرونها، وفق دراسة أجراها الدكتور كونواي وكاثرين لوفداي، محاضِرة بارزة وعالمة متخصصة في علم النفس العصبي في جامعة ويستمنستر في لندن. وفي حالات أخرى، يختصر الناس حوادث طويلة بلحظات وجيزة أو يعتبرون خطأً تطورات تخيلوها ذكريات حقيقية.

لكن هذه المرونة تجعل الذاكرة أحياناً عرضة للتلاعب. فقد أظهر عدد من الدراسات الحديثة القدرة على التلاعب بالذاكرة بطرق قد تؤثر أيضاً في دقة الشهادات في المحاكم. على سبيل المثال، أراد فريق من الباحثين إظهار الأوجه السلبية في الاعتماد على كلام شهود العيان في المحاكمات الجزائية،. لذلك تعمدوا زرع ذكريات خاطئة في عقول الناس. طلب هؤلاء الباحثون من المشاركين في الدراسة تخيّل أنهم خاضوا تجربة ما في الماضي، مثل الفوز بدب محشو خلال مهرجان أو التعرض للعقاب في صغرهم لاتصالهم بخدمة الطوارئ عبثاً.

كيف تتشوه الذكريات؟

• نتخيل حدثاً ما ونظن أنه وقع حقاً في الماضي.

• نخلط أو نجمع بين حدثَين مختلفَين.

• نختصر في فترة زمنية وجيزة حوادث وقعت خلال أمد طويل.

• نضيف تفاصيل سلبية أو إيجابية لنعزز تأثير الأحداث.

• نبدّل ذكرياتنا لتتلاءم مع معتقدات الآخرين ووجهات نظرهم.

• نغيّر ذكرياتنا لتعكس معلومات حصلنا عليها لاحقاً.

لكن المقدرات عينها التي تسمح لنا بإعادة كتابة الذكريات أو اختلاقها تعود علينا بفوائد جمة. فتتيح لنا تخيّل المستقبل والتوصل إلى روابط مبتكرة بين وقائع منفصلة. تشير دراسة أُجريت عام 2011 وأشرف عليها دانيال شاكتر، بروفسور متخصص في علم النفس في جامعة هارفارد، إلى أن تذكُّر حوادث وقعت في الماضي وتخيُّل تطورات قد تطرأ في المستقبل ينشطان المناطق عينها من الدماغ.

يختلق الناس أحياناً الذكريات بغية حماية أنفسهم من تذكُّر تجارب تهدد ثقتهم بنفسهم. على سبيل المثال، لاحظ باحثون أن طلاب الجامعات، الذين عارضوا رفع الأقساط، إلا أنهم كتبوا مقالات مقنعة تدعم هذه الفكرة ضمن إطار التجربة التي خاضوها، أساؤوا تذكُّر مواقفهم الأولى. فقد أكّدوا أنهم دعموا زيادة الأقساط منذ البداية، حسبما كشفت دراسة شملت عام 2015 نحو 120 طالباً وأشرف عليها داريو رودريغيز، محاضر متخصص في علم النفس في جامعة دايتون في أوهايو.

على نحو مماثل، يحذف البعض تفاصيل لا تناسبهم عند تذكُّر تجارب سابقة بغية سرد قصص أكثر تماسكاً أو مختلقة، وفق دان ماكأدمز، بروفسور متخصص في علم النفس وباحث في جامعة نورثوسترن له كتابان عن تطور الشخصية. يقول: {قد تطرأ ستة تطورات خلال حدث ما، إلا أن الثالث بينها مؤذٍ حقاً}. بعد انقضاء الحدث، {تدرك أن هذا التطور الثالث لم يعد عليك بالفائدة. لذلك من الملائم أن تنساه}.

من الممكن أيضاً أن يبالغ الناس في وصف الأسى والمعاناة في تجاربهم السابقة. وهكذا {تصبح نجاتهم منها أكثر إثارة}، حسبما يؤكد الدكتور ماكأدمز. فيسمح هذا للراوي بأن يشير بفخر: {ما كنت لأصبح شخصاً قوياً اليوم لو لم أخض تجربة مماثلة}.

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد روبين فيفوش، بروفسور متخصص في علم النفس في جامعة إيموري في أتلانتا إلى أن البعض يعمدون إلى تفسير الحوادث السابقة بطرق جديدة مع انتقالهم من مرحلة إلى أخرى في حياتهم.

يتذكّر ماثيو غراسي (27 سنة) أنه شعر بالاستياء قبل سنوات عندما لامه المستشار الموجِّه في المدرسة الثانوية وبالغون آخرون لإخفاقه في تحقيق علامات تتلاءم مع مقدراته. يُقر بأنه لم يدرس كفاية. ويتابع موضحاً: {اعتبرني التلاميذ مهرّج الصف. فشكّل ذلك جزءاً كبيراً من هويتي}.

لكن حياته تبدلت في سن الثامنة عشرة عندما سجّل غراسي أعلى العلامات خلال الفصل الأول في الجامعة، على حد قوله. فأعاد النظر في أدائه الباهت في المدرسة الثانوية وعزاه إلى السأم. كذلك يتذكّر طرقاً أخرى كان يتحدى بها نفسه، مثل قراءة كتب دراسية بمفرده. يخبر غراسي، الذي يعِدّ رسالة دكتوراه في علم النفس في جامعة إيموري: {تحمل قصتي بعض الندم، وأحاول أن أعوّض عما فاتني}.

نميل عادةً إلى الاحتفاظ بالذكريات التي تحدث معنا خلال فترات النمو والتطور السريعين. على سبيل المثال، يتذكر المراهقون ما يساعدهم في تحديد هويتهم ودورهم في المجتمع.

تتذكر ليز غيدون (27 سنة) بوضوح حدثاً مؤثراً وقع قبل 17 سنة عندما تحداها بعض المتنمرين الأكبر سناً في الجوقة الموسيقية التي انضمت إليها. كانت تلك الفتيات يضايقن صديقة غيدون التي تتحدر من أصول أفريقية. فأخبرت المشرف على الجوقة بما يحدث بعدما عثرت على صديقتها وهي تبكي في الحمام. لكن الفتيات الأكبر سناً انقلبنى على غيدون، مع أنها بيضاء، واتهمنها بالكذب، ما دفعها إلى التشكيك في صواب قرارها.

عندما وصل والدها ليقلها إلى المنزل، «أوقفها في موقف السيارات، نظر إليها مباشرة، وأخبرها أنه فخور بها لأنها فضحت أمرهن، مع أن تلك الخطوة أكسبتها عداوتهن»، وفق غيدون التي تعيش في نيو هافن بكونيتيكت. وهكذا علمتها ذكرى والدها هذه بأن تثق بحكمها وقدرتها على التمييز بين الصواب والخطأ. وتؤكد غيدون أن هذا ساهم في تعزيز ثقتها بنفسها خلال الأوضاع الحرجة.

علاوة على ذلك، للأشخاص الذين تخبرهم بذكرياتك الماضية تأثير في تحديد ما إذا كانت دقيقة أو لا. فيساعدك سرد القصص على مستمعين يولونك اهتمامهم ويتعاطفون معك على تذكّر الوقائع. كذلك يتيح هذا للراوي استخلاص مغزى من تجاربه السابقة، حسبما أظهر بحث أجرته مونيشا باسوباثي، بروفسورة متخصصة في علم النفس التنموي في جامعة يوتاه بمدينة سولت لايك، بالتعاون مع عدد من زملائها. كذلك تبين خلال هذا البحث أن التجارب المحزنة تكتسب خصوصاً معنى أعمق خلال سردها أمام آخرين.

ولكن لا تحاول البتة التحدث عن ذكرياتك أمام مستمع منشغل عنك. فقد أكّد بحث الدكتورة باسوباثي أن رد الفعل اللامبالي لا يحبط جهود الراوي للتوصل إلى معزى أعمق فحسب، بل يزيد أيضاً احتمال أن ينسى تجربته برمتها.

نميل عادةً إلى الاحتفاظ بالذكريات التي تحدث معنا خلال فترات النمو والتطور السريعين
back to top