الأمراض النفسية الجسدية... كيف تواجهها؟

نشر في 21-08-2016
آخر تحديث 21-08-2016 | 00:03
No Image Caption
قد تبدو لك الأمراض النفسية- الجسدية مجموعة اضطرابات لا نملك عنها معلومات كثيرة، حتى إن البعض يعتبر أن هذه الاضطرابات مختلقة، وأنها من ابتكارات الطب الحديث الذي يعجز عن التوصّل إلى علاجٍ لهذه الأمراض «المتخيَّلة».
إلا أن الواقع مغاير تماماً. تشمل الأمراض النفسية- الجسدية بتعريفها الاضطرابات النفسية المنشأ كافة. إذاً، يعود أصلها إلى مشاكل عصرية مثل الإجهاد. ولكن رغم أصولها النفسية، تبقى هذه الاضطرابات أمراضاً تترافق مع أعراض حقيقية ومعاناة فعلية. وتساهم هذه الأمراض في توضيح ما يمرّ به كثيرون اليوم. مع ذلك، ما زلنا نسمع عبارات مثل «هذا أمر بسيط، هذه أوهام في الرأس». ولكن مَن قال إن ما في رأسنا لا وجود له؟
تحمل نظرة كثيرين إلى الأمراض النفسية- الجسدية وجهاً ذكورياً جلياً، بما أنهم يعتبرون أنها تصيب المرأة خصوصاً، وأن النساء يعانين الأوهام. إلا أن هذا كلام عارٍ عن الصحة. في معظم الحالات التي نشهدها اليوم، ما من شك في أن هذه أمراض حقيقية تتجلى من خلال أعراض جسدية ملموسة. لكن ما يميّزها عن غيرها هو أصلها: صدمة عاطفية أو حالة قلق تؤثر في الجهاز النفسي بأكلمه. وندرك جيداً أن ضعف الجهاز المناعي يسبب الأمراض، وأن انهيار هذه الدفاعات الطبيعية يعود أحياناً إلى اضطرابات نفسية أو عاطفية بالكامل.

دور الإجهاد

يعرف الأطباء جيداً آلية الاضطرابات النفسية- الجسدية التي قد تؤثر في أي إنسان حول العالم: فيمكن لإجهاد حاد نسبياً (لا أهمية لدرجة هذه الحدية، بما أن القدرة على المقاومة تختلف باختلاف الأشخاص)، طويل كفايةً، أو متكرر أن يؤدي إلى تراجع دفاعاتنا الطبيعية، فنُصاب بعدوى تلحق الضرر بعضو مهم في الجسم. ولا شك في أننا نعرف في محيطنا شخصاً يعاني دوماً آلاماً في المعدة أو الظهر أو القلب من دون سبب منطقي.

صحيح أن حالة الإنسان النفسية تنعكس على وضعه الجسدي، لكنها لا تشكل دوماً العامل المسبب الرئيس. إلا أنها كذلك في الاضطرابات النفسية- الجسدية.

أسباب رئيسة

تشمل الأسباب الرئيسة للأمراض النفسية– الجسدية التطورات كافة التي تؤثر بعمق في حالة الإنسان النفسية، مثل وفاة، حادث، مشاكل مهنية أو عائلية، قصة حب فاشلة... إلا أن هذه الأسباب لا تقتصر على التطورات المهمة في حياتنا، بل تضم أيضاً تغيّرات بسيطة، من بينها تبدّل مكان السكن أو المنصب في العمل.

بدورهم، يصبّ الأطباء اهتمامهم كله على نوع آخر من الظروف قد يكون أقل وضوحاً، إلا أنه على القدر ذاته من الخطورة: تكرار الحالات المجهدة بانتظام وتحوّلها إلى جزء من حياة المريض اليومية. على سبيل المثال، تُعتبر مواجهة الإساءة في العمل أسوأ من التعرض لحادث مفاجئ. كذلك، يتحوّل الاعتناء بمريض يعاني الزهايمر في مرحلة ما إلى مهمة بالغة الصعوبة. في البداية، يبدو لنا المريض على خير ما يُرام لأن الأعراض لم تتجلَّ بوضوح بعد، غير أن المرض النفسي- الجسدي قد يظهر فجأة من دون سابق إنذار.

قوة العقل

صار التأثير النفسي مثبتاً اليوم. تنعكس حالة الإنسان النفسية على الجسم ووظائفه. ويدرك الأطباء جيداً أن عاملاً أو اضطراباً نفسياً قد يسبب أنواعاً معينة من الأمراض الجسدية. ولكن لا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أن العوامل النفسية، مثل الإجهاد، قد تساهم أيضاً في تضاعف حالات معينة، مثل نوبات الربو أو الصرع.

علاوة على ذلك، يمكن تصنيف الوهم المرضي المتطرف من الأمراض النفسية- الجسدية. المصابون بهذا الداء أناس يفرطون في القلق ويواجهون عللاً وآلاماً حقيقية. ولكن لأنهم يعانون أعراضاً ترتبط بالقلق فحسب، مثل نبض القلب غير المنتظم والتعرّق بقوة، يُصنَّف مرضهم نفسياً-جسدياً.

ما رأي الطب الحديث؟

تبين في الآونة الأخيرة أن أمراضاً صُنّفت سابقاً نفسية- جسدية ليست كذلك. فالإنسان مجهز بطبيعته لمواجهة الإجهاد والقلق، وإن اختل توازنه بعد تعرضه لصدمة أو حالة وفاة أو انفصال، فلا يدوم هذا الخلل عادةً إلا فترة من الوقت. كذلك، ظنّ الأطباء في الماضي أن قرحة المعدة تعود إلى الإجهاد المزمن، ليتضح لاحقاً أن الأخير قد يضاعف هذه الحالة إلا أنه لا يسببها، بل تعود القرحة إلى بكتيريا ويمكن معالجتها بالمضادات الحيوية.

لكن الإنسان يواجه في بعض الحالات قلقاً يعجز عن تخطيه، ما يسبب له خللاً على الصعيد الجسدي. من المستحيل تحديد الشخصيات الأكثر عرضة لحالة مماثلة، وإن كان البعض يبدو أكثر ثباتاً من غيره. لكن الإنسان يتعرض أحياناً لصدمة تهزّ كيانه وتقوّض معنوياته، فتتجلى حالة الفوضى النفسية هذه من خلال أعراض جسدية. رغم ذلك، قلما يعزو الأطباء حالات مماثلة إلى العامل النفسي وحده.

العقل هو السيد

تبرهن أمثلة عدة قوة العقل والمخيلة وسيطرتهما على الجسم:

• العضو الطيف: هذه الظاهرة ليست جديدة. يشعر كثير من المرضى الذين خضعوا لجراحة بتر أن العضو المبتور ما زال موجوداً. حتى إن بعضهم يعاني الألم في هذا العضو.

• تأثير العلاج الوهمي: يدرك العلماء جيداً أن تأثير العلاج الوهمي يكون كبيراً في حالات بعض المرضى. لا شك في أن هذا العلاج بحد ذاته لا يحسّن حالة المريض بما أنه يخلو من أي مواد منشطة. ولكن في تجارب عدة، لاحظ الباحثون أن للدواء الوهمي تأثيراً علاجياً. صحيح أن الأخير يبقى محدوداً، إلا أنه حقيقي.

أشخاص محددون

يؤكد الأطباء أن مَن يعانون الأمراض النفسية- الجسدية يُصابون بأعراض مبكرة. في معظم الحالات، يشعر المرضى بالأعراض في سن صغيرة، أحياناً في المراهقة، فنميز لديهم عادةً علامات قلق وكآبة.

بالإضافة إلى ذلك، يُصاب بعض مرضى الأمراض النفسية-الجسدية بأوجاع عامة يصعب ربطها بحالة مرضية محددة. تُدعى هذه الحالة «الاضطراب الجسدي الشكل». وفي حالات عدة، يُشفى هؤلاء المرضى فجأة من دون سبب واضح.

أبرز أنواع الأمراض

إليك بعض أبرز أنواع الأمراض النفسية- الجسدية:

• اضطرابات مرتبطة بالنوم: اضطرابات النوم شائعة وأسبابها كثيرة، وقد تصيب الناس من مختلف الأعمار، حتى الأطفال. ولكن يجب ألا نستخف بها، خصوصاً إن لم تكن عابرة، فهي تسبب الضعف، التوتر، والتعب، موقعةً المريض في دوامة لا مخرج منها. كذلك، قد ينعكس رد الفعل الناجم عن الإجهاد على الرغبة الجنسية، الانتباه، والتركيز، حتى إنه قد يؤخر النمو.

• أمراض البشرة: صحيح أن الأمراض الجلدية تعود إلى أنواع مختلفة من العدوى، إلا أن الحالة النفسية تؤدي دوراً فيها. نتيجة لذلك، يعاني البعض بثوراً، هربساً بسيطاً، هربساً نطاقياً، أو حتى صدفية عند تعرضهم لصدمة نفسية أو عاطفية قوية.

• صداع وألم عرق النسا: يعتقد الباحثون أن بعض أنواع الصداع يعود إلى أسباب نفسية نظراً إلى غياب الأسباب العضوية. كذلك، يسبب بعض الحالات النفسية ألم عرق النسا.

• اضطرابات قلبية وعائية: يعود بعض حالات ارتفاع ضغط الدم الشرياني وتسارع نبض القلب إلى القلق والتوتر، حتى إن بعض الحالات النفسية يسبب الإغماء. بالإضافة إلى ذلك، يعاني القلب أو الشرايين أحياناً خللاً يعجز الأطباء عن تحديد أسبابه العضوية، فيعزونه إلى حالة عصبية أو نفسية.

• النهام والقهم العصبيان: تُعتبر الاضطرابات الغذائية عاطفية، مع أن الباحثين ما زالوا يجهلون الكثير عن أصولها. تسبب هذه الأمراض بحد ذاتها عواقب سيئة، فضلاً عن أنها تؤدي إلى أمراض أخرى مثل السمنة وبعض الاضطرابات القلبية الوعائية.

• اضطرابات معوية: يُعتبر البطن الأكثر عرضة للاعتداءات النفسية. الأمعاء، القولون، وأحياناً الكبد أو بالأحرى المرارة أعضاء حساسة تؤثر فيها حالة الإنسان النفسية مباشرة.

عملية تأكد ضرورية

عندما يواجه الأطباء حالات مماثلة، يلزم ألا يتجاهلونها، معتبرينها مجرد توعك عابر. عليهم أن يتحققوا من أن ما يعانيه المريض لا يعود إلى سبب آخر. على سبيل المثال، قد تتكرر زيارة المريض إلى عيادة الطبيب بسبب اضطرابات في الأمعاء تُعالَج عادةً بالدواء عينه. ولكن يجب على الطبيب في كل زيارة أن يتأكد من أن المريض لا يعاني مشكلة جديدة. نتيجة لذلك، يخضع هذا النوع من المرضى لفحوص دورية لا تكشف دوماً عن مشاكل عضوبة. من هنا، تأتي فكرة «المرض الوهم». لكن الأمراض النفسية- الجسدية لا تختلف عن تلك العضوية، إلا في أصلها.

كيفية العلاج

يشكّل التشخيص الخطوة الأولى والأهم في عملية العلاج. من الضروري أن يتفادى الطبيب الاستخفاف بهذه المشكلة أو المبالغة في تصويرها. كذلك من المهم أن ينجح في تمييز أنها تعود إلى حالة عاطفية لأن العلاج يجب أن يأخذ الوجهين الجسدي والعاطفي في الاعتبار. ويتوصل الطبيب إلى تشخيص الأمراض النفسية- الجسدية باستبعاده الأسباب الأخرى. يُشار في هذا الصدد إلى أن عليه التنبه لمن يدّعون المرض ولا يعانون حقاً أي أعراض، تماماً على غرار الولد الذي يدعي الحمى كي لا يذهب إلى المدرسة.

صحيح أن العلاج الكلاسيكي يكون أحياناً كافياً، حتى لو كانت الأسباب نفسية، ولكن في بعض الحالات الأخرى من الضروري معالجة المسببات النفسية أيضاً. أما في حالة الوفاة، فمن الأفضل الانتظار قليلاً والسماح للوقت بأن يشفي الجراح، مع أن البعض يحتاج أحياناً إلى مضادات للقلق أو الكآبة كي يتمكن من الاسترخاء واستعادة نمط حياته ونومه الطبيعي. فضلاً عن ذلك، يعود العلاج النفسي بالفائدة على عدد كبير من مرضى الاضطرابات النفسية- الجسدية.

في مطلق الأحوال، عندما يعاني الإنسان حالة نفسية تتجلى من خلال أعراض جسدية، يعتبر الأطباء أن عليهم مساعدة المريض ليتصدى لهذه الحالة. ويعتقدون أن العقل يرزح تحت ضغط كبير، ولم يتبقَّ له أي سبيل آخر ليعبّر عن معاناته غير الألم الجسدي.

حالات السرطان

يتساءل كثيرون عما إذا كان السرطان ناجماً عن نقص عابر في المناعة سببه مشكلة نفسية. لكن العلم ما زال عاجزاً حتى اليوم عن تقييم مدى تأثير الحالة النفسية في الإصابة بهذا الداء وعن معرفة لمَ يُعانيه البعض فيما ينجو منه البعض الآخر، رغم اتباع نمط الحياة ذاته. على سبيل المثال، لا يقتصر سرطان الرئة على المدخنين، ولكن إذا رغبت في تحصين نفسك ضد هذا المرض الفتاك، فعليك أن تتبع نمط حياة سليماً وصحياً، حتى على الصعيد العاطفي والنفسي.

عتبة التحمّل

تختلف القدرة على التحمل باختلاف الأشخاص، ويمكنك أن تعمل على تعزيز قدرتك هذه. لكن الخبراء يدركون أن هذه العتبة تعتمد على عنصرَين من الصعب التحكم فيهما:

• الأول الحياة التي يعيشها الشخص والقدرات التي يطوّرها عند مواجهته الإجهاد.

• الثاني القدرة الوراثية. صحيح أننا ما زلنا نجهل الكثير عن الجينات، إلا أنها تؤدي بالتأكيد دوراً في حالتنا النفسية وقدرتنا على التحمل.

إذاً، يشكّل عقلنا لغزاً ما زال يحيرنا ولن نتمكن من حله قريباً. إلا أن من المؤكد أن حالتنا العقلية والنفسية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحالتنا الجسدية. وكي ننعم بصحة جيدة وحياة هانئة، علينا أن نهتم بجسمنا وعقلنا على حد سواء.

الإجهاد الحاد والطويل كفايةً أو المتكرر يؤدي إلى تراجع دفاعاتنا الطبيعية
back to top