بين التعصب والسياسة

نشر في 07-08-2016
آخر تحديث 07-08-2016 | 00:08
السياسة قبل كل شيء اختراع غربي صرف، ولكن البديل لها كان سلوكا ذا أكلاف باهظة، فالتعصب حل محل السياسة في بيئاتنا الاجتماعية منذ نشأتها حتى زمننا الراهن، ولكي يكون المرء جزءا من تجمع بشري يروم تحقيق أهداف واقعية أو متخيلة يكفيه أن يكون متعصباً.
 منصور مبارك المطيري حين يتحول اسم المرء إلى صفة ترن رنين الذهب في الذاكرة الإنسانية فهي ميزة لا يحظى بها سوى قلة من الأصفياء، وميكافيللي في عداد هؤلاء، فهذه الصفة تنطبق غالبا على ذلك الرهط من المفكرين الذين حققت أفكارهم مكانة رمزية انطوت بداخلها على موقف متكامل ومنظومة سلوك متسقة. والميكافيلية بذلك تغدو تعريفا للمرء الذي لا يتورع عن استخدام وسائل غير أخلاقية لتحقيق مصالحه الصرفة، وكل من يمارس الخداع، ويتفنن في توظيف أساليب النفاق والخيانة للظفر بغاياته، يوصم بأنه ميكافيللي، لسيره على هدي نيكولا ميكافيللي ونصحه للسياسيين في كتابه "الأمير" في الكيفية المثلى للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها.

ولئن نظر البعض إلى الطريقة التي تم بها تصوير ميكافيللي، وبخاصة تلك الشائعة والرائجة في المخيال الشعبي، على أنه شخص دنيء لا يقيم وزنا للأخلاق والقيم فإن البعض الآخر شدد على أنه لم يكن سوى مؤسس لما سمي لاحقا بالسياسة الواقعية التي تنهض على السلوك البراغماتي، واستطرادا فإن ميكافيللي لم يكن سوى شارح مبدع لمتطلبات السياسة الواقعية. وللحق فإن غموض ميكافيللي انتقل كما ينتقل الفيروس في بعض المواسم إلى أجساد متلقيها، فذهب نفر من المؤرخين المختصين بآرائه إلى القول بأنها أخلاقية بالمعنى الصميمي، فكان يرمي من وراء نصيحته الخسيسة للسياسيين إلى توجيه تحذير خفي للناس عن الطرائق التي يلجأ إليها حكامهم في سبيل المحافظة على سلطانهم.

وفي حين تنهض السياسة بمعناها الحديث، وتحديدا في فكها الارتباط بين الأخلاقي والعملي، على الميكافيلية، فإن هذا النهج كان غريب الوجه في بيئاتنا الحضارية، وليس في ذلك مدعاة للاستغراب، فالسياسة قبل كل شيء اختراع غربي صرف، ولكن البديل للسياسة كان سلوكا ذا أكلاف باهظة، فالتعصب حل محل السياسة في بيئاتنا الاجتماعية منذ نشأتها حتى زمننا الراهن، ولكي يكون المرء جزءا من تجمع بشري يروم تحقيق أهداف واقعية أو متخيلة يكفيه أن يكون متعصباً، وحتى أولئك الذين انتقلت إليهم لوثة التحديث، دشنوا التعصب للأحزاب والأفكار والمعتقدات، بحيث تحول السياسي في ربوعنا إلى صنو المتعصب لشعار أو لمشروع سياسي أو ديني، إثني أو قومي أو أممي. فضمت ساحات السياسة أخلاطا من اللاهوتيين وشذاذ الآفاق ومغامري الشوارع وتماسيح المال.

غير أن الخطر الأعظم لإحلال التعصب مكان السياسة هو في العدمية التي يقودنا إليها كما تقاد النعاج للمسلخ الكبير، فما البطن الخصب الذي يتناسل منه الانتحاريون بدءا من بزوغ نجم حزب الله وصولا إلى بربرية الدواعش؟ أليس التعصب وسدنته المتجهمون هم من يستنزف دماء المجتمعات الأهلية ومواردها؟ ربما كانت مواجهتنا الملحة والعاجلة مع التعصب الطريق الوحيد نحو الخلاص من زمن داكن نندفع فيه سريعا إلى قيعان البؤس.

back to top