رحلة بالباخرة على طول الراين

نشر في 06-08-2016
آخر تحديث 06-08-2016 | 00:02
تلقى الرحلات في السفن على طول الأنهر رواجاً كبيراً في أوروبا اليوم. فتشكّل هذه الرحلات الجزء الأكثر نمواً في قطاع السفر كله. فخلال السنوات الخمس الماضية، شهدت الرحلات بالسفن الكبيرة التقليدية زيادة سنوياً في عدد المسافرين بلغت نحو 5%، في حين نما السفر بالسفن على طول أنهر القارة خلال الفترة عينها بمعدل سنوي بلغ 16%. وتشير كل الدلائل إلى أن هذا الازدهار بدأ لتوه. فيزداد عدد السفن الجديدة التي تنضم إلى هذا القطاع بسرعة مذهلة. ومن المقرر أن تُطلَق 22 سفينة نهرية جديدة بحلول عام 2018.
لا عجب في أن يلقى التجول بالسفن على طول أنهر القارة، التي تحدها مناظر خلابة، شعبية كبيرة. تتفوق أوروبا على أي منطقة أخرى في العالم بعدد الممرّات المائية الصالحة للملاحة، فضلاً عن أنها الأكثر تنوعاً على الأرجح من حيث الثقافات والمعالم التي تجذب السياح على ضفاف الأنهر.

بالإضافة إلى ذلك، تقدّم سفن الأنهر عطلاً خالية من العجلة والتعب. فلا تحتاج إلى السفر كثيراً خلال الرحلة لتصل إلى أماكن مثيرة للاهتمام. يدرك المسافرون أنهم يستطيعون في غضون دقائق النزول من سفينتهم الخاصة ليدخلوا مدينة تاريخية أو قرية ريفية مميزة. كذلك بإمكانهم التوجه سيراً على الأقدام إلى كثيرٍ من المواقع المهمة، ما يتيح لهم تخصيص وقت أطول لاستكشاف التاريخ المحلي، التمتع برياضة المشي، التنزه في الغابة القريبة، ركوب الدراجة الهوائية، التسوق، أو تذوق المطبخ المحلي.

يساهم أيضاً السفر بالسفينة مع عدد محدود من الركاب (200 كحد أقصى) في توطيد العلاقات بين محبي المغامرات في الأنهر. كذلك تبقى اليابسة عموماً على مرأى من الركاب. فيعزز هذا العامل الشعور بحميمية هذه التجربة ويزيد الرحلات النهرية جاذبيةً.

رحلات نهرية

تشغّل نحو 12 شركة ملاحة أكثر من 100 سفينة نهرية تجوب ممرات مائية تعبر أجزاء من ألمانيا، النمسا، فرنسا، سويسرا، هولندا، إيطاليا، البرتغال، وإسبانيا. لكن هذه الرحلات النهرية تتركز عموماً في الأنهر الكبرى، مثل الدنوب، الراين، ماين، موزيل، نيكار، إلب، السين، الساون، والرون.

حظيت بفرصة السفر على طول كل أنهر أوروبا تقريباً (حتى إنني سافرت مرات عدة على طول الدنوب والراين)، إلا أن المفضل لدي لطالما كان “الراين”. أعتقد أن الرحلة بالسفينة على طول “الراين” تقدّم ذروة المناظر الخلابة والتنوع الثقافي (فضلاً عن أنني أحب المطبخ المحلي) في فرنسا وألمانيا خصوصاً. لذلك، لم يُضطر أحد إلى إرغامي على قبول دعوة شركةViking River Cruises للسفر على متن أحدث سفنها “ألرونا” طوال ثمانية أيام في رحلة على الراين من أمستردام إلى بازل في سويسرا في مطلع شهر مايو.

وصلنا أنا وصديقتي ميليندا إلى أمستردام قبل موعد الانطلاق ببضع ساعات فقط. أمضينا هذا الوقت في التنزه على طول أقنية المدينة، حيث اضطررنا إلى تفادي الاصطدام بحشد من راكبي الدراجات مع كل خطوة خطوناها.

بعد ليلةٍ من النوم العميق، استيقظنا في كيندردايك، قرية في محافظ جنوب هولاندا، التي تشتهر بشبكة من 19 طاحونة هوائية ما زالت تعمل وتعود إلى أربعينيات القرن الثامن عشر. لم تُصنع هذه المطاحن لطحن الحبوب، بل ابتُكرت بطريقة مبدعة لضخ المياه من الأراضي المنخفضة بغية استصلاحها في الزراعة. فأسرتنا تلك المطاحن القديمة (التي أُدرجت على لائحة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 1979)، وذُهلنا حين لاحظنا أنها ما زالت تعمل رغم مرور ثلاثة قرون على تشييدها.

تابعت “ألرونا” رحلتها على طول الراين إلى ألمانيا، حيث كانت محطتنا التالية في كولونيا (يدعوها الألمان كولن). وفي هذه المدينة، قمنا بجولة تشملها هذه الرحلة. فتبعنا دليلاً محلياً إلى وسط المدينة حيث مددنا أعناقنا لنتأمل الكاتدرائية الضخمة، التي تُعتبر إحدى تحف التصميم القوطي. فقد استغرق بناؤها سبعة قرون، وكانت المبنى الأعلى في العالم عند إنهائها عام 1880. ولم نتفاجأ حين علمنا أن هذه الكاتدرائية مدرجة أيضاً على لائحة اليونسكو للتراث العالمي. بعد ذلك، تنزهنا على طول ضفاف نهر الراين، عابرين سوق السمك القديمة، التي تظهر وراءها صفوف من المنازل الصغيرة الملونة تعود إلى القرنين الرابع عشر والسابع عشر.

ثقافة كولونيا

في المساء، انضممنا إلى رحلة اختيارية سمحت لنا بالتعرف إلى ثقافة كولونيا المفعمة بالحياة وبعض أوجهها التقليدية.

عندما توقفنا في كوبلنز في اليوم التالي، شاركنا في رحلة اختيارية أخرى إلى حصن إيرنبريتشتاين. يحتل هذا الحصن موقعاً إستراتيجياً على أعلى تلة ويطل على المدينة، حيث يلتقي نهرا الراين وموزيل. وهكذا تقدّم هذه القلعة القديمة لزائرها بعض المناظر المذهلة، فضلاً عن لمحة عن كثب إلى عظمة التحصينات العسكرية البروسية التي كانت في الماضي لا تُقهر. لكن بعد ظهر ذلك اليوم، الذي أمضيناه في عبور وادي الراين الأعلى الأوسط، شكّل ذروة رحلتنا بأكملها. فمتعنا ناظرينا في تلك الكيلومترات الخمسة والستين تقريباً في ذلك الوادي بين كوبلنز وروديشيم بجمال طبيعي خلاب يحبس الأنفاس تجلى بوضوح في ذلك اليوم، الذي كانت تلفه الشمس بأشعتها الساطعة. أُدرج هذا الوادي المذهل المزيّن بالقصور الحجرية وكروم العنب في عام 2003 على لائحة اليونسكو للتراث العالمي المتنامية. وهكذا انضم إلى مجموعة المعالم المدرجة على هذه اللائحة التي صادفناها خلال رحلتنا.

تتيح لك روديشيم فرصة الاستمتاع بأمسية في بلدة نموذجية. فانضممنا إلى حفل عشاء جماعي اختياري في أحد المطاعم المفعمة بالحياة الممتدة على طول درب Drosselgasse الشهير في هذه البلدة. تحد درب المشاة الضيق هذا المرصوف بالحجارة متاجر ومطاعم كثيرة. إلا أنه نجح في الحفاظ على مظهره وجوه اللذين يذكران بالقرن الخامس عشر، رغم تنامي السياحة المتواصل.

بعد روديشيم، بدأت أيامنا تمر بسرعة أكبر. فقمنا أولاً بجولة سريعة في هايدلبيرغ وقصرها الخرافي الأسطوري، ثم شاركنا بعد الظهر في زيارة خاطفة إلى منطقة سبيير، حيث تقع الكاتدرائية الملكية. تُعتبر هذه الكاتدرائية من أفضل الكاتدرائيات الرومانسكية (مدرجة أيضاً على لائحة اليونسكو للتراث العالمي)، فضلاً عن أنها تضم أضرحة ثمانية من أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة. انطلقنا تالياً إلى تلك المنطقة ألألزاسية الساحرة: ستراسبورغ. وفيها قضينا وقتاً ممتعاً متجولين في البلدة القديمة التي تتخللها الأقنية، والتي تُدعى فرنسا الصغيرة بمنازلها الخلابة المصنوعة جزئياً من الخشب.

الغابات السوداء

بعد عودتنا إلى ألمانيا، قررنا في يومنا الأخيرة في هذه الرحلة الانضمام إلى جولة تقدمها هذه الرحلة في الغابات السوداء خارج مدينة برايزاخ. وهكذا تنقلنا طوال أربع ساعات في حافلة واستمتعنا ببعض أروع المناظر الخلابة. ترصّع هذه التلالَ والأوديةَ المتعاقبة مزارعُ قديمة وغابات بدت لنا كما لو أنها مشاهد خرجت لتوها من فيلم The Sound of Music. ومع أن هذه الجولة لم تشمل استراحات طويلة، إلا أنها شكّلت الخاتمة الأفضل لرحلتنا على نهر الراين.

كان من المفترض أن ترسو السفينة في بازل في صباح اليوم التالي، إلا أن تنقُّلنا على طول النهر توقف فجأة في برايزاخ نتيجة عطل في سد على طول النهر قرب بازل. فسارعت شركة Viking إلى تأمين أسطول من الحافلات الخاصة، ونظّمت بسرعة وفاعلية خطة بديلة: فنقلت الركاب إلى المطار الأوروبي قرب ميلوز بفرنسا، محطة القطار، أو أحد فنادق المدينة.

بما أنني ما كنت قد أمضيت فترة طويلة في بازل من قبل، اخترنا قضاء يومين فيها. فاكتشفنا أنها مدينة كبيرة جذابة مفعمة بالحياة تقدّم لزائرها مجموعة متنوعة من التجارب الثقافية، التاريخية، والغذائية. زرنا عدداً من متاحف المدينة الأربعين، بما فيها Kunstmuseum، الذي يضم إحدى أقدم وأكبر المجموعات الفنية العامة في العالم، ومتحف بازل التاريخي. يقع هذا الأخير في كنيسة بارفوسر التي تعود إلى القرن الرابع عشر، وتروي مجموعاته تاريخ بازل بدءاً من العصور الوسطى، فضلاً عن أنه يضم معرضاً لقطع قيمة من خزانة كاتدرائية بازل. وبما أن الطقس الجميل لازمنا طوال رحلتنا، قررنا الاستفادة منه. فتجولنا في البلدة القديمة وزرنا سوق المدينة حيث تلذذنا بالهليون الأبيض، الذي يُعتبر من الأطباق الموسمية المميزة في هذه الأنحاء من العالم. بالإضافة إلى ذلك، حضرنا عرضاً غنائياً شبابياً تراثياً في باحة دار بلدية بازل الجميلة. وقصدنا لاحقاً حديقة حيوانات بازل، التي بذل القيمون عليها جهداً كبيراً للتخلص من الأقفاص والسماح للحيوانات بأن تتجول في مساحات مفتوحة. وهكذا، كان اليومان اللذان أمضيناهما في بازل مليئين بالنشاطات، إلا أنهما لم يكونا كافيين لنتعرف إلى كل معالم المدينة. لذلك قررنا العودة إليها في زيارة أخرى.

لمحة عن سفينة «ألرونا» التابعة لشركة Viking
تمثل «ألرونا» أحدث سفن شركة Viking النهرية الطويلة، وقد بنيت في روستوك بألمانيا (مع خمس سفن جديدة مماثلة) في الأول من مارس عام 2016. يبلغ طول هذه السفينة المزودة بأحدث محركات الديزل الهجينة 135 متراً وتصل حمولتها إلى 5000 طن. يمكنها أن تستقبل على متنها 190 راكباً يوزعون على 95 غرفة تُصنّف وفق ثماني فئات تتراوح في المساحة بين 14 متراً مربعاً و41 متراً مربعاً. تتمتع إحدى وسبعين غرفة منها بشرفات. لكن كل الغرف مزودة بكامل التجهيزات، من أسرة شبيهة بأسرة الفنادق إلى تلفزيون مسطح بقياس 40 إنشاً يمكن للمسافر أن يشاهد عليه أفضل القنوات، وصلة واي فاي مجانية، براد، وخزنة. أما التصاميم الداخلية في السفينة، التي نفذتها شركة Yran & Storbraatenمن النرويج، فتعكس النمط الاسكندنافي العصري.

تقع المساحات العامة الأساسية في السفينة، بما فيها الردهة بسقفها الزجاجي المميز، مطعم ألرونا، مطعم Aquavit المفتوح، واستراحة Observation، على السطح الرئيس. فيقدّم مطعم Aquavit بطاولاته الموزعة في العراء عند مقدمة السفينة وجباته في جو من المرح ويتيح لك الاستمتاع بمناظر النهر الخلابة. أما “سطح الشمس” العلوي، فسيمح لك بتأمل المناظر المحيطة بك بشكل أفضل، فضلاً عن أنه يضم ممراً للمشي، ملعباً للغولف على العشب، ومنطقة للعب الشطرنج ولعبة shuffleboard.

لاحظنا أن طاقم سفينة ألرونا المؤلف من 50 عاملاً ودوداً ونشيطاً. فقد تحلى الموظفون الذين تولوا خدمة المسافرين خصوصاً بالاندفاع واللطف، فضلاً عن أن الطعام أُعد بمهارة وقُدّم بتميز، نظراً إلى أنه طُهي في مطبخ صغير جداً. كذلك شملت أصناف الطعام المقدّمة أطباقاً محلية مميزة بدت لي متوازنة عموماً، لذيذة، وتناسب كل الأذواق.

تبدأ كلفة رحلة الراين هذه، التي تدوم ثمانية أيام، بنحو 2049 دولاراً للشخص الواحد، مع أن الشركة تقدّم غالباً حسومات وعروضاً خاصة. وتشمل هذه الكلفة ست جولات مختلفة في هذه الرحلة، إلا أن جولات اختيارية أخرى تُقدّم للمسافر عند معظم المرافئ.

بازل مدينة كبيرة جذابة مفعمة بالحياة تقدّم لزائرها مجموعة متنوعة من التجارب الثقافية والتاريخية

طول سفينة «ألرونا» المزودة بأحدث محركات الديزل الهجينة 135 متراً وتصل حمولتها إلى 5000 طن
back to top