تجنيد الأطفال في «الدولة الإسلامية» توزيع الحلويات قبل بدء قطع الرؤوس!

نشر في 06-08-2016
آخر تحديث 06-08-2016 | 00:01
الاخوان أحمد (يساراً) وأمير
الاخوان أحمد (يساراً) وأمير
تأسر «الدولة الإسلامية» آلاف الفتيان الصغار في سورية والعراق، ثم تعلّمهم القرآن وتجنّدهم لتحويلهم إلى قتلة. «شبيغل» سلطت الضوء على هذه المحنة التي تقض المضاجع وتشوّه الطفولة.
في خيمةٍ داخل مخيّم للاجئين في دهوك، في أسفل جبال صفراء باهتة، فتح أمير وأحمد (15 و16 سنة على التوالي) سجادتهما على الأرض وحاولا نسيان ذكريات مريعة. حصل ذلك في مساء يوم خريفي بارد. رفعا رأسَيهما على وسائد وشغّلا التلفزيون. هرب الشقيقان من الأسر لدى «الدولة الإسلامية» قبل ستة أشهر. لا يريدان الآن إلا مشاهدة بعض الرسوم المتحركة.

راح الشقيقان يقلّبان بين القنوات. فتحت «الدولة الإسلامية» محطتها الدعائية الخاصة ويمكن أن يضبطها المشاهدون بسهولة هناك، في منطقة شمال العراق الكردية. كان أحمد يحمل جهاز التحكم عن بُعد بيده ثم صرخ فجأةً: «انظر إلينا يا أمير! نحن على التلفزيون!». تعرّف الشقيقان على نفسَيهما على الشاشة: كانا مقنّعَين ويرتديان ملابس سوداء فيما راح جنود صغار آخرون يتدرّبون على القتال في الموصل.

حلّ الربيع الآن وقد أمضيا تلك الأمسية أمام شاشة التلفزيون منذ بضعة أشهر. كان أحمد وأمير يجلسان بالقرب من بعضهما ويتحدثان بالموضوع في الخيمة الصغيرة نفسها داخل المخيّم. تكلّم أحمد، الشقيق الأكبر بينهما، بصوت أجشّ عن الوقت الذي أمضياه مع «الدولة الإسلامية»، بينما راح أمير يحدّق بالأرض. قالا: «أعطونا المخدرات وصدّقنا كل ما قيل لنا بعدها».

بقي أحمد وأمير رهينتَين لدى «الدولة الإسلامية» طوال تسعة أشهر واحتُجزا في مخيّم عسكري في الموصل، معقل «الدولة الإسلامية» في العراق. استعملت المنظمة الإرهابية الضرب والأسلحة لتدريبهما كي يصبحا جزءاً من الأطفال الجنود أو «أشبال الخلافة» كما تسمّيهم «الدولة الإسلامية». كان «الأشبال» يفجّرون نفسهم لقتل «الكفار»، وكانوا يشاهدون عمليات قطع الرؤوس لتعلّم طريقة تنفيذها ويتبرّعون بالدم للمقاتلين الراشدين المصابين ويسلّمون الخونة.

يصعب أن نحدد عدد الأطفال الجنود الذين يتدربون مع «الدولة الإسلامية». تشير تقديرات الخبراء إلى وجود 1500 فتى في خدمة الجماعة الإرهابية في العراق وسورية. يولد البعض من آباء مقاتلين. تشمل الأراضي التي تسيطر عليها «الدولة الإسلامية» اليوم أكثر من 31 ألف امرأة حامل. يصل أولاد آخرون مع أهاليهم من الخارج حين ينضم هؤلاء الأهالي إلى الحركة الجهادية. وفي حالات كثيرة، يكون «الأشبال» أبناء مقاتلين محليين أو أيتاماً ينضمون إلى «الدولة الإسلامية» طوعاً. لكن يُخطَف آخرون من أمثال أحمد وأمير.

نشأ الشقيقان في إحدى بلدات منطقة سنجار. عاشا حياة جيدة بحسب قولهما وكانا يلعبان كرة القدم ويتسلقان الجبال ويلتقطان الدجاج إلى أن هاجمت «الدولة الإسلامية» قريتهما في أغسطس 2014. وصل الرجال إلى البلدة في شاحنات صغيرة وهددوا السكان إلى أن هربوا من باب الخوف لكن كان الأوان قد فات حينها. سحبوا الشقيقين إلى المركبة وقادوهما إلى نقطة تجمّع في تلعفر حيث قرروا ما سيفعلونه بهما.

قسّمت «الدولة الإسلامية» الفتيان إلى مجموعتين، فأرسلت الصبيان الأصغر سناً والأكثر ضعفاً إلى المدرسة لتعلّم القرآن والفتيان الأكبر سناً إلى التدريب العسكري مباشرةً في الموصل. سيق أحمد وأمير إلى معسكر التدريب مع 200 طفل آخر. أرادت «الدولة الإسلامية» أن ينسيا أنهما يزيديان. التزما الصمت كما قالا لأن الخوف منعهما من التكلم.

منذ أن بدأت «الدولة الإسلامية» تخسر الأراضي في سورية والعراق نتيجة تكثيف العمليات العسكرية ضدها، عززت المنظمة الإرهابية جهودها الدعائية التي تستهدف الأولاد. اكتشف الباحثون في مؤسسة «كويليام» البريطانية التي تحلل الحملة الدعائية الخاصة بـ»الدولة الإسلامية» أن عدداً إضافياً من الأولاد في عام 2015 استُعمِل لدعم المنظمة الإرهابية في وسائل الإعلام أكثر من أي وقت مضى. زادت أيضاً الأعمال الوحشية التي يرتكبها الأولاد وزادت الوثائق التي تثبت أن الأولاد يعملون كجلادين لدى «الدولة الإسلامية»، ظاهرياً على الأقل. لقد حاولوا بهذه الطريقة مقاومة الضربات الجوية في سورية بحسب قول نيكيتا مالك الذي قاد الدراسة.

قال مالك إن «الدولة الإسلامية» تختار الأولاد كي تثبت أنها لم تتأثر بالقنابل نسبياً. شرح رسالة «الدولة الإسلامية» قائلاً: «مهما فعلتم، نحن نربّي جيلاً متطرفاً هنا». داخل هذا النظام، يقول مالك إن مهمة الأولاد تقضي بنشر إيديولوجيا «الدولة الإسلامية» على المدى الطويل والتسلل إلى عمق المجتمع والترسّخ فيه لضمان استمرارية مناصريها حتى لو خسرت الحركة أراضيها.

في فترات الصباح التي تسبق شروق الشمس، كان أحمد وأمير يصلّيان. ثم تعلّما المهارات الأساسية التي يكسبها جميع الأطفال الجنود: كيف نفكك سلاح كلاشنكوف؟ كيف نشغّل عبوة ناسفة؟ كيف نفجّر سترة ناسفة؟ كان رجال «الدولة الإسلامية» يضربونهما بالعصي ويركلونهما في المعدة لزيادة قوتهما كما يقولون. في المساء، كان الشقيقان يتمددان على فراش مليء بالبراغيث. بدا جسماهما أشبه بجثتين هامدتين. كانا يفكران دوماً بوالدَيهما بعدما شاهداهما آخر مرة وهما يلوّحان لهما حين سيقا في شاحنة «الدولة الإسلامية».

أعطاهما عناصر «الدولة الإسلامية» ملابس أفغانية سوداء وأخذوهما إلى الجبهة بحسب قول أحمد. أرادوا منهما أن يشاهدا أعداءهما: «حزب العمال الكردستاني»، اليزيديون، «البشمركة». في إحدى المناسبات، قطع مقاتل رأس يزيدي أمامهما. قال لهما الرجال: «سنقتلكما أيضاً إذا لم تغيّرا دينكما». في تلك الفترة توقف أمير، الألطف بين الشقيقين، عن الكلام.

أعطاهما عناصر «الدولة الإسلامية» أيضاً حبوباً لم يرغبا في ابتلاعها في البداية. ثم لاحظا أن الراشدين الذين كانوا يأخذونها يبدون أكبر ثقة بنفسهم. يقول أمير: «حين ابتلعنا تلك الحبوب، تغيّر كل شيء». اختفى خوفهما وتلاشى الشعور بطعنة في القلب. بدأ الشقيقان حينها يصدّقان أن اليزيديين أدنى مستوى من غيرهم.

في كل مساء، كان أحمد يتسلل إلى بعض الشجيرات وراء المهجع بعد التدريب. كان يخبّئ هاتفاً خليوياً هناك، على الأرض تحت كومة أغصان، ويستعمله لكتابة الرسائل إلى والدته: «مرحبا أمي، ما زلنا على قيد الحياة» أو «أشتاق إليك».

حين ضبطه حارس وشاهد الهاتف الممنوع معه في إحدى الأمسيات، جرّه الرجل إلى غرفة ومزّق قميصه وضربه 250 مرة بالجزء الخشبي من أنبوب ماء وكسر عظم صدره. نما العظم مجدداً لكن بطريقة ملتوية ويبدو ناتئاً من قميصه اليوم. ستُذكّره هذه العلامة بِشَرّ «الدولة الإسلامية» لبقية أيام حياته. بدأت عيناه ترتجفان حين وصف الحادثة.

شجاعة

ثم تحلّى الشقيقان أخيراً بالشجاعة للهرب من المعسكر. هربا مع ولدَين آخرين ليلاً حين غفل عنهم الحراس. سافر الأولاد طوال تسعة أيام إلى أن التقوا ببعض مقاتلي «البشمركة». ناموا تحت الشجيرات نهاراً ولم يملكوا ماء وافرة للشرب. كان أحد الفتيان في المجموعة قد حاول الهرب سابقاً، فكسر عناصر «الدولة الإسلامية» قدمه بطرف بندقية واضطر الفتيان الآخرون لحمله في معظم فترات الرحلة.

كان الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين قد استغل الأولاد أيضاً واستعملهم كجنود. بدءاً من منتصف التسعينات، بُنيت معسكرات صيفية في العراق لتجنيد آلاف الفتيان. سعى النظام إلى تجنيدهم لتحسين قدرته على اختراق المجتمع. سُمّيت وحدة الأطفال الجنود التي تشكّلت بعد الحرب الإيرانية العراقية «أشبال صدام». أشارت التقديرات إلى مشاركة آلاف الأولاد في حرب العراق في عام 2003. ثم تبنّت «الدولة الإسلامية» ذلك المصطلح واستعملت عناصر أساسية من البرنامج التدريبي الخاص بـ»أشبال» صدام.

داخل المخيّم، اجتمع حشد صغير من الناس على مدخل الخيمة التي أقام فيها أحمد وأمير حين كانا يسردان قصتهما. تريد أمهما الجالسة بالقرب منهما أن يعود ابناها إلى حياة الطفولة مجدداً. تجلب لهما الماء حين يبكيان ليلاً وتضع يدها بهدوء على فمهما حين يقتبسان عبارات من القرآن. تأمل الأم أن تتلاشى أصوات المعذَّبين التي تصدح في عقول ولدَيها مع مرور الوقت.

يحصل تجنيد الأولاد على مراحل عدة، بدءاً من التنشئة الاجتماعية البريئة. تنظّم «الدولة الإسلامية» مناسبات تحرص فيها على تقديم الحلويات للأولاد ويُسمَح للفتيان الصغار هناك بحمل علم «الدولة الإسلامية». ثم يعرضون أمامهم فيديوهات مليئة بمشاهد العنف. في المرحلة اللاحقة يتعلمون المعارف الإسلامية وأسس العدّ وعلم الحساب في كتبٍ مليئة بصور الدبابات داخل المدارس المجانية التي تستعملها «الدولة الإسلامية» لدعم الحركة. ثم يتدربون على قطع الرؤوس باستعمال دمى شقراء ترتدي بذلات برتقالية. وبفضل التطبيق الجديد الذي طوّرته «الدولة الإسلامية»، يتعلمون إنشاد الأغاني التي تدعو الناس للانضمام إلى الجهاد.

في المناطق التي تسيطر عليها «الدولة الإسلامية»، لا بدائل عن تلك المدارس. إنها نقاط تجمّع للأولاد الذين يختارهم التنظيم لدخول مخيّماته العسكرية. تزور الفِرَق الكشفية الصفوف وتختار الطلاب الذين سيكسبون صفة «الأشبال». حين يَعْلَق الأولاد داخل هذا النظام، يصعب عليهم أن يتحرروا منه.

مرّت ثلاثة أيام منذ أن نجح وهاد (11 عاماً) بالهرب من مدرسة القرآن التابعة للدولة الإسلامية في تلعفر. يجلس الآن على كرسي في مكتب منظمة إغاثة في دهوك. إنه صبي نحيل، عيناه زرقاوان، شعره أحمر، ولديه نمش على وجهه. جلبه إلى هذا المكان عمّه إدريس، رجل قوي له شارب سميك. كاد هذا الأخير يخسر حياته أيضاً حين كان تحت سطوة «الدولة الإسلامية».

ما من دعم قوي للأطفال الجنود الذين ينجحون في الهرب. يتولى ميرزا ديناي، موظف في منظمة «الجسر الجوي» العراقية، جمع البيانات عنهم على أمل أن ينشأ مشروع لمساعدتهم يوماً. يوضح ديناي: «تملك السلطات راهناً ما يكفي من المعلومات عن النساء اللواتي تعرّضن للاغتصاب من جانب عناصر «الدولة الإسلامية»». لكنه يسجّل قصة وهاد.

حضّر ديناي صفحة بالأسئلة التي يريد أن يجيب عليها وهاد. لكن بالكاد يستطيع وهاد التركيز. لا يمكنه منع نفسه من التفكير بآية معينة من القرآن. يريد ديناي أن يعرف إلى أي حد نجحت «الدولة الإسلامية» باستمالة وهاد وإلى أي درجة غيّر دينه.

سأله بنبرة لطيفة وفضولية: «هل تجيد اللغة العربية»؟

قال وهاد: «لا».

«بأي لغة تتكلم»؟

أجاب وهاد: «الكردية».

«وكيف تقرأ القرآن بما أنه مكتوب باللغة العربية»؟ التزم وهاد الصمت.

«هل أنت مسلم أم يزيدي»؟

نظر وهاد إلى الأرض واحمرّ خدّاه من الخجل. قال هامساً: «يزيدي»! بالكاد يتحمّل فكرة أنه خان اليزيديين وأصبح جزءاً من المعسكر الخاطئ.

مركز الصحة العقلية

وقف وهاد أيضاً أمام المدرسة في تلعفر حين كان عناصر «الدولة الإسلامية» يختارون رهائنهم. كان واحداً من أضعف الأولاد الذين وصلوا إلى مدرسة القرآن. حجزته «الدولة الإسلامية» مع 34 صبياً آخر في غرفة فارغة عادت وأصبحت سجناً لهم طوال عشرين شهراً. في كل صباح، قبل شروق الشمس، تدخل معلّمة تابعة للدولة الإسلامية إلى الغرفة وتوقظهم للصلاة. ثم يدرسون القرآن لسبع ساعات. لتشجيعهم على تطبيق تلك التعاليم، قيل لهم وكأنهم جزء من قصة خيالية: «إذا أحسنتم التصرف، فسنسمح لكم بمقابلة أمهاتكم»!

لم يصبح وهاد جندياً ولم يشارك في القتال ولكنه تعرّض لصدمة قوية لدرجة أنه ما عاد يتكلم كثيراً. يعمل علماء النفس في «مركز الصحة العقلية» في دهوك مع أولاد مثله «إلا إذا كانت صدمة الأهالي تمنعهم من جلب أولادهم» بحسب ما قالته الطبيبة النفسية ثيكرا أحمد محمد أثناء وجودها في غرفة ملوّنة ومخصصة للعب. في الماضي، كان الأولاد الذين يختبرون الصدمات نتيجة حوادث السير أو يبللون أسرّتهم يتلقون العلاج. أما اليوم، فيشمل المرضى أشخاصاً مكتئبين حاولوا الانتحار، بعضهم أولاد يقلّ عمرهم عن 10 سنوات.

أوضحت الطبيبة النفسية أن طفلاً في الرابعة من عمره جرّب أموراً قامت بها أمامه شقيقته التي تبلغ 6 سنوات، مثل وضع السجائر على ذراعها أو ربط حبل حول عنقها. ويوقظ طفل في الخامسة من عمره أمه في الظلام ويقول لها: «يجب أن تصلّي»! يرسم محمد صوراً فيها أولاد. غالباً ما يرسمون نفسهم بعيون كبيرة وأفواه صغيرة.

في المساء، وقف وهاد أمام أحد المباني السكنية في دهوك حيث يقيم مع عمّه. شاهد أولاد الجيران يلعبون بقطع الرخام لكنه تابع التحديق في الفراغ. كان عمّه إدريس يجلس بالقرب منه على مقعد ووصف كيف قتل عناصر «الدولة الإسلامية» طفلاً حاول الهرب ورموا الجثة وسط الأولاد الآخرين. بالكاد يتكلّم وهاد وحين يفعل يشبه صوته زقرقة عصفور صغير.

لا يستطيع العمّ إدريس بدوره نسيان صور الماضي. حين هاجمت «الدولة الإسلامية» بلدته، أُجبر مع اليزيديين الآخرين على التمدد أرضاً على شكل صف طويل. مشى مقاتلو «الدولة الإسلامية» على طول الخط وأطلقوا النار وقتلوا 380 رجلاً لكنهم لم يصيبوا إدريس. تظاهر هذا الأخير بأنه ميت فنجا بعدما وجده البدو الذين أطعموه الطماطم والكبد النيء.

يصعب أن يتقبّل إدريس أن يصبح وهاد طفلاً صامتاً وأن يعجز عن التكيّف مع تلك الأهوال مثله. لكن يبذل إدريس قصارى جهده لمساعدته. توجّه نحو الأولاد الذين يلعبون بالرخام ووضع يده على كتف وهاد ودلّك عنقه بقوة.

قال له: «سآخذك إلى الحديقة غداً. ستشاهد مظاهر الحياة الطبيعية هناك. سأجعلك قوياً يا وهاد». دفعه إدريس قليلاً كي يتقدّم. شعر وهاد بالخجل والتقط بعض قطع الرخام ونظر إلى عمّه وأحنى رأسه وقال بصوته الناعم: «نعم، سأصبح بقوة المحاربين!»

ِ «الدولة الإسلامية» قسَّمت الفتيان إلى مجموعتين فأرسلت الأصغر سناً والأكثر ضعفاً إلى المدرسة

ِ داخل المخيّم اجتمع حشد صغير من الناس على مدخل الخيمة التي أقام فيها أحمد وأمير حين كانا يسردان قصتهما
back to top