«حركة النور»... مدخل الإسلاميين الأتراك (2-3)

نشر في 04-08-2016
آخر تحديث 04-08-2016 | 00:06
 خليل علي حيدر

خلاصة أفكار النورسي

يقول الباحث د. كمال حبيب في كتابه "الدين والدولة في تركيا المعاصرة: صراع الإسلام والعلمانية، القاهرة 2010، إن من الممكن تلخيص مجمل أفكار "التيار النورسي" في تركيا بالآتي:

1- الإسلام هو خلاص البشرية المعاصرة داخل العالم الإسلامي على الصعيد العالمي، وبخاصة بعد أن ظهرت للإنسان المعاصر أهمية الدين واستحالة العيش بدونه.

2- القرآن الكريم هو المصدر المعرفي الوحيد الذي يمكن الاستناد إليه في استخلاص الأفكار والمعارف التي يتحقق بها صلاح الفرد والجماعة.

3- الايمان والعلم قرينان ولا تناقض بينهما، ويقول "إن المستقبل الذي لا حكم فيه إلا للعقل والعلم سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامه إلى المنطق والعقل والبرهان".

4- الحرية الحقيقية هي التي تنبع من الإيمان، وتعني الحرية عدم فرض السيطرة على الآخرين من ناحية، والالتزام بقواعد الإسلام من ناحية أخرى، فالحرية والإيمان مرتبطان، والحرية المطلقة ما هي إلا الوحشية المطلقة والبهيمية، وتحديد الحرية ضرورة من وجهة النظر الإنسانية، والحرية الخارجة عن دائرة الشرع إنما هي استبداد.

5- التغيير في الأفراد والتجمعات يأخذ في اعتباره الزمن والعصر ويعتمد سنة التدرج.

6- احترام النظام الجمهوري الصالح الذي يعتمد الإسلام مرجعية له، فخلفاء الإسلام كانوا إلى جانب كونهم خلفاء رؤساء جمهورية كذلك.

7- تأكيد مفهوم الانتماء إلى الأمة الإسلامية وإحياء الوعي بمفهوم الوحدة والجامعة الإسلامية.

8- البعد عن السياسة وعدم خوض غمارها، فحقيقة الإسلام أسمى من كل سياسة، "إنني أفضل حقيقة واحدة من حقائق الدين على ألف قضية سياسية من قضايا الدنيا، ويقول د. حبيب، إن رأي النورسي هذا "يعبر عن الرؤية نفسها التي يمثلها حزب العدالة والتنمية اليوم في تركيا، حيث يرى قادته ضرورة الفصل بين المجال السياسي وبين المجال الديني والعقدي، بحيث لا تقحم قضايا الدين في السياسة أو توظف لصالحها دون أن يعني ذلك استبعاد الدين عن الحياة كما تذهب العلمانية". (ص71).

المستقبل للإسلام

9- حقائق الإسلام تمتاز باستعدادها استعداداً كاملاً لدفع أهلها إلى مراقي التقدم المعنوي والمادي معاً، فبقدر ما يتمسك أهل الإسلام بالحقائق الإسلامية يزدادون رقياً وتقدماً.

10- المستقبل للإسلام كدين وحضارة تستجيب للفطرة الإنسانية وللأشواق الروحية للإنسان المعاصر، والمستقبل للإسلام كعالم وأمة: "إن أوروبا وأميركا حبالى بالإسلام، وستلدان يوما دولة إسلامية، الإسلام وحده سيكون حاكما على قارات المستقبل".

11- رفض مفهوم العلمانية الذي يبعد الدين كلية عن الحياة، فالإسلام "نظام كامل للحياة".

12- اعتماد الوحي (القرآن والسنّة) والشريعة كمصدر للممارسة الإسلامية، بعيداً عن الإلهام والكرامات والذوق التي تتبعها الطرق الصوفية.

13- تداول الحضارات بين صعود وسقوط، فالحضارة يقول "النورسي"، لا تسير في خط مستقيم بل تدور ضمن دائرة كدوران كرتنا الأرضية، ومن ثم لا يزال المستقبل مفتوحاً أمام صعود الحضارة الإسلامية وامتلاك أسباب النهوض.

14- البعد عن استخدام القوة المسلحة في التغيير، فيرى "النورسي" أن السلاح سيقتل حامله، والجهاد المسلح لايحشد إلا ضد العدو الخارجي.

مخاطر مادية الغرب

15 - حذر "النورسي" من الحضارة الغربية المادية ومن مدنيتها الزائفة، التي تمثل خطرا على الإنسانية، والحضارة الإسلامية هي التي تحقق السعادة لغالبية البشر المعاصرين، ويقول منددا بالحضارة الغربية "يا أوروبا الثانية! اعلمي جيدا أنك أخذت بيمينك الفلسفة المضلة السقيمة، وبشمالك المدنية المضرة السفيهة، ثم تدعين أن سعادة الإنسان بهما، ألا شُلّت يداك وبئست الهدية هديتك، ولتكن وبالاً عليك".

ولكن رغم ذلك يدعو إلى الحوار بين الحضارة الإسلامية والمسيحية في مواجهة قوى الإلحاد، ويقول: "إن على المسلمين والمسيحيين في هذا العصر عدم الركون إلى الخلافات بينهم، بل يلزمهم توحيد قواهم لمحاربة عدوهم المشترك الذي يكمن في المادية والإلحاد وغير المتدينين ذوي النوايا العدوانية".

16 - رفض النورسي الاستبداد السياسي، وعرف الجمهورية بأنها عبارة عن العدالة والشورى وحصر القوة في القانون، ويقول: "أليس من الجناية على الإسلام أن نستجدي الأحكام من أوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل 13 قرنا، إن القوة لا بد أن تكون في القانون وإلا فسيتفشى الاستبداد في الكثيرين".

17 - يرفض النورسي النظام الرأسمالي والاشتراكي معاً، ويرى أن النظام الإسلامي هو الطريق الوسط.

هذه هي الخطوط العامة لأبرز أفكار التيار النورسي، كما احتوتها رسائل النور، ويقول د. حبيب، إن هذه الرسائل استطاعت أن توجد مساحة مهمة لبقاء المشروع الإسلامي حاضرا وبقوة في الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان التركي في مواجهة مشروع الدولة الكمالية.

(الدين والدولة، د. كمال حبيب، ص 68-76).

نقد فكر النورسي

ومن الواضح للقارئ مدى طغيان التصورات المثالية والرؤى الطوباوية والأفكار النظرية على برنامج الشيخ سعيد النورسي، والحقيقة أن نمط النورسي الفكري القائم على الانتقائية والإيمانية نمط واسع الانتشار في العالم الإسلامي، حيث يرسم الكثير من المفكرين الإسلاميين والدعاة في مصر وباكستان وإيران ودول الخليج ما يتمنون ويشتهون من مسارات ومجالات للحياة السياسية الإسلامية الخالية من عيوب المجتمعات الصناعية والرأسمالية والاشتراكية، كما كان عليه الأمر زمن الحرب الباردة.

والشيخ النورسي كغيره يسبح في دنيا الخيالات والأماني، ويخلط بين الإسلام كدين وبين الحياة السياسية الواقعية في نظام يعتبر نفسه قائما على "الإسلام الصحيح" وعلى "الشريعة المطهرة والسنّة الشريفة"، ولا يحسب أي حساب واضح لتصادم قيم الدنيا بقيم الدين، وتأثير الوضع الدولي، والاحتياجات المتنوعة للدولة الحديثة، والحاجة الماسة للاعتماد على غير المسلمين احتياجهم إلى الاعتماد على المسلمين.

كما أن الاختلافات الفكرية والفقهية وتضارب المصالح السياسية والشخصية بين أتباع التيار الديني نفسه كثيرة، لعل أقربها في يومنا هذا ما نراه من تصادم بين فتح الله غولن، أحد أتباع الشيخ النورسي، وبين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

وقد نقلت إحدى الصحف عن محلل تركي أن "إردوغان" و"غولين" لا يختلفان سياسيا "فهما معارضان لمبادئ مصطفى كمال أتاتورك، ويتبنيان إسلاما معتدلا وبرنامج مجتمع محافظ، وكانا متحالفين إذ اعتمد إردوغان عندما كان رئيسا للحكومة فترة طويلة على شبكة غولين- داخل تركيا وخارجها- لإرساء سلطته في مواجهة نفوذ التيار الكمالي والعلماني في الإدارة".

(الجريدة، 22/ 7/ 2016).

التصدي للنفوذ السوفياتي

لم تخل بعض مقترحات الشيخ النورسي من الفهم الاستراتيجي في استغلال العامل الديني في السياسة الدولية، فبعد إلغاء السلطنة عام 1923 والخلافة العثمانية عام 1924، حاول النورسي أن يوجه الإدارة الجديدة في تركيا بعرضه عليها إعطاء أهمية للدين في السياسة الداخلية واتباع سياسة اجتذابية نحو فكر الوحدة أو الجامعة الإسلامية في السياسة الخارجية، والاستفادة من التشهير الإسلامي والدولي بخطر روسيا والبلشفية، ورأى أن مرتكز هذه الاستراتيجية كون الشعور الديني أهم عائق أمام انتشار الشيوعية التوسعية التي تهدد تركيا، كما أن اجتذاب مسلمي روسيا نحو تركيا استنادا إلى رابطة الإيمان، سيشكل عنصر توازن مع ثقل الاتحاد السوفياتي.

وقال إن الحقائق القرآنية تماثل "سد ذي القرنين" لصد تيار الإلحاد العقائدي، فما أوقف زحف البلشفية وروسيا علينا "الحقائق الإيمانية والقرآنية"، ثم إن اتباعنا سياسة الاستفادة من العامل الديني سيؤدي إلى "إجبار القوى الغربية الموجودة تحت تهديد الشيوعية في التوازنات الجديدة للسياسة العالمية، على عدم معارضة فكرة الاتحاد الإسلامي". (الحركات الإسلامية، طارق السيد، ص160).

وأكد الشيخ النورسي "أن أخطر شيء في هذا الزمان هو الإلحاد والزندقة والفوضى والإرهاب، وليس لنا تجاه هذه المخاطر إلا الاعتصام بحقائق القرآن". (ص161).

لم يترك "النورسي" جماعة واحدة معروفة تواصل مسيرته، ولم يعين لنفسه خليفة من بعده مرشدا لتلاميذه، فانقسم "التيار النورسي" بعد وفاة قائده عام 1960، وكان انقسامه حول فكرة أو قضية تأسيس حزب سياسي، فبعد انقلاب 1960 وتأسيس "حزب العدالة" بقيادة "سليمان ديمريل"، دخل الإسلاميون جميعا تحت عباءته، في مواجهة حزب الشعب الأتاتوركي، وكانت غالبية طلاب تيار النور تعارض إنشاء حزب سياسي، إذ إنهم لم يكونوا قد حسموا دخولهم في العمل السياسي المباشر، وكان الخط الرئيسي في تفكير "جماعة النور" هو إرشاد أهل السياسة لا الانخراط فيها.

خلفاء النورسي

ويقول د. حبيب، إن الجماعة أفرزت أربع مجموعات أبرزها وأقواها اليوم "جماعة فتح الله غولين" التي انفصلت عن المجموعة النورسية الرئيسة، وهي "يني آسيا"- أي آسيا الجديدة- وذلك عام 1971، ويشار عادة إلى ثلاث مجموعات أخرى تواصل مسيرة "النورسي"، وهي "مجموعة الجيل الجديد" Yeni Nasil، ومجموعة "وقف الزهراء" التي تبنّت مشروع إنشاء جامعة باسم الزهراء، وهو المشروع الذي حاول "النورسي" إنشاءه في عهد السلطان عبدالحميد. ويضيف د. حبيب أن هؤلاء "يمثلون 5% من التيار النورسي، ويكثر الأكراد المنتسبون لهذه المجموعة لدرجة أنهم يعرفون بالنورسيين الأكراد".

ومن مجموعات تيار النورسي "مجموعة الشورى" وهي تمثل ما يقرب من 35% من منتسبي الجماعة، وهم يعبرون عن الفكر التقليدي للنورسية، ويهتمون بإنشاء المدارس النورية في تركيا وخارجها، ولها اهتمام بالطباعة والنشر وعقد المؤتمرات الدولية، "ويؤيد النورسيون اليوم في تركيا حزب العدالة والتنمية".

ويضيف د. حبيب: أنهم يرون في حزب العدالة معبرا عن روح الجماعة التي لا تزال ترى أنها لا تعمل بالسياسة وإن كانت تحرص على إرشاد السياسيين، وتقوية التيارات السياسية، "التي ترفع سقف العمل الإسلامي والدعوة، بعيدا عن الدخول في صدام واضح مع العسكر والدولة التركية العميقة"، كما يقول د. حبيب، "ولذا فهم يتحفظون على سلوك التيار الأربكاني ذي الطابع الصدامي، ويرون أنه لم يكن مناسبا للروح التركية"، ولا ندري ماذا يقولون اليوم عن رجب طيب إردوغان؟!

(يتبع غداً)

back to top