رحلة المجهول في عالم الغربة
ظلم على ظلم...في عالم كبير مظلم يتمحور في مكان مجهول بالعتمة يسمى ماليس، عاش الطغاة يعيثون فيه فساداً، ناهيك عن السحرة والأموات وكل صنوف الغرائب.وكان يحكمهم آنذاك قائد يدعى بسبارتو، يقال عنه إنه ظالم وينقصه الكثير كي يصبح القائد الأفضل، إلا أن غطرسته وكبرياءه حالا دون ذلك، فهو خليفة لوالده الراحل سولمن الذي كان عادلاً ومحبوباً من الشعب ومن كل ما كان يعيش في هذا العالم الغريب، بعكس ابنه الطاغية.مرّت السنون وطافت الأيام والعالم بدأ يختل توازنه بسبب ظهور شر جديد ينافس بسبارتو، إنه فاليس، شخص قَلَب موازين الشر رأساً على عقب وحوّل كل ما كان عند بسبارتو إليه...
هذا التغيّر المفاجئ أدّى إلى تحوّل العالم إلى شقّين، شق يساند بسبارتو وشق يدعم فاليس.وفاليس شر قد ظهر من المجهول ولا يُعرف له كيان أو موطن، أو هذا ما اعتقده الجميع في بادئ الأمر.. فقد كانوا يتحدثون عنه من غير أن يروه قط.سيطرته على العالم جعلت بسبارتو يفكر في المستقبل ومصيره المظلم، وأنه خطر بدأ يدق ناقوسه، مما جعله يلجأ إلى السحرة والكهنة الذين ظلوا أوفياء له، فقط إكراماً لوالده سولمن، توجّه إليهم وكله أمل بمساعدتهم له...أشاروا له بأن يكون متعاوناً مع نفسه في المقام الأول ثم أن يفهم الغير ومشاعرهم، وأن يفتح قلبه للآخرين، وأن يكفَّ عن غروره وعن عنجهيته ويتعاون مع الجميع كي يصل لبر الأمان.وتحت شروطهم وافق بسبارتو مُرغماً، فتمّ إرشاده للحل من أجل الوقوف في وجه منافسه اللعين فاليس...1988 – ألمانيا – برلين – الساعة 10:00 مساء:منزل آل شيفايندرطرقات الباب كانت مسموعة بشكل واضح ولافت إثر ذلك التناغم المهذب: سيدي... سيدي.كان ذلك جنو وهو يدخل على سيده ليونيل الغرفة ليذكّره بموعد الرحلة البحرية.جنو: سيدي رحلتك قد حان وقتها. فهل أحمل لك أمتعتك الآن؟؟أومأ ليونيل برأسه آذناً له بذلك.فقد عُرف عن ليونيل الهدوء والحكمة والكل كان يحترمه على الرغم من صغر سنه، إذ إنه يبلغ من العمر 26 ربيعاً. كان أبيض اللون كبياض الثلج والشعر أسود في سواده حلكة الظلام الدامس، لم يكن شعره طويلاً جداً، إنما ناعماً كالخيوط الحريرية والذي يصل لنصف رقبته، طويل القامة، أنيق اللباس ترى في هيئته نبلاء العالم.على عكس جنو الذي كان يرتدي من الملابس ما هو بسيط، فقد كان شاباً أصغر من ليونيل بأربع سنوات، شاب مكافح ترى الإصرار في عينيه، مسرور بخدمة سيده النبيل...بداية المجهول...حان موعد الرحيل، لينطلق الاثنان إلى المرفأ الهادئ، وصل كل من السيد وخادمه إلى المركب الأنيق الأبيض، لم يكن المركب كبيراً، بل كان متوسط الحجم، وكان يُستخدم للرحلات البحرية التي كان ينظِّمها جده الراحل.كان الوقت حين وصولهما ليلاً... حاول جنو أن يثني سيده عن الرحيل بعد أن أدرك بقرارة نفسه خطورة تلك الرحلة الغريبة: أرجوك سيدي لا ترحل، فالوقت قد تأخر والبحر أصبح غامضاً بحدِّ ذاته وأخشى عليك من فجوة المجهول...كانت فجوة المجهول قصة تقال عند النوم تخيف الأطفال الذين يلعبون بالقرب من البحر كي تعدلهم عن الاقتراب منه ليلاً، فهي تسحب كل مَن يدخل البحر من غير استئذان... مجرد أسطورة توارثها الجميع وحفظوها في جعبتهم.ليونيل مستاء: جنو توقّف عن الإلحاح وكأنك أمي... ثم ألا زلت تصدِّق هذه الخرافات البالية؟قال كلماته تلك وهو يهمّ بالصعود إلى المركب الذي تحرّك إلى مجهول مظلم بثناياه المرعبة وكان في حالة صمت شديدة...الليل مرعب والبحر غامض أي منهما يفضِّل المرء أن يتوه فيه؟ عبارة قالها ليونيل وهو وسط البحر والنجوم البراقة في السماء كأنها شكّلت اسم ليونيل من نور. لحظات حتى بدأت الأمواج تثور ويتعكّر مزاجها، كي تظهر دوامة كبيرة رمادية اللون في وسط البحر المظلم لتبتلع كل شيء بما في ذلك ليونيل المصدوم والمشدوه لهول المفاجأة. كان متمسكاً بمنصة المركب بكل يأس... تذكّر حديثه مع جنو عن الفجوة وأنها كانت خيالاً وأسطورة تتناقلها الأجيال لا أكثر!لم يتوقع بأنه سوف يراها يوماً... شريط حياته مرّ أمامه بسرعة قبل أن تسحبه الفجوة...عتمة تلفّها عتمة، رياح باردة تهب من المجهول.فجأة وبعد الحادثة بوقت غير معروف صحا ليونيل من غيبوبته وأدرك بأنه على قيد الحياة وما زال قلبه ينبض من هول الحادثة، فهذه الفجوة لم تسحبه إلى أعماق البحر بل إلى بعد آخر من العالم، عالم مجهول بكل معنى الكلمة وكأن العالم الحقيقي والبعد الآخر قد التقيا بكل انسجام أخيراً. تلفّت حوله يتفحّص المكان والارتباك بادٍ على وجهه الشاب، إنه بستان رائع من الزهور يشدّ الأبصار من شدة سحر المنظر وسط اسوداد الظلام والقمر بارز في مكانه.صاح قائلاً: إنه لمشهد رائع، لشد ما تمنّيت أن أرى مثل هذا المنظر الباهر!وقف بطوله الفارع يتأمّل هذا العالم الغريب ومن أين جاء وكيف الخروج منه، تساؤل عميق دار في خلد الشاب عن المكان الذي هو فيه.مرّ من الزمن ليس بالقليل وهو يراقب تحركات ذلك المكان، وكان البستان لا ينتهي من طوله.ساد المكان سكون هادئ في كيانه وقد هبت رياح باردة داعبت شعره الأسود الناعم بكل تناغم، فما كان منه إلا أن التفت خلفه فإذا بأيادٍ عظمية تخرج من تحت قدميه وتشق الأرض شقًّا... ذُعر ليونيل وكاد قلبه أن يتوقف من المفاجأة، فقد كانت هياكل عظمية مرعبة بأشكالها القبيحة.كان قلبه الشاب يخفق بشدة غير مصدّق ما تراه عيناه، فما كان منه إلا أن ركض بعيداً والهياكل العظمية تطارده، بدأ يشك إن كان يحلم أو أنه مات أصلاً من الحادث؟!بدأ يتحسّس كامل جسده مذعوراً وكاد الرعب أن يلتهم وجهه المتشنّج. ثم أيقن بأن الركض لا يجدي نفعاً، استجمع قواه وهو يغلق قبضته بقوة بعد أن اتخذ قراراً قد يندم عليه فيما بعد، قال بداخله مصمماً: هذا يكفي... لطالما كنت أهرب من واقعي المرير، حان الوقت كي أواجه مصيري بنفسي دون أن أتراجع في هذا المجهول الغامض!التقط بالقرب منه قضيباً حديدياً كان مرمياً في ذلك البستان الغريب، وبات يضرب كالمجنون، يحطم تلك ويكسر ذراع أخرى، كان أشبه بالمايسترو المحترف وهو يحيي أمسية لا تُنسى في ليلة انتظرها الكثيرون... إلى أن أيقن بأنهم لا ينتهون، فكلما حطّم واحداً يعود ويتلاصق ويكوّن نفسه بسرعة!!وأخيراً أدرك الشاب المذعور بأن القتال لا ينفع، فلا بد من طريقة ما لهزمهم، باشر بالركض بعيداً عنهم ليجد نفسه عاد مرة أخرى إلى مكانه وكان الزمن قد توقّف لا يتحرّك.تساؤل وحيرة تشبثا في الشاب الضائع: لقد أضناني التعب وأنا واقف في مكاني، ما العمل يا ترى؟ أكاد أجن، في فمي ماء وهل ينطق مَن في فمه ماء؟ حكمة قالها تدل على الهم.فجأة نظر ليونيل عالياً إلى القمر فوجده في تغيّر مستمر، وأصبح على هيئة عين غريبة تنظر إليه من بعد، دبّ الرعب في قلبه المرهف مدركاً بأن ذلك الشيء وراء هذه الظاهرة الغريبة.فكلما سلّط القمر نوره البرّاق على عيني ليونيل وكأنها سهام لامعة تلألأت في سماء الكون، رأى أوهاماً مرعبة، فما كان منه إلا أن أغمض عينيه وباشر بالركض مسرعاً إلى الأمام، من غير أن يعلم عن وجهته القادمة شيئاً.مرّ الوقت عصيباً وبطيئاً عليه وهو يركض حتى وصل إلى مدينة غريبة التواجد في هذا العالم، كان منهك القوى بالكاد يلتقط أنفاسه المبعثرة على عاتقه.كانت المدينة وسط الظلام الدامس وكأنها اختبأت من المجهول، ولا شيء يحيطها، ساوره الشك وبدأ الارتباك يتصدّر على محياه.فتاة، زهور وجنون...دخل ليونيل المدينة طالباً الراحة بعد هذه المصيبة التي ألمّت به ولكي يتحقّق من أمره في هذا المجهول المحيّر... بدأ بالتجوّل في المدينة التي كانت خالية من السكان في أوجِّ الليل... البيوت مضاءة بأنوار خافتة، حتى الحراس لم يتواجدوا في هذه المدينة، لفت ناظره لوحة كبيرة كُتِب عليها فندق ومقهى ليلي، همَّ ليونيل بالدخول لشدة ما بُهِر من الموقف: أضواء مبهرجة، أجواء صاخبة، أشكال وأجناس من مرتادي المقهى. ولا شخص منهم يشبه البشر، فقد كانوا مخلوقات تشبه البشر على أشكال قطط وبعضهم غريب جداً.إلا أنهم يشبهون البشر في عاداتهم وتصرفاتهم... التهم الرعب قلب ليونيل، كونه أول مرة يرى مثل هذا الجنس فقد اعتاد على تصوّرهم في القصص الخيالية فقط.التفت الشاب يمنة ويسرى علّه يجد أحداً يخبره أين هو.رأى الكثير من الرجال يتهافتون على فتاة...وااااو.. إنها جميلة جداً، صاح أحد الرجال.يا لكِ من فاتنة يا صغيرتي.