قصة أحمد وألين...

طفلان عالقان في تركيا

نشر في 24-07-2016
آخر تحديث 24-07-2016 | 00:03
كان أحمد وألين يبلغان 10 سنوات و11 سنة على التوالي حين مات والداهما في حلب. فهربا إلى تركيا وأصبحا الآن جزءاً من الأطفال العاملين: يجمع الصبي الخردة وتعمل الفتاة في مصنع استغلالي. يحلم الولدان بالهرب لكنهما لا يجدان طريقة لتحقيق حلمهما.
في صباح مبكر من أحد أيام الصيف، راحت ألين (13 عاماً) تمشي وحدها في شوارع «مرسين» التركية المظلمة وكان التعب ظاهراً في عينيها. كانت تغني.
تقول كلمات الأغنية: في قديم الزمان خسر ولدان، صبي وفتاة، كل شيء: والديهما ومنزلهما وبلدهما. ظهرهما انحنى وأيديهما نزفت. كادا يموتان. لكن في أحد الأيام، كوفِئا على معاناتهما. أعاد إليهما الله بلدهما ومنحهما الذهب والسعادة. وفق الأغنية نفسها التي كان يتعلّمها طلاب المدارس من الرقة إلى دمشق، سيصبح الولدان ملك سورية وملكتها. توقفت ألين عن الغناء عندما كانت تنزل 15 درجة نحو قبو رطب بلا نوافذ.
«شبيغل» تخبرنا قصة هذين الطفلين في تركيا.
تفوح رائحة العرق في الجو. يبث ضوء النيون إشعاعاً ساطعاً على 24 وجهاً ناعماً: 19 فتاة و5 صبيان، جميعهم من الأولاد. ينهض بعضهم على العكازات وخسر ثلاثة منهم ساقهم. يصطفون بالقرب من بعضهم وكأنهم جنود فيما يناديهم رجل بأسمائهم ويصرخ باللغة العربية: «يلا، يلا»! فيتأهب الأولاد لبدء العمل. وضعت ألين وسادة وراء ظهرها وألقت قدمها اليسرى على دواسة وأمسكت بكومة ملابس. ثم أخذت قميصاً أسود ووضعته في الآلة وبدأت تخيط درزات متتالية. حين يهبط الليل مجدداً في الشوارع فوقهم، ستكون قد خاطت ألف درزة.

بعد فترة، ستشعر بتشنجات في عنقها ومؤخرتها وكتفَيها لكنها لا تتذمر. وبعد 12 ساعة فقط، ستفكّر بشقيقها الذي يبدأ في تلك اللحظات نوبة عمل ليلية على بُعد 300 كلم شرقاً في ساحة للخردة في «غازي عنتاب».

حان وقت الرحيل!

تولّت واحدة من عمّات الولدَين غسل الجثة ودفن أحمد ووالده الأم في آخر مقبرة متبقية في حلب.

ثم انتقل الثلاثة للعيش مع عمّهما. خسر والدهما محمد عمله أيضاً بعد فترة قصيرة على خسارة زوجته. صحيح أنّ قنابل متلاحقة سقطت على حيّهم، لكنه لم يشأ مغادرة حلب. يقول أحمد وألين إنه كان يشتم الأسد وجنود الدكتاتور الذين حاصروا نصف المدينة. لم يُسمَح للولدَين بمغادرة المنزل طوال أسابيع ثم طوال أشهر عدة. خلال النهار، كانا يشاهدان الدخان يتصاعد فوق منازل أصدقائهما. وخلال الليل، كانا يتمددان في السرير إلى جانب والدهما فيتمسّكان به حين تهتزّ الجدران بفعل الانفجارات.

يقول الولدان إن والدهما غادر المنزل ولم يعد مطلقاً في صباح يوم حار منذ سنة. أراد أن يجلب الطعام لهما: خبز بيتا وطحين وغالون ماء. كان آخر متجر متبقي في الحي يقع على بُعد أربعة مبانٍ، لكن انتشر القنّاصة على الأسطح في كل مكان كما قال لهما الجيران لاحقاً. زعم البعض أن جندياً تابعاً للنظام أطلق النار على والدهما في الجهة الخلفية من رأسه، لكن كان البعض الآخر متأكداً من تورّط مقاتلين من «الدولة الإسلامية». يقول أحمد وألين إنهما لم يشاهدا والدهما مجدداً.

دفع أحد أشقاء والدهما الميت آخر أموال متبقية له إلى مهرّبَين. اصطحب الأول الولدين إلى خارج المدينة بعد إخفائهما في صندوق سيارة، وقادهما الثاني مع سوريين آخرين إلى ما وراء الحدود سيراً على الأقدام. هكذا وصل الهاربون إلى الأراضي التركية.

استلمهما جنود وراء الحدود وتركهما المهرّبان وحدهما. كان الرجال يتكلمون بصوت مرتفع بلغة لم يفهماها وقادوا الولدين إلى غابة في محافظة «هاتاي». انفصل الشقيقان عن بعضهما هناك بعد بضعة أشهر. ذهب كل واحد منهما في سبيله من دون أن يشتبها للحظة بأنهما قد يفترقان إلى الأبد.

في البداية، عاشا في الغابة مع مئات الهاربين الآخرين داخل مخيّم تحت الأشجار وفي خِيَم مصنوعة من كرتون ومشمعات بلاستيكية من دون أسرّة أو طعام. لم يقابلا يوماً أي أطباء أو عاملين اجتماعيين أو أي مسؤول يستطيع الاعتناء بهما.

لحظة الانفصال

لكسب المال وتأمين الطعام، انضمّا بعد فترة قصيرة إلى لاجئين آخرين. فذهبا وراءهم إلى حقول مجاورة حيث راحا يقطفان القطن والبطيخ لصالح مزارعين أتراك طوال 10 ساعات في اليوم على مر سبعة أيام في الأسبوع. شاهدا فتيات سوريات أكبر سناً يسقطن تحت الشمس.

ثم حلّ الشتاء. بدأ الراشدون يبحثون عن عمل جديد وعن سقف يأويهم للاحتماء من البرد. في هذه المرحلة، انقسم الرجال والنساء والفتيان والفتيات. قيل لهم إن هذا الوضع لن يدوم طويلاً ولم يطرح الولدان أي أسئلة. صعدت ألين التي كانت قد تعلّمت الخياطة من والدتها في شاحنة بطيخ وتنقلت مع نساء أخريات على طول ساحل المتوسط وقطعن 300 كيلومتر لبلوغ مصنع الأقمشة في «مرسين». أما أحمد، فسافر مع الرجال نحو الشمال الشرقي في شاحنة لنقل المواشي وصولاً إلى ضواحي «غازي عنتاب».

في إحدى أمسيات شهر مايو، كان أحمد الذي لم يتجاوز طوله المتر ونصف يجرّ عربة وراءه بحذائه الرياضي الرث. كان يمر بين الأنقاض الصناعية ومتاجر إصلاح السيارات ومصانع مهجورة. كان الغسق أفضل وقت كي يقوم بعمله الذي يفرض عليه أن يبحث عن كل ما يبدو قابلاً للاستعمال: قد يجد محرك سيارة هنا أو حوضاً معدنياً هناك. في الليالي المثمرة، يقول أحمد إنه يستطيع جمع 300 كيلوغرام ويكسب مقابلها حوالى 4.50. ثم يأوي إلى سريره بملابسه القذرة مع شروق الشمس في كل صباح، أي في الوقت الذي تنزل فيه شقيقته ألين إلى القبو في «مرسين» كي تبدأ عملها.

مرّت أشهر منذ أن هرب أحمد من سورية وبدأ يقوم الآن بعمله الخامس. يقول إن الكدمات على كتفَيه تنجم عن نقل حمولات ثقيلة بينما تشتق الندوب على معدته من أطراف المعادن المسننة التي يجمعها.

حين وصل إلى هذا المكان للمرة الأولى، نام إلى جانب ستة رجال وعشرة صبيان في خيمة حيث كانت أكياس النوم والبطانيات متراصة. عملوا معاً في تلحيم الصلب في أحد المتاجر وصهر المعادن في مصنع إسمنت أو حملوا الحجارة إلى مواقع البناء حيث شُيّدت اليوم مبانٍ من خمسة طوابق. ادّخر الراشدون كل ليرة ممكنة لإيجاد مكان لهم في القوارب التي يمكن أن تصطحبهم إلى أوروبا. قيل للأولاد إن الحياة في ألمانيا ستكون أفضل بالنسبة إلى الجميع. لكن في الربيع الماضي، اكتشف رجال الشرطة مكان خيمتهم على طرف المدينة وهدموها وضربوهم كلهم وأرغموا الرجال على ركوب الشاحنات كالقطيع. وحدهم الفتيان الأصغر سناً سُمِح لهم بالبقاء. لم يصطحبوهم إلى أي مكان فبقوا في الشوارع.

لعبة روبوت

خلال النهار في «غازي عنتاب»، يتوجّه أحمد إلى المكان الذي ينام فيه الآن، وحده مع أولاد آخرين: المكان عبارة عن معادن مموّجة وسقيفة خشبية مفروشة ببطانيات. يعيش حوالى مليونَي شخص هناك الآن وقد هرب واحد من كل ستة أشخاص تقريباً من الحرب إلى «غازي عنتاب».

جاء تسعة صبيان من حمص وحلب، من مدن وقرى تعرّضت للقصف، وقد أصبحوا جميعاً وحيدين في بلدٍ لم يعرفوا شيئاً عنه من قبل.

لكل واحد منهم مهمّته وقصته. يبلغ أكبرهم، محمود، 15 عاماً وقد أصبح يتيماً قبل الحرب بفترة طويلة. ويبلغ أصغرهم، محمد، 11 عاماً وقد خسر والديه أثناء محاولة الهرب. لم يكونوا على معرفة سابقة ببعضهم وقد تقابلوا للمرة الأولى في مواقع البناء من دون وجود حراس للاعتناء بهم. لقد بنوا عائلتهم الخاصة التي تتألف من الأولاد حصراً. اليوم ينهضون معاً ويبحثون عن الخردة ويصلّون معاً ويتقاسمون الخبز.

لم يبق لأحمد من دياره إلا حقيبة ظهر فيها قميص قطني كُتبت عليه عبارة «أحب سورية» وسروال وجوارب وكيس شوكولا ولعبة روبوت صغيرة وهاتف خليوي مخدوش. حين يعجز أحياناً عن النوم، يُخرِج هاتفه وينظر إلى صور قديمة لوالديه وحلب وألين.

يتصفح أحمد على جهازه صوراً من مدرسته القديمة. يظهر فيها فتيان وضعوا الجلّ على شعورهم وفتيات يلبسن حجابات ملونة ويتشابكن الأيدي. لا يعرف أحمد بمكان وجود أيٍّ من أصدقائه اليوم أو بما يفعلونه.

بين الأخيار والأشرار

يقول أحمد إنه ما عاد يخشى الموت. سبق وشاهد الكثيرين يموتون. كان قد أصبح في الصف الثاني وتعلّم القراءة للتو حين شاهد رجلاً يُقطَع رأسه على مسافة قريبة من مدرسته. راح يتصفح هاتفه الخليوي إلى أن وجد فيديو ذا جودة رديئة. يعرض المقطع الذي سُجّل منذ سنتين رجلاً معصوب العينين يركع في بركة من الدم الداكن. بالقرب منه يقف رجل آخر برداء أسود ويحيط به متفرّجون. حمل الرجل الواقف سيفاً كبيراً ووضعه على عنق الرجل الراكع. راح يصرخ «الله أكبر» ثم قطع رأس الرجل الثاني.

صوّر أحمد الفيديو بنفسه في ساحة سوق حلب. غضب منه والده وصرخ في وجهه كي يمحوه لكنه تجاهله. يعرضه اليوم أمام الآخرين ويشاهده الفتيان بذهول تام. عقد محمود، الأكبر بينهم، حاجبيه ونظر إلى السماء ليلاً وقال: «تبدأ الحروب بسبب وجود الأشرار». فسأل محمد الأصغر عن طريقة التعرّف عليهم وكيفية التمييز بين الأخيار والأشرار.

يمضي أحمد معظم وقته في تصفّح هاتفه بعد العمل ويكتب لعمّه الذي هرب من حلب منذ بضعة أشهر لكنه لم ينجح في عبور الحدود للخروج من سورية. يوبّخه عمّه دوماً ويدعوه للبحث عن شقيقته. لكن يقول أحمد إنه لا يريد الرحيل مجدداً.

في مرحلة معينة، نشأ أحمد وألين مثل أي شقيقين عاديين، فتقاسما غرفة النوم نفسها إلى أن بلغ أحمد التاسعة. كانت الحيوانات القماشية منتشرة على الأسرّة والصور التي رسماها معلّقة على الجدران. لكن تفصل بينهما الآن مئات الكيلومترات في بلد غريب.

تنحصر صلة الوصل بينهما بالرسائل النصية التي يتبادلانها من هاتفَيهما كل مساء تقريباً. تكتب ألين عن عدد الأثواب التي تخيطها كل يوم وتذكر أنها تشعر بالجوع بعد العمل لكنها لا تملك المال لأنها تحصل مقابل عملها على مكان للنوم في هذه الغرفة الصغيرة لا أكثر. حين سأل أحمد شقيقته عن أكثر ما تشتاق إليه، أجابت: المدرسة. وحين سألت ألين شقيقها عن أكثر ما يشتاق إليه، قال إنه يعجز عن الإجابة.

منذ أسابيع، حين سافرت ميركل إلى موقع اللاجئين في «غازي عنتاب»، كتبت ألين لشقيقها: «تقول الفتيات هنا إن ملكة أوروبا وصلت إلى مكان وجودك. ستأتي لاصطحابك». لكن لم يفهم أحمد كلامها. لم يعرف من كانت ميركل ولم يسمع باسمها يوماً. حتى أنه لا يعرف موقع ألمانيا لكنه يعلم بكل بساطة أن أوروبا آمنة وأن الأولاد ليسوا مضطرين للعمل هناك.

لا تزال طفلة!

منذ فترة غير طويلة، تقول ألين إنها سمعت ناصر ورجالاً آخرين يتحدثون عن قنبلة انفجرت في «غازي عنتاب» حيث يعيش أحمد. وصلت سيارة محمّلة بالمتفجرات إلى مركز الشرطة. كان السائق شاباً سورياً صغير السن.

كتب أحمد لشقيقته كي يُطَمْئنها لكن لم يكن كلامه كافياً بالنسبة إليها. فقررت أن تذهب كي تجلب شقيقها وتعتني به بنفسها. أخذت كل المال الذي تملكه وركبت حافلة متجهة إلى «غازي عنتاب».

دامت الرحلة 5 ساعات. شاهدت ألين حقول القطن في «أضنة» حيث كانت تعمل سابقاً. شاهدت أيضاً مقلع حجارة بالقرب من «غازي عنتاب» حيث يعمل الأولاد الآن أيضاً. حين وصلت الحافلة إلى وجهتها، اتصلت ألين بشقيقها لكن لم يُجِب عليها أحمد. جلست في محطة الحافلات واتصلت برقمه عشرين مرة لكنه لم يُجِبها. كررت ألين المحاولة لساعات إلى أن هبط الليل. ثم ركبت في آخر حافلة وعادت إلى «مرسين».

خلال الرحلة، صلّت من كل قلبها لشقيقها وتمنّت أن تتمكن من رؤيته مجدداً. فكرت بأغنية عن ولدَين كانت قد تعلّمتها في المدرسة، في حياة أخرى. تمّ إنقاذ الولدين في الأغنية، وحين انتهت الحرب، تمكّنا من العودة إلى ديارهما. بدأت ألين تفكر

واقتنعت بأن الله قد ينقذ الولدين، لكن لا يمكن إنقاذ المئات على الأرجح ولا مئات الآلاف طبعاً. بدأت تفكر بما قد يحصل لها ولأحمد إذا لم يحالفهما الحظ يوماً وإذا لم يكن مصيرهما مشابهاً للولدين في الأغنية بل كان مختلفاً ولم يصلا إلى نهاية سعيدة.

ثم وصلتها رسالة من أحمد. كتب لها: «مرحبا يا أختي. كنا نجمع الخردة ليلاً نهاراً. بعد فترة قصيرة، سأجمع ما يكفي من المال لك ولي».

ذهبت ألين إلى عملها صباحاً بعد عودتها من «غازي عنتاب»، وسط الظلام الذي يسبق بزوغ الفجر، كما تفعل كل يوم. نزلت إلى القبو الرطب وكان رب عملها ناصر هناك. مشت بصمت نحو آلتها ووضعت قدمها اليسرى على الدواسة ويدها اليمنى على آلتها. ثم بدأت الدموع تنهمر على خدَّيها. شعرت بالخجل وغطّت وجهها بيديها لكنها لم تستطع التوقف عن البكاء. لم تكن تبكي بسبب مقتل والدَيها بل لأن ناصر، الرجل الراشد، وبّخها لأنها وصلت متأخرة. لقد شعرت للحظة واحدة بأنها لا تزال طفلة!

نهاية سعيدة

الألماني الوحيد الذي يعرفه أحمد هو آريين روبين. من المعروف أن نجم كرة القدم الأصلع ألماني طبعاً لكن يظن أحمد أن البشرة الفاتحة مرادفة للهوية الألمانية. في حلب، يقول إنه كان يشاهد مباريات نادي «بايرن ميونيخ» على التلفزيون أحياناً في أحد المقاهي في شارع منزله. منذ ذلك الحين، يظن أن ألمانيا «بلد جيد».

لا يعرف أحمد وألين شيئاً عن حصص اللاجئين أو عن تركيا أو أردوغان أو الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. كل ما يعرفانه هو أنهما لا يستطيعان العودة إلى سورية لأن الوضع فيها خطير جداً ولا يمكن أن يتابعا مسارهما إلى أي مكان لأن البلدان الأخرى لا ترحّب بهما.

في مخيّلة ألين، تبدو أوروبا جزيرة صغيرة يحيط بها البحر وتقع في «مكانٍ ما شمالاً». وفي أحلامها، لا تبدو ميركل امرأة متقدمة في السن ترتدي بذلة رسمية، بل شابة برداء أبيض وبشرة ناعمة وشعر ذهبي طويل. لم يسبق أن شاهدت أي صورة للمستشارة الألمانية لكن أخبرتها بعض الفتيات اللواتي يعملن معها في الخياطة بأن جميع الألمان «أغنياء وشكلهم جميل».

كانت ألين تجلس في مصنع «مرسين» وتخيط تماسيح على قمصان «بولو» بيضاء. اعتادت على خياطة شعارات ماركات «لاكوست» و»أديداس» و«بوما» و«نايكي» سريعاً على السراويل الرياضية والقمصان القطنية: إنها منتجات مقلّدة تأتي من «مرسين» إلى اسطنبول وتُنقَل من هناك إلى بلغاريا ثم ألمانيا. هذا ما يقوله ناصر على الأقل: يحمل هذا الرجل أسناناً شائبة ويرتدي قميصاً مبللاً بالعرق. يبلغ 34 عاماً ويأتي من سورية، مثل الأولاد الذين يعملون لديه. جاء إلى هذا المكان منذ أربع سنوات من حلب حيث كان يعمل كخيّاط. بعد رحيله، باع سيارته واشترى حوالى 20 آلة خياطة من نوع «جوكي» وأسّس مصنعه في حيّ لم تقم فيه الشرطة بدورية منذ فترة طويلة.

في البداية، عمل معظم السكان المحليين على آلاته وكان معظمهم من الراشدين. ثم زادت أعداد السوريين الوافدين، منهم أولاد «بنصف السعر». نفخ ناصر سيجارته وقال إنه مضطر للاعتناء بأولاده الأربعة ولا يملك خياراً آخر.

خياطة التماسيح

في الأسفل، بالقرب من طاولات الخياطة، يضع جهازاً للأقراص المدمجة ويُشغّل موسيقى عربية طوال 14 ساعة في اليوم. تنشد امرأة طبقتها عالية أغاني عن الأمل والسعادة. يقول ناصر إن الموسيقى تشجّع الأولاد على متابعة العمل «وتبقيهم في الإيقاع الصحيح». يمرّ ناصر بين صفوف الطاولات ويشبك يديه وراءه وكأنه معلّم يتنقل في الصف. لا يُسمَح للأولاد بالتحدث مع بعضهم. يعتبر ناصر أن الكلام يؤخر الإنتاج ويكلّف المال. لديهم استراحة واحدة مدتها 40 دقيقة كل يوم ويتناولون خلالها مشروبات غازية دافئة ويأكلون حساء العدس ويرتاحون في حفرة من الإسمنت وراء ستارة قديمة بالقرب من أرضية المصنع.

جلست ألين على الأرض بين أكوام الأقمشة الحمراء والسوداء. لا يزال اليوم في منتصفه لكنها تشعر بالإرهاق وبالكاد تستطيع الحفاظ على وضعية مستقيمة. حاولت أن تفكر بطريقة إيجابية وقالت إنها تحب خياطة أشكال التماسيح الصغيرة أكثر من أي شيء آخر. تحب التماسيح لأنها قوية. لو استطاعت، كانت لتسبح نحو أوروبا كما فعلت نساء وفتيات أخريات بعدما عجزن عن إيجاد مأوى وعمل هنا في «مرسين». دبّرن بطاقات الحافلة واتجهن إلى «بودروم» حيث ركبن في زورق مطاطي. لكن لم تسمع ألين أي خبر عنهن في المرحلة اللاحقة.

تعلم ألين أن بعض الناس يغرقون في المتوسط. لكنها تعرف أيضاً أن عدداً كبيراً يقطع الحدود. تقول ألين إنها تغار من الأولاد الذين نجحوا في العبور لأنهم ليسوا مضطرين للعمل ويستطيعون الذهاب إلى المدرسة. لطالما حلمت بأن تصبح طبيبة لكنها تخشى الآن أن تمضي حياتها كلها في ذلك القبو. لم تذهب إلى المدرسة منذ سنوات وتقول إن شقيقها أحمد «لا يعرف مجموع 12x12».

تمتلئ شوارع «غازي عنتاب» و«مرسين» اليوم بأولاد مثلهم. يمرون كل يوم بالقرب من لافتات باللغة العربية على أطراف المباني إلى جانب إعلانات «كوكا كولا» وصور أردوغان. نشرت «الدولة الإسلامية» تلك اللافتات وتَعِد فيها بتقديم مصروف جيب وطعام و«عائلة ضخمة» للاعتناء بالأولاد.

لا تعرف ألين حقيقة «الدولة الإسلامية» لكنها شاهدت صور المقاتلين المقنّعين الذين يقطعون رؤوس الناس أو يحرقونهم أحياء. في طريق العودة من المصنع إلى مكان نومها، تشاهد أحياناً أولاداً آخرين يرتدون ملابس معيّنة لإعادة تمثيل عمليات الإعدام.

أحدب وجائع

لا يمكن أن يتقابلا أو يتحدثا لكن تتصوّر ألين أن أحمد الأقصر منها ببضع سنتيمترات يتسلق جبال القمامة والأنقاض: يرتدي هذا الصبي الذي يبلغ 12 سنة ملابس ملطّخة بالزيت ويعمل بذراعيه النحيلتين ويديه الصغيرتين. تتخيّل ألين هاتين اليدين وهما تنقلان حمولات ثقيلة مثل عجلات السيارات وقطع المحركات وتتصور كيف يجمع شقيقها أحمد قطعة تلو الأخرى ويكدّسها في عربة وراءه ويجرّها، فيتقوّس ظهره ويشعر بالجوع فيما يقطع كيلومترات طويلة في المدينة إلى أن يشعر بألم في عظامه.

حين تغادر ألين القبو بعد 14 ساعة من الخياطة، تتوقف عن الغناء وتبدأ بالصلاة.

بدأت الحرب في يوم صيفي منذ سنتين. كان أحمد وألين، ابنا صاحب مصبغة في حلب، يبلغان 10 سنوات و11 سنة على التوالي حينها. كان أحمد صبياً له أذنان كبيرتان يحب أكل السوس ويفضّل ركوب الدراجة الهوائية ولعب كرة القدم على الصلاة. أما ألين، فكانت تحب الفروض المنزلية وتحصد أفضل العلامات في صفها وقد علّمتها والدتها الخبّازة الطبخ. في ذلك اليوم، كانا يجلسان على العشاء بكل هدوء. حضّرت والدتهما أديبة الكسكس مع التمر. كان والدهما محمد يخبرهما عن عمله حين ضرب انفجار مفاجئ المنزل وأوقع الأربعة عن كراسيهم. مزّقت القنبلة ثلاثة جدران وحوّلت غرفة المعيشة إلى كومة ركام. راح الطفلان يصرخان وطلب والدهما المساعدة. كانت أمّهما الشخص الوحيد الذي التزم الصمت فقد دُفنت تحت الحجارة. يقول أحمد: «كانت تتمدد هناك بلا حركة وتوقّفت عن التنفس». بعد زوال الدخان والغبار أخيراً، شاهدوا الدم يتدفق من جبينها. وفق كلمات ألين، كان الدم أشبه «بماء حمراء في نهر».

لم يبق لأحمد من دياره إلا حقيبة ظهر فيها قميص كُتبت عليه عبارة «أحب سورية»

ألين تشعر بالغيرة من الأولاد الذين نجحوا في عبور البحر المتوسط لأنهم يستطيعون الذهاب إلى المدرسة
back to top