المرأة... والحركة الصوفية (1-2)

نشر في 21-07-2016
آخر تحديث 21-07-2016 | 00:00
 خليل علي حيدر يُعد التصوف أحد أعظم التيارات الروحية الجماعية في تاريخ الإسلام عبر القرون، وقد انضمت أعداد هائلة من المسلمين إلى الفرق الصوفية التي بلغت المئات في مختلف الأقطار الإسلامية وبخاصة بعد اكتساح المغول للعالم الإسلامي ومناطق إيران والعراق والشام، وزوال السيادة السياسية للخلافة، إذ تحول التصوف إلى إطار منظم للنشاط الاجتماعي والروحي، من المغرب وشمال إفريقيا إلى المجتمعات الإسلامية في آسيا، كما أدى دورا عظيم الأهمية في نشر الإسلام في أواسط آسيا والهند وإفريقيا فيما بعد.

حركة ذكورية

بقي التصوف في الغالب الأعم حركة رجالية ذكورية، وقد يتساءل الدارس لماذا عرف الغرب والعالم المسيحي نشاط الراهبات المسيحيات وخدماتهن في السلم والحرب، ولم تظهر روابط مماثلة للراهبات في المجتمعات الإسلامية رغم أن استجابة النساء للعمل الجماعي الديني قد لا يقلّ عن الرجال.

لاحظ الأكاديمي الإنكليزي "أنتوني بلاك" عدم وجود أي جماعات صوفية للنساء في المجتمعات الإسلامية، وقد نشرت سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت كتابه "الغرب والإسلام"، بترجمة د. فؤاد عبدالمطلب عام 2012. عمل د. بلاك Antony Black على دارسة الفكر والنظريات السياسية الأوروبية الباكرة، خصوصاً في القرون الوسطى، وعكف على دراسة الفكر السياسي الإسلامي، وعلى عقد المقارنات بين تطور الفكر السياسي في الغرب وفي الأصقاع الإسلامية، وكتابه المشار إليه الغرب والإسلام The west and islam من منشورات جامعة أكسفورد عام 2010.

يقول عن النساء في العالم المسيحي الأوروبي وما كنّ يؤدين من خدمات اجتماعية هناك: "ظهرت النساء بوضوح في الإنجيل وفي التكريس المسيحي، كما ذُكرن بشكل منفصل ضمن الترحيبات والنصائح الأخلاقية في رسائل العهد الجديد وغيرها من الوثائق المسيحية المبكرة، وكان للنساء في المجتمعات المسيحية المبكرة أدوار معينة، كان ثمة واجب خاص للاعتناء بالأرامل، كان هذا كله غير رسمي، ولم يكن هناك أي إناث في مواقع السلطة أكثر مما وجد في المجتمع الإسلامي، حيث استطاعت النساء أن يمارسن السلطة دائما على نحو غير رسمي في العائلة.

ولكن، بينما أُبقيت النساء في المجمع الإسلامي معزولات داخل المجالات المنزلية، ولم يضطلعن بأي دور مهما يكن في الحياة العامة- لم توجد أي جماعات صوفية للنساء- لم يكن يوجد في أوروبا "أي فصل صارم بين الجنسين، وبدا في التقليد الألماني أن النساء يمكن أن يقمن بدور عام وأن يحصلن على بعض السلطة السياسية"، وكنّ يرثن أملاك أزواجهن وفي أغلب الأحيان، يتولين حكما ملكيا وراثيا". (ص 118).

رابعة العدوية

صحيح أن السيدة "رابعة العدوية" كانت بمثابة أشهر شخصية نسائية في تاريخ التصوف العربي، ولكن هل كان في دنيا التصوف الإسلامي شخصيات نسائية أخرى؟ وهل خلا هذا الجانب من النشاط الديني، أي التصوف، من الشخصيات النسائية على ما لدى المرأة من اهتمام بالعبادة وتجاوب مع التعاليم الدينية؟ وهل عرفت بلداننا جمعيات أو جماعات نسوية، كالراهبات، تنشط في مجالات رعاية المرضى وخدمة المسنين والأنشطة الاجتماعية والتربوية والخيرية؟

في كتاب "الفرق الصوفية في الإسلام" للمستشرق البريطاني جون سبنسر ترمنغهامTrimingham (1987-1904) إشارة مفيدة بخصوص علاقة المرأة المسلمة بالتصوف، وهي عكس ملاحظة "أنتوني بلاك" التي توحي بضعف حضور المرأة في الوسط الصوفي، وإن كانت إشارة "بلاك" إلى عدم وجود "جماعات صوفية نسائية"، ويقول "ترمنغهام" عن المتصوفات في زمن رابعة العدوية:

"كان التصوف هو المجال الديني الوحيد، حيث يمكن للنساء أن يجدن مكانا لهن، وقد كانت توجد الكثيرات من النسوة الصوفيات، واللاتي كانت منهن رابعة العدوية وهي أشهرهن، وأثناء هذه الفترة وجدت إشارات إلى أماكن تعبُّد النساء، ويستعمل "الأربيلي" المصطلح "خانقاه" لأماكن تعبّد الرجال، و"الرباط" لتلك الخاصة بالنساء، وكانت توجد سبعة أماكن تعبّد للنساء في حلب وحدها، وكلها أُسّست بين 1150، 1250م، وكان في بغداد أيضا عدد منها والتي كان أشهرها رباط فاطمة الرازية (ت 1157م)، وفي القاهرة كان يوجد رباط البغدادية، الذي بنته ابنة الملك الظاهر بيبرس في 1285م من أجل الشيخة المسماة زينب أبي البركة والمعروفة ببنت البغدادية وأتباعها، الذي لا يزال موجودا في الدرب الأصفر". (ص44-45).

الرباط وخانقاه

ولأماكن تجمع المتصوفة أسماء مختلفة، فيقول "ترمنغهام": الرباط كان نوعا عربيا كمركز تدريب، وكانت "الخانقاه" النوع الفارسي من النزل والخالي من التدريب التي أُدخلت إلى مدن العالم العربي، أما "الزاوية" فهو مصطلح أطلق على المؤسسات الصغيرة، حيث كان يقطن الشيخ مع تلاميذه. بينما "الخلوة" خُصصت للرياضة الروحية لدرويش منفرد، وأحيانا تكون حجرة تقع حول مساحة المسجد، وقد كانت الصومعة الأكثر عزلة تسمى أحيانا الرابطة". (ص44).

وتعرضت المتصوفة الزاهدة "رابعة العدوية" للنقد الشديد من المتدينين بسبب ما نُسب إليها من "شطح"، أي التعبيرات والتصريحات التي تبدو غير مقبولة شرعاً بسبب تعارضها، فيما يرون أو فيما توحي الكلمات فعلا مع ثوابت الدين.

ويذهب د. عبدالرحمن بدوي، وله كتاب معروف في شطحات المتصوفة، أن ثمة مبالغة في الاتهامات الموجهة للسيدة رابعة العدوية، فيقول: "أما رابعة فالكلمات التي وردت إلينا عنها مما يندرج في باب الشطح لا تعدّ بعد من الشطح إلا في معناه، أما صورته- أعني التحدث عن الله بضمير المتكلم- فليس لدينا من نوعه شيء إنما أقوال ظاهرها مستشنع وباطنها مستقيم (...) وكلها تتعلق بالتوحيد والتجريد وزيادة المعنى الروحي أو وضعه مكان المعنى المادي فيما ورد به الشرع (...) ولهذا هي أدخل في باب التجديفات منها في باب الشطحيات، وهي عند خصومها من مكر الله الخفي". (عن: دراسة في التجربة الصوفية، نهاد خياطة، دمشق 1994، ص82).

ولرابعة رأي في الحج والبيت يقول عنه ابن تيمية إنه كذب عليها، غير أن "بدوي" يرد كلام ابن تيمية، لأن "ابن تيمية" رفض صدور الكلام عن "رابعة" لأسباب وردود عقلية، بمعنى استحالة نسبة الكلام إلى السيدة رابعة لكونها عابدة مؤمنة، والقول يدل على كفر، وطالب "بدوي" بردود فيها براهين تاريخية، ولكن د. بدوي بدوره لم يقدم دليلا على صحة نسبة القول إلى رابعة.

ويؤكد بعض المتصوفة رمزية الحج، إذ يرى الصوفي نفسه إن كان من "الحلوليين" المؤمنين بالاتحاد بالذات الإلهية، وقد انصهر في دلالات الحج ومقاصده والقوة الربانية، وينقل باحث معروف وهو "أبو العلا عفيفي" في كتابه "التصوف: الثورة الروحية في الإسلام"، عن أحد كبار المتصوفة أبي يزيد البسطامي، قوله "حججتُ مرة فرأيت البيت، وحججت ثانية فرأيت البيت وصاحبه، وحججت ثالثة فلم أر البيت ولا صاحبه"، فما تفسير كلامه؟

الحج رمز السفر الروحي

يعقب الدكتور "عفيفي" على هذا الكلام بقوله: "يفصّل (أبو يزيد) في هذا مراحل معراجه الروحي الذي انتهى فيه إلى مقام الفناء التام أو الوحدة التامة، فالحج هنا رمز السفر الروحي، وأول مراحله هو المرحلة الحسية التي رأى فيها "البيت" (العالم) وأدركه إدراكا حسياً، وفي الحج الثاني أدرك البيت وصاحب البيت: أي أدرك (الاثنينية) إدراكا عقليا وفرق بين الله والعالم، وفي الحج الثالث أدرك بقلبه وشعوره "الكل" الذي لا يميز فيه بين البيت وصاحب البيت. فمراتب هذا الحج ثلاث: إدراك حسي، فإدراك عقلي، فشهود قلبي، أو فردية فثنوية فوحدة مطلقة تنمحي فيها الكثرة العقلية والحسية، وهذه المرتبة الأخيرة هي مرتبة الفناء أو التوحيد الصوفي". (كتاب نهاد خياطة نفسه، ص85).

فالحج، يضيف د. العفيفي، "صورة خارجية من السفر الداخلي الذي ينطلق من الظاهر إلى الباطن، أو من المحيط إلى المركز، أو من الجزء إلى الكل، أو من بيت الله إلى الله"، فالحج يقول "نهاد خياطة"، مؤلف "دراسة في التجربة الصوفية": "صورة خارجية من السفر الداخلي الذي ينطلق من الظاهر إلى الباطن، إنه أشبه بالشرارة التي تضرم النار الكامنة في الأشياء القابلة للاحتراق، أو هو أشبه بالمحرض اليدوي الذي كانت تدار به محركات السيارات عندما كانت صناعتها في البدايات الأولى". (ص 85).

back to top