سدوم
اللوحة التي أقف أمامها ساعات طويلة في المرسم. اللوحة السديم التي تولد لحظة بلحظة، وتتشكّل خفقة بخفقة. اللوحة الألم المضغوطة بين دخان سيجارتي الشقراء وقهوتي المرّة السوداء التي تبرد سريعاً. اللوحة الحياة الموت الدهشة اجتثاث الذكرى الأليمة. أرق الزمان المتقيّح في المسامّ. أسمع ماما من داخل الصالة الفسيحة تناديني: كاميليا.. كاميليا.. بسرعة.. يجب أن تفطري قبل الذهاب إلى البعثة.ماما لا تريد أن أكبر، بجدائلها متدرّجة التمشيط، وخصلاتها متنوّعة الألوان؛ بسراويلها الإيطاليّة الراقية وأحذيتها ذات الكعوب العالية المستوردة في الغالب. ماما وهي تضع رجلاً فوق رجل على الفوتويّ الجلديّ الأنيق.
تتناول عصيرها على مهل وتتصفّح آخر الموديلات الفرنسيّة والإيطاليّة والأميركيّة. سيجارتها موضوعة دائماً في مصفاة سوداء طويلة، تعطيها نوعاً من الرونق والكبرياء وهي تدخّن. أدخل بملابسي الرياضيّة التي لا تفارقني عندما أكون في الفيلا. شعري متشابك وعيناي منفوختان من النوم. تنظر إليّ ماما وهي لا ترفع رأسها عن المجلّة: كاميليا.. لم تغيّري ثياب النوم بعد.. نو.. كامي.. ستتأخّرين عن البعثة.لا أجيب. أتناول قهوتي مع شطيرة من جبن ومربّى وأنا واقفة. تتأفّف ماما: نو.. كامي.. تعلّمي أن تأكلي بنظام وأناقة.. سيغضب بابي..بابا في العادة يصحو قبلنا في السادسة صباحاً. يذهب لممارسة الرياضة في الغابة المجاورة. هو من هواة المشي. يتمشّى يوميّاً ساعة بأكملها ويعود إلى الفيلا. يأخذ حمّامه الصباحي ويفطر قبلنا. اسمعه، وأنا خارجة من غرفتي، يقول لماما: باي شيري.. إذا لم أعد في الغداء لا تنتظروني..يرمي لها قبلة في الهواء، ويأخذ سيّارته المرسيدس السوداء، ويغيب.أتراجع قليلاً إلى الخلف. أضع السيجارة في المنفضة وأترك دخانها يملأ المرسم. أتأمّل الحياة التي بدأت تدبّ في اللوحة. وراء الألوان عالم بأكمله. الأسود ليس دائماً حزيناً وكئيباً. الأسود هو لغز النفس ذاتها. هو الماوراء الذي يمنح كلّ شخصيّة فرادتها وعبقها الخاصّ. دائماً في لوحاتي، هناك خلفيّة سوداء تحتضن الوجوه والأمكنة والتعبيرات. يوم تكلّمت على الأسود، قال لي سليم بنيس، طبيبي النفسي، بأن الاسود هو لون الرحم، دلالة الحنين إلى ما قبل الولادة، والالتحام بجسد الأم. وأنا ممدّدة على السرير في عيادته، لا أرى غير لوحة ناقصة تبحث عن التشكّل والخروج. لم أكن أنا، ولم تكن الألوان أطيافاً غامضة من رحم احتضنني، لكنّه كان مجبراً على القذف بي خارجة نحو عالم مجهول.أنهي فطوري سريعاً. أسوّي شعري وهندامي أمام المرآة، وأحرص دائماً أن أضع عطراً فرنسيا راقياً. أحبّ العطور الفرنسيّة. في كلّ مرّة، كنّا نذهب أنا وماما وبابا إلى باريس في إجازة، كنت أقف مفتونة أمام محلات بيع العطور. كنت أقول لطبيبي النفسي إنّ العطور لا تعني سوى إرادة الإنسان على تحديد موقعه المتلاشي للانتصار على الموت. لست أدري لماذا كانت تقترن في خياشيمي رائحة الموت بكلّ شيء عفن وكريه. كنت أنظر إلى الفرنسيّات بنوع من الإعجاب كيف ينفقن حياة بأكملها على عطور لا تدوم إلا زمن قصير. لم أكن أعرف أنّ عمر الإنسان نفسه لا يدوم إلاّ زمناً قصيراً.أضع المحفظة فوق كتفي، وأنزل الدرج نحو الصالة الفسيحة، حيث تجلس ماما التي تفضّل ألا تخرج إلى عملها إلاّ بعد أن تتصفّح مجلاّت الموضة بشكل دقيق. ترفع رأسها نحوي وتبتسم بشكل هادئ وجميل.ماما صبيّة جميلة وفاتنة ومثيرة. لا أحد يصدّق وهو يرانا، أنّها ماما وأنّني ابنتها. يعتقدون أنّنا شقيقتان. ربّما ذلك يرضي جمال ماما وغرورها، لكنّه يعني بالنسبة لي أنّني لن أظلّ صبيّة مثلها:He Kamelia.. pourquoi tu mets pas ton tablier? Tu pars á la Mission.. أخرج الوزرة من محفظتي.لا تخافي ماما.. هي معي.. سأرتديها قبل الدخول إلى البعثة..أوكي كامي.. بون شانس...وتعود إلى مجلاّتها.في حديقة الفيلا الواسعة، أحيي عمّي تومي البستاني المرح. أحبّ أن أناديه تومي عوض اسمه الحقيقي التهامي. يفرح كثيراً ويحتار هل يحضنني أم يلزم حدوده كمستخدم عندنا. كنت أحبّ ضحكته البسيطة. أتقدّم نحوه وهو يمسك بأنبوب الماء لسقي الحديقة. أضع فمي في الأنبوب وأشرب. كانت تلك الحركة تجعلني أفرح بنفسي كثيراً وأحبّ عطوري بشكل أكبر. عند البوابة، أجد السائق في انتظاري. عمّي روحي، كما أحبّ أن أدلّعه، عوض اسمه الحقيقي الرياحي. أجلس قربه فيحسّ بالإحراج. لا يا ابنتي. مكانك في الخلف. أنت ابنة السيّد. اشبك أصابعي في شعره وأضحك. سيغضب سيّدك أكثر لو أخّرت ابنته عن موعد دراستها. أسرع عمّي روحي. ونترك الفيلَّا وراءنا.كنت أدرس في البعثة الفرنسيّة. لم أكن أشعر أبداً بأيّ اغتراب أو صراع، وأنا أجد نفسي بين أبناء فرنسيين وأبناء مغاربة متفرنسين وأبناء مغاربة يهود. كانت اللغة الفرنسية وطناً ومنفى، كينونة للشمس والحريّة والذات. كان العذاب الأكبر عندما ننتقل من اللغة الفرنسيّة إلى اللغة العربيّة. لم نكن نحسّ بطراوة المفردات وماء الصيغ اللغويّة ودفق الكلمات. كنّا نحسّ بشرخ في الحنجرة. تتأوّه الحبال الصوتيّة لتنتج عواصف من غبار الرياح الشرقيّة. حتى في الفيلا، لم نكن نتحدّث غير الفرنسيّة. كان بابا يقول: العربيّة في دمك، مهما ابتعدت عنها، فهي لغة الأمّ. لكنّ الفرنسيّة هي مكّوك العالم الجديد. ولكي نمتطيه، لا بدّ من قتل الأمّ. بابا لم يكنّ متنكّراً للغة العربيّة مثل ماما، ولذلك كان يكلّمني بها كلّما أتيحت لنا الفرصة.في مدارس البعثة الفرنسيّة، تعلّمت اللغة والشعر والفلسفة والموسيقى والتشكيل والحريّة والحبّ والسجائر. كنّا ندخّن في الكافيتريا.لكن لماذا تبدين حزينة جداً، وأنت مارست كلّ هذه الأشياء؟ يقول سليم بنيس، طبيبي النفسي. أغمض عينيّ. أضيع في صمت تاريخيّ. أغوص في ظلام جسدي المرسوم كبلّور فضي. أسمعه يردّد: هنا لا مجال للخجل والشعور بالذنب. في هذه الغرفة تندفن الأسرار. لا شيء يتسرّب. أنا هنا لكي أعينك على اكتشاف أسباب أزماتك النفسيّة. قولي أيّ شيء يخطر ببالك بمعزل عن كلّ حسّ سليم أو قيمة أخلاقيّة.تأتيني صورته. كأس في يده، وسيكاره الكوبي في اليد الأخرى. جالس على الفوتويّ الأسود في الصالة الفسيحة بروب النوم الأرجواني. بابا في كامل فتوّته ووداعته ورشاقته. أحبّه عندما يكون في هذه الحالة الحليمة. تمنحه الخمرة هالة راقية. يتخلّى عن هموم أشغاله ويتفرّغ لنا، أنا وماما. لم أره يوماً بدون كتاب. ورثت عنه هذه العادة الجميلة. كان مهووساً بالأدب الروسي في العهد القيصري. لم يملّ أبداً من قراءة روايات دوستويفسكي بالتحديد. أوه، كاميليا، يوماً ما ستدركين لماذا أقرأ دوستويفسكي.. ياه.. ياه..!يشرب على مهل وينفث دخان سيكاره الكوبي في فضاء الصالة الفسيحة. معه قرأت «الجريمة والعقاب».. «الإخوة كرامازوف».. «مهانون ومذلّون».. «المقامر».. «الشياطين».. «مذكّرات من منزل الأموات». تأتيني صورته. واقفة أمامه بكامل ملابسي المدرسيّة. عيناي حائرتان ويدي على فمي. كنت صغيرة ومراهقة. رفع رأسه نحوي ونهض. احتضنني بحنان أبويّ رقيق. لم يكن فقط بابا. كان صديقي أيضاً. أحاطني بذراعه وقادني إلى مكتبته.ربع الفيلا يكاد بابا يكون خصّصه للكتب. تجوّلنا بين صفوف الكتب: كتب فرنسيّة.. إنجليزيّة، وبعض الكتب العربيّة القليلة. أمّهات الروائع في الأدب العالمي: الروسي.. الفرنسي.. الألماني.. الإنجليزي.. اللاتيني.. الآسيوي، خصوصاً الأدب الياباني والصيني. رأيته يبتسم والكأس لا تفارق يده: هذه ليست كتباً، بابا. هذه حيوات. حضارات. ذاكرات أبديّة. أرواح لا تموت.. كان يقول لي: ليس من حقنا أن نحرق أو نمزّق كتاباً بدعوى أنّه رديء ولا شرعيّة له في عالم الكتابة، وإلاّ ما جدوى كلّ هذه السنوات التي نقضيها ونحن نقرأ؟