الطاوية... فلسفة مضادة للضغط النفسي!

نشر في 25-10-2015
آخر تحديث 25-10-2015 | 00:01
في أوساط المدربين المحترفين، تُعتبر الطاوية أداة معاصرة لتحفيز الإبداع أو تهدئة التوتر. تجمع هذه المقاربة الروحية الصينية بين البراغماتية والتعاطف، لكن هل يمكن أن تكون فاعلة بالنسبة إلى الجميع؟ في ما يلي مبادئ أساسية ترتكز عليها الفلسفة الطاوية ويمكن أن ترافقنا وتساعدنا في حياتنا المهنية.
لا يجيد الإنسان فعل شيء إلا إذا خُلق لفعله! عند الدخول في عالم الفلسفة الطاوية، يجب البحث عن {مهمة سامية} خاصة، أي إيجاد رسالة الحياة لتوجيه الخيارات الشخصية في جميع مجالات الوجود. لمعرفة تلك المهمة، يمكن أن نستفيد من مختلف الهبات التي نحصل عليها منذ ولادتنا وتلك التي ينتجها العالم القائم قبل وجودنا، ويمكن الاتكال أيضاً على منافع عمل الطاقة أو الكي كونغ. لتجديد الحوافز الذاتية، تقضي أفضل طريقة يإيجاد السعادة واكتشاف معنى التصرفات والمبادرات. الخيارات الجيدة هي تلك التي يتردد صداها في داخلنا وتفرض نفسها علينا وكأنها خيارات حتمية.

لكن لا يسهل بلوغ هذا المستوى من الكفاءات {الطبيعية} أو {المكتسبة} ولا يسهل أصلاً اعتبار الخيارات الصائبة حتمية. في المقابل، لا شيء أفضل من إيجاد معنى للعمل على تحفيز الذات، شرط أن يتماشى ذلك المعنى مع قيمنا الشخصية. لذا يوصي الخبراء كل من يسعى إلى تجديد حوافزه بأخذ مبادرات تقدم له المعنى والسعادة، حتى لو كانت لا ترتبط مباشرةً بمجال كفاءته الفعلية، ويمكن الاستفادة من مشاركة تلك المبادرات مع الزملاء أو المسؤولين الأعلى رتبة. في عالم الأعمال، تكثر المواهب المكبوتة التي تحتاج إلى من يحررها.

عدم مجابهة {الحركة الطبيعية}

ترتكز أهم مبادئ الطاوية على الامتناع عن المجابهة. بالتالي، لا يجب أن نتصدى للضغط النفسي، بل يجب أن نعزز الظروف التي تضمن استرجاع الهدوء عبر تقنيات تفريغ واستجواب الذات. على المستوى الداخلي، يجب طرح السؤال التالي: كيف يمكن أن أفرّغ المشاعر التي تنتابني؟ وعلى المستوى الخارجي، ما هي الأسس التي يجب تنشيطها لتحريك الوضع؟ إذا كان الضغط النفسي نادراً أو ضعيفاً (موقف عابر)، يمكن تفريغه عبر تقنيات الكي كونغ أو التنفس. وإذا كان متكرراً ومتوسطاً (زميل مزعج)، يجب استهداف البيئة المحيطة. أما إذا كان قوياً ومتكرراً (رب عمل مستغلّ، ثقافة عمل لا تتماشى مع القيم الشخصية)، لا بد من السعي إلى إيجاد بيئة تناسب مهمة الحياة التي اخترناها (تغيير المنصب أو الشركة) بأبسط طريقة.

لكن يظن خبراء آخرون أن مجابهة {الحركة الطبيعية} لا تكون مقاربة سيئة دوماً. يمكن تخفيف مشاعر العجز والعزلة التي تغذي الضغط النفسي وتحريك الأحاسيس عبر مكافحة الظلم أو تحسين ظروف العمل. وإذا كنا نعجز عن تغيير بيئتنا، يمكن أن نستهدف ردود فعلنا وتصرفاتنا. يرتكز الضغط النفسي على الاختلاف بين ما نعيشه من جهة وتطلعاتنا أو رؤيتنا من جهة أخرى. يتعلق العامل الذي يزيد الضغط النفسي بالعاطفة التي تعزز هذا التنافر بين الحالتين. لذا يجب تسمية تلك العاطفة باسمها ثم تجاوزها من خلال التشكيك بمخططات التفكير التي تغذيها: على أي رغبات ومعتقدات ترتكز توقعاتي ورؤيتي؟ هل هي مشروعة أو واقعية؟ وإذا كانت كذلك، هل يمكن تحقيقها بطريقة مختلفة؟

تعزيز نقاط القوة لتحسين الكفاءات

من وجهة نظر الفلسفة الطاوية، يتحسن أداؤنا حين نختار العمل الذي خُلقنا من أجله. لتحقيق ذلك، يجب أن نحدد أولاً نقاط قوتنا كي نحولها إلى نقاط تميّز بدل السعي إلى تحويل نقاط الضعف إلى نقاط {متوسطة} لأن هذه العملية تحتاج إلى الوقت وتستهلك الكثير من الطاقة وتعطي في المقابل منافع ضئيلة. لذا تبدو العملية المعاكسة أكثر سهولة وهي تضمن استرجاع مشاعر السعادة وتضعنا في المكان الذي يناسبنا وتعزز وجودنا بنظر الآخرين.

يعتبر خبراء آخرون أن تحسين الكفاءات يتطلب تطوير نقاط القوة من خلال استهداف الحوافز والأداء. لكن يمكن أن تتحسن كفاءتنا أيضاً عبر تطوير مجموعة واسعة من القدرات السلوكية. إذا اكتفينا باستغلال نقاط قوتنا، سنحدّ من أنفسنا حتماً. لكن حين نخوض المغامرات خارج المجالات المألوفة والمريحة ونجرؤ على أخذ المجازفات، ستتحسن معرفتنا لنفسنا وسنتمكن من اكتساب أدوات جديدة. حتى أننا قد نتمكن من إيقاظ حوافز مغايرة أو إيجاد دعوة مختلفة في بعض الحالات.

ترسيخ الهدوء الداخلي

لتهدئة العلاقات مع الآخرين، من الأفضل أن نبدأ بتهدئة نفسنا عبر إبطاء مسار حياتنا واستعادة الهدوء. بهذه الطريقة، يمكن أن نعطي علاقاتنا طابعاً مبسّطاً وحقيقياً. تسمح هذه المقاربة بإقامة علاقة مشوقة وصادقة مع الأشخاص الآخرين الذين سيميلون بدورهم إلى تخفيف عدائيتهم. ومن خلال الهدوء الداخلي الذي يرسّخه عمل الطاقة في الجسم، يمكن تجنب ردود الفعل المفرطة والمتهورة عند وقوع الأزمات وابتكار حلول يستحيل تصورها خلال نوبات الاضطراب العاطفي: الضحك، إعادة صياغة العبارات مع التشديد على النقاط المشتركة، اقتراح خيارات بديلة أو تعليق الحوار واستئنافه لاحقاً...

لكن يظن بعض الخبراء أن بلوغ هذا النوع من الهدوء الداخلي والبساطة هدف بالغ الصعوبة لأننا مخلوقات متناقضة ومليئة بالصراعات الداخلية التي تبقى لاواعية في معظم الأحيان. لكن يمكن أن تكون هذه التركيبة المعقدة مصدر غنى: تمنحنا تناقضاتنا وصراعاتنا الطاقة أيضاً لتجاوز قدراتنا وتحقيق الأهداف. على صعيد آخر، يجب أن ندرك أن الغاية الفعلية من العمل ليست البحث عن السعادة أو الحكمة، بل ضمان الفاعلية. لا فرق إذا لم تكن علاقتنا مع زملاء العمل صادقة أو حماسية، فالأهم هو أن نتبادل الاحترام ونقدم أداءً فاعلاً. حين تسيطر علينا العواطف، نميل بسرعة إلى الوقوع في فخ التسرع أو الجمود. في هذه الحالة، يجب أن نقول رأينا بوضوح لكن من دون عدائية.

إيجاد الفرصة وسط الأزمة

الصراعات أشبه بالعواصف، ما يعني أنها جزء من الحياة ولكنها قابلة للتغير. قد لا نتمكن دوماً من تجنبها، لكن يمكن استخلاص الدروس منها. يمكن اعتبار الصراع {حقيقة قائمة وسط جو من الغضب}، لكن ما هي الحقائق القوية التي تستطيع دفعنا إلى التشكيك بمسارنا ثم إحراز التقدم؟ تكون  الأزمات مفيدة لأنها تذكّرنا بتداخل مختلف الأحداث، وتثبت لنا أن التناغم مضطرب في حياتنا وتدعونا إلى إيجاد توازن جديد وتحديد الفرص الأقرب إلى هدفنا واقتناصها.

لكن لضمان أن تكون الفرصة ناضجة ومثمرة، يجب أن تترافق مع انسحاب فوري من الموقف السلبي لتقييم الوضع بموضوعية. بهذه الطريقة، يمكن العودة إلى تلك التجربة لفهم طريقة التفاعل مع البيئة المحيطة. إنها فرصة مفيدة أيضاً للتعرف إلى الذات من منظور مختلف وللتشكيك بردود فعلنا والتحكم بعواطفنا. هي تطرح أسئلة محورية تنمّ عن مستوى من التعاطف: ما الذي فهمناه من الآخر؟ وما الذي يمكن فعله لفهمه بطريقة أفضل؟ هل ننقل له رسائل واضحة فعلاً؟ يجب أن نتذكر أيضاً أن الخروج من الأزمة ليس ممكناً من خلال استجواب الذات بكل بساطة. يمكن أن تساعدنا نظرة الآخرين وتجاربهم ونصائحهم في الابتعاد وتصوّر حلول مختلفة.

إثبات الذات وابتكار مشاريع جديدة

يجمع أتباع الفلسفة الطاوية بين سلاسة الحياة وقساوة الموت. لذا يأتي التغيير الذي يشكل جزءاً من الحياة لمساعدتنا على اكتشاف فرص جديدة وزيادة مستوى معرفتنا لنفسنا وللآخرين وللعالم عموماً. يمكن الاتكال على هذه القوة للنهوض من جديد وإثبات الذات وابتكار مشاريع جديدة والتعبير عن عالمنا ومخططاتنا وقدراتنا. ثمة نقطة مهمة أخرى: لعيش التغيير المستجد بالطريقة المناسبة، يجب أن نتوصل إلى التوحد مع نفسنا (عبر اتباع مسار شخصي) ومع الآخرين (عبر إقامة علاقة صادقة وحذرة) ومع البيئة المحيطة (عبر الاعتناء بها وتغذية الجوانب الجميلة فيها). لا يمكن أن يجعلنا التغيير نخسر: إما أن نحقق الفوز أو لا نحقق نجاحاً باهراً لكننا نكسب المعارف والخبرات طبعاً.

يوافق الخبراء على طريقة التفكير التي تعتبر التغيير فرصة إيجابية بدل أن يكون حدثاً عدائياً، حتى لو ترافق الوضع أحياناً مع اضطرابات وتقلبات يصعب التعامل معها. لا شيء أسوأ من الجمود: تكون العادات والقناعات الراسخة كفيلة بإخماد الحوافز وحس الإبداع. لذا يجب أن نعمل على تطوير المرونة النفسية في حياتنا اليومية مثلما نعمل على تحسين مرونتنا الجسدية. من خلال طرح الأسئلة على الذات والتشكيك بالخيارات السابقة وتغيير ردود الأفعال التلقائية، يمكن كسر التصرفات الروتينية والأفكار المألوفة واكتساب أدوات جديدة والاقتداء بالآخرين... هذا النوع من التدريب الذاتي يسمح بانفتاح الروح وتحسين الأداء والثقة بالنفس ولكنه يستطيع أيضاً تحضيرنا لمواجهة أكبر التغيرات من خلال الاعتياد على كل ما هو جديد وغير مريح، فضلاً عن استرجاع حب الابتكار واكتشاف القدرات الجديدة.

back to top