السعادة... هكذا تحققها!

نشر في 30-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 30-07-2015 | 00:01
No Image Caption
يبدو البحث عن السعادة هدف كل إنسان في الحياة. فمن يرفض هدفاً مماثلاً؟ رغم ذلك، لا يعرف كثر منا أين تقع المحطة القادرة على تزويدنا بالوقود الضروري لمتابعة هذا السعي. ولكن هل تستحق السعادة أن نتألم قليلاً في سبيل بلوغها؟ في هذه الحالة بالتحديد، الباحثون عن السعادة كثر. لكن فلسفتين تتصادمان: فثمة مَن يحاولون، من جهة، التوصل إلى طريقة تتيح لهم بلوغ الهدف الذي يضعونه أمام أعينهم، ومن يسلّمون، من جهة أخرى، نفسهم للأقدار إلى أن تأتي السعادة من تلقاء ذاتها لأنها تُعتبر، من هذا المنطلق، نتيجة منطقية.

ولكن مَن يُعتبر الأصح: المصممون أم الحالمون؟ بعد الاستماع إلى الفئتين، يتضح لنا أن السعادة صعبة المنال، وأننا كلنا نجدّ في إثرها من دون جدوى. وربما يعود ذلك إلى أن السعادة تختلف باختلاف الأشخاص. رغم ذلك، تظل الحياة التي يحلم بها البشر تقليدية: الحب، والعائلة، والأولاد، ووفرة مالية إن أمكن. ومع أن الجانب المالي يُعتبر مهماً، إلا أنه لا يُعدّ ضرورة وأساساً لبلوغ السعادة.

صحيح أن التفاؤل يُعتبر رفيق الشباب والصبا، إلا أن السعادة تزداد أهمية ما إن تبدأ المشاكل والهموم... أو حتى عندما نصطدم بحدث أليم بعيد مثل كارثة التسونامي في اليابان التي جعلت كثيرين يدركون، فجأة، أن العيش بسعادة قد يتبدد في ليلة وضحاها من دون أن نملك قدرة على تغيير مسار الأمور.

عند التأمل في تركيبة كلمة سعادة في بعض اللغات، نلاحظ أن معناها يبرر كلتا الفلسفتين. على سبيل المثال، تأتي كلمة سعادة بالفرنسية من اللاتينية «أوغور» وتعني تكهناً إيجابياً. وكلمة «أوغور» تأتي بحد ذاتها من الفعل «أوغوري» أي «ينمي». وهكذا تعني السعادة تكهناً إيجابياً بأن الشخص المعني أو المشروع الذي يسعى إليه سيكبر. كذلك يأتي مرادف كلمة سعادة بالفرنسية Félicité من أصل هندي-أوروبي يعني {إرضاع}، كذلك ارتبط أصلها اللاتيني بفكرة الخصوبة والنمو.

وهكذا نرى في أصل هذه الكلمة مفهوم الحظ والتكهن السعيد، الذي يبرر انتظار مَن يتوقعون أن تحمل إليهم الحياة السعادة. كذلك تنطوي على مفهوم النمو والبناء الذي يبرر اختيار مَن يعتبرون أن السعادة نتيجة الإرادة وبعض الجهود التي يبذلونها.

السعادة والمتعة

يقول جول رينار: «السعادة هي في البحث عنها». وترتبط هذه العبارة بالمتعة، متعة الانتظار لا اللذة الجنسية. فيعزز الانتظار وجزء من الاستياء المؤقت المتعة. لكن السعادة تختلف عن المتعة. ترتبط المتعة مباشرة بالجنس، عامل يُعتبر في الوقت عينه آنياً وملموساً. أما السعادة، مع أنها تستند إلى عوامل ملموسة، فتبقى مفهوماً مجرداً بالكامل وشخصياً. فإن كانت السعادة ترتبط، بالنسبة إلى البعض، بالمتعة الجنسية، إلا أن هذه المتعة تختلف كل الاختلاف عن السعادة في إطارها المستمر. ومن الممكن اعتبار العلاقات الجنسية مجرد عامل واحد في هذه التركيبة المعقدة التي تكوّن السعادة. ويميز الفيلسوف سبينوزا، بوضوح، بين المتعة والسعادة لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تزدهر في عالم عاطفي يشكل غالباً نقيضاً للألم. ترتبط المتعة بمفهم فانٍ، في حين أن السعي وراء السعادة دائم.

دليل، أم إرادة، أم عاقبة؟

لا يجمع الفلاسفة حول هذه المسألة، إلا أن جدلهم يشبه الحياة المحيطة بنا:

سعي إيجابي ومتفائل: يدافع البعض عن وجهة النظر المتفائلة. ولا عجب أن نجد في هذه الفئة الفيلسوف إبيقور، الذي يدافع عن وجهة النظر التي تربط السعادة بسد الحاجات البدائية، مثل الصحة، فضلاً عن الأمان. كذلك تشكل السعادة إلى حد ما مكافأة التحلي بموقف حكيم في الحياة. على نحو مماثل، يربط بلايز باسكال البحث عن السعادة بالإيمان، في حين أن سبينوزا درس هذا الوجه من الحياة مطولاً وربطه بالمنطق.

بحث لا جدوى منه: لكن فلاسفة آخرين أٌقل تفاؤلاً، ويعتبرون البحث عن السعادة لا طائل فيه نظراً إلى واقع عالمنا هذا. وينتقد كانط خصوصاً هذا المفهوم، ويثير بادئ الأمر مسألة العجز عن تعريف مفهوم السعادة، فيقول: «هذا المفهوم غير محدد البتة. فرغم رغبة كل إنسان في بلوغ السعادة، لا يستطيع أحد أن يعبر بوضوح ودقة عن ماهيتها».

ماهية السعادة اليوم: يحفز مفهوم السعادة الفلاسفة المعاصرين أيضاً، علماً أن معظمهم يشددون على الجمال، الأخلاق، الحكمة... علماً أن هذه المفاهيم تجذب الجميع، لا الفلاسفة فحسب. رغم ذلك، تظل وجهاتهم مختلفة. فالسعادة بالنسبة إلى البعض ميل شبه طبيعي في الإنسان، ما يجعل السعي وراءها يندرج ضمن الإطار الشرعي والطبيعي، في حين أن البعض الآخر يعتبرون السعادة حنيناً إلى الجنة المفقودة، ما يجعل البحث عنها عبثاً.

ميل طبيعي أم عملية بناء؟

لا تشكل السعادة حالة دائمة. فبالنسبة إلى غالبيتنا، تتألف السعادة من لحظات ندرك فيها أننا محظوظون. وعندما تصبح هذه اللحظات منتظمة وكثيرة، نعتبر أننا بلغنا «السعادة» أخيراً. وقد حاول الفلاسفة تلخيص شروط السعادة بعدد محدد من النقاط، منها:

الشرط الأول سد حاجات الشخص الأساسية، مثل الغذاء. فمن الممكن للجوع أن يستحوذ على الإنسان إلى درجة تنسيه كل حاجاته غير الأساسية.

لكن تأمين الحاجات الأساسية ليس كافياً بالتأكيد. وهنا يأتي دور الحب الذي نعرب عنه للآخرين والحب الذي نتلقاه منهم. فهذا الحب يبدل كل الموازين، علماً أن السعادة لا تعرف الطبقية.

بالنسبة إلى البعض، تعتمد السعادة على ازدهارهم فكرياً وثقافياً. فالتعلم والتقدم يعززان احترام الذات ويمنحان الإنسان نوعاً من الاكتفاء الذاتي الإيجابي.

نظرة علمية

في ثمانينيات القرن الماضي، أجرى باحثون دراسة شملت مشاركين من  أصول جيوغرافية مختلفة يدعون أنهم سعداء. وقد سلطت النتائج الضوء على بعض النقاط المهمة:

قدرة على التكيف تعتبر التبدلات في الحياة فرصاً للتقدم لا عقبات.

عيش اللحظة من دون فقدان القدرة على النظر إلى المستقبل والتخطيط له.

معرفة الإنسان قيمه الخاصة والتسامح تجاه الآخرين.

القدرة على العمل الذي يسمح للإنسان بتعميق معرفته لذاته، ما يعزز، بدوره، الرغبة في العمل، وهكذا دواليك.

عدم التمسك بالرغبة في السيطرة على التفاصيل، وتعلم ترك الأمور تأخذ مجراها عندما تخرج الأوضاع عن السيطرة.

الوجه الوراثي

تناقض هذه الفرضية كل ما سبق لأنها تمنح البعض أفضلية على غيرهم. ولكن ما من جينة محددة أو حتى عدد من الجينات تحدد موقفنا تجاه الحياة منذ الولادة. منذ عقد من الزمن يتحدث العلماء عن «استعداد جيني»، لا عن جينة محددة. صحيح أن علماء النفس يقرون، اليوم، بالتأثير الجيني في القدرة على نيل السعادة، لكنهم يدركون، أيضاً، أننا نتمتع جميعنا بالقدرة على تعزيز ميولنا الجينية هذه أو كبحها.

إذاً، تعتمد وصفة السعادة على الحكم السديد. ولا شك في أننا جميعنا نتمتع بالقدرة على بلوغ السعادة. ولكن يعود إلينا نحن إتقان استخدام قدرتنا هذه.

ما هي السعادة؟

يجيب طبيب نفسي: «السعادة خليط من عوامل عدة. ندرك خلال الدراسات أن السعادة تعتمد في نصفها علينا وفي نصفها الآخر على خصائصنا الوراثية وماضينا.  

ثمة استعدادات مسبقة وطباع تجعل الإنسان أكثر ميلاً إلى الاستمتاع باللحظات الفرحة، مقارنة بالآخرين الذين يكونون أكثر حزناً وكآبة. إذاً، سواء كانت السعادة غريزية أو تكتسب باكراً في الحياة، نصل إلى مرحلة البلوغ وقد كونّا آليات سعادة محددة. ينقل إلينا أهلنا نموذجاً محدداً في كلتا الحالتين. فلن نتمكن من الاستمتاع بلحظات السعادة اليومية الصغيرة إلا إذا سبق أن رأينا آخرين يستمتعون بها. ولكن حتى مع إرثنا الجيني والثقافي، يبقى أمامنا هامش مناورة. على سبيل المثال، يمكننا أن نبدد سعادتنا بيدنا. فقد نهدر إرثاً مالياً كبيراً حظينا به في بداية حياتنا، والعكس صحيح. فقد تكون بداية حياة إنسان ما متواضعة، إلا أنه ينمي قدراته على التمتع بالسعادة.

«العقبة الكبرى أمام السعادة انتظار سعادة كبرى»

 برنار فونتونيل

«المتعة ما هي إلا سعادة يتمتع بها جزء من الجسم. أما السعادة الحقيقية، السعادة الوحيدة، كل السعادة، فتكمن في خير كل النفس».

جوزيف جوبير

back to top