لا تستطيع ميركل خسارة بريطانيا

نشر في 22-12-2015
آخر تحديث 22-12-2015 | 00:00
قبل ستين سنة من عهد أنجيلا ميركل لجأ كونراد أديناور إلى لغة أكثر صراحة في تعبيره عن رغبته في مشاركة بريطانيا في الهندسة الأوروبية، ففي عام 1953 كثرت مناقشة مسألة "لجنة الدفاع الأوروبية" المخطط لها، وقد علّق المستشار الألماني آمالاً كبيرة على مشاركة بريطانيا العظمى، فهل ألمانيا اليوم ملتزمة بإبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي؟
 ذي تيليغراف "بئر الماضي عميقة"، كانت هذه الجملة الافتتاحية في إعادة سرد توماس مان الشهيرة لقصة يوسف وإخوته من التوراة، ويجب أن نتبع هذا المبدأ عينه، غائصين في بئر التاريخ، عند مناقشة السؤال البالغ الأهمية: هل ألمانيا ملتزمة بإبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي؟

يُعتبر الشعور بقرب "إخواننا" البريطانيين متأصلاً في الفكر الألماني، شأنه في ذلك شأن المساهمة البريطانية في التاريخ الأوروبي، مما يجعل هذه الأمة الجزيرة جزءاً لا يتجزأ من أوروبا، فمن دون بريطانيا العظمى، ما كان مستقبل أوروبا ليولد، ففي مطلع ديسمبر عام 1946، أسرّ أديناور في رسالة إلى صديق أن الاستقرار المؤسساتي في بريطانيا وتقليدها الليبرالية، "اللذين يبرزان بتناقض واضح مع القارة الأوروبية"، يُعتبران بالغي الأهمية في توحيد أوروبا.

وفي رسالة أخرى في السنة عينها، وضع هذه المسألة في إطارها الصحيح الذي لا يختلف اليوم عما نواجهه اليوم مع معضلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد كتب: "لا يستطيع الإنكليز الحفاظ على مكانتهم العالمية إلا كقادة لأوروبا الغربية الموحدة اقتصادياً والمتوازنة سياسياً"، وإذا استبدلنا "قادة" بكلمة "مشاركين" نعرض بوضوح ما نأمله اليوم.

رغم ذلك، ساورت المستشار الألماني شكوك بشأن قدرته على إقناع سكان الجزيرة بدورهم في أوروبا، ففي اجتماع لحزبه، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في مطلع عام 1950 (تفاعلت لندن ببرودة مع خطة شومان، التي شكلت نواة مفهوم أوروبا الموحدة، الذي كان سيولد قريباً)، اشتكى أديناور: "تعيق بريطانيا كل الجهود للتكامل الأوروبي، فهي تعتبر نفسها جارة أوروبا لا أمة أوروبية"، وقد تأكد المستشار الألماني من وجهة نظره هذه خلال لقائه تشرشل في ديسمبر عام 1951.

لاقت هذه الشكوى أصداء واضحة على مر العقود: لطالما أراد البريطانيون استثناءات خاصة لأنفسهم في أوروبا، مما حد بالتالي من التقدم المستقبلي وغيره من المسائل، ولكن لكم من الوقت سنتحمل هذه المناورات؟ ندرك اليوم على الأقل ما يريده ديفيد كاميرون مع لائحة التفاوض الطويلة بشأن إصلاح الاتحاد الأوروبي: عدم مشاركة بريطانيا في "اتحاد أكثر تقارباً"، فبالنسبة إليه وإلى معظم البريطانيين، تشكل القارة مساحة تجارية كبيرة لا أكثر، فهم لا يعتبرونها بالتأكيد عمل إيمان بالتكامل بين الأمم.

تتمتع بريطانيا العظمى بتاريخ بحري يشكل حمضها النووي الوطني، ولكن على البر، يسود نظام مختلف عما هو متبع في البحر، حيث تُعتبر ردود الفعل المرنة ضرورية نظراً إلى أحوال الطقس والرياح المتبدلة، فقد أوصى اللورد نيلسون قادة أسطوله عشية حرب جبل طارق في أكتوبر عام 1805: "للحظ دور كبير، فما من أمر محسوم في الحروب البحرية". هنا تتجلى أيضاً الرغبة في الانفصال من خلال تذكيره قادته بالاستعداد لردود الفعل المرنة واتخاذ القرارات بشكل مستقل، في حال دعت الحاجة. فلا مجال لذلك العجز عن العودة إلى الوراء، ذاك البعبع الأوروبي. نتيجة لذلك، سارت معركة جبل طارق في منحى مختلف عن معركة أوسترليتز.

استمد البريطانيون كل ما تعلموه من تاريخهم من البحر وفي البحر: الليبرالية، والاستقلالية، والإرباك المنظم أحياناً، والاستعداد للمخاطرة.

على سبيل المثال، يشكل مفهوم "الدولة" القوي، أو "سيطرة الدولة" في الفكر الفرنسي، ورقة بريطانية رابحة وأحد الأسباب التي تجعل بريطانيا، في نظر ألمانيا، بالغة الأهمية في هذه المجموعة الأوروبية، فهي إحدى القوات الضامنة التي تحول دون استسلام الاتحاد الأوروبي لعجزه عن الإصلاح.

قبل ستين سنة من عهد أنجيلا ميركل، لجأ كونراد أديناور إلى لغة أكثر صراحة في تعبيره عن رغبته في مشاركة بريطانيا في الهندسة الأوروبية، ففي عام 1953، كثرت مناقشة مسألة "لجنة الدفاع الأوروبية" المخطط لها، وقد علّق المستشار الألماني آمالاً كبيرة على مشاركة بريطانيا العظمى، ومرة أخرى، طرح في الاجتماع التنفيذي الفدرالي لحزبه في شهر مارس عام 1953 أفكاره بوضوح أكبر مما ينصح به سياسيو عصر وسائل التواصل الاجتماعي الدائمة الوجود هذا. قال: "أرحب بأن يكون لبريطانيا تأثير في لجنة الدفاع الأوروبية كي لا نُضطر إلى مواجهة الفرنسيين المجانين نوعاً ما وحدنا".

هذه هي أصول الإيمان الألماني ببريطانيا كشريك أوروبي، فعندما لجأ أديناور في النهاية إلى باريس، مع توقيع معاهدة الصداقة في شهر يناير عام 1963، واجه معارضة قوية في البرلمان الألماني، حيث أصر الأعضاء على إضافة مقدمة إلى المعاهدة، وفي السادس من أبريل من تلك السنة، تحدى زعيم المعارضة فريتز إيرلر الحكومة، موجهاً إليها سؤالاً ساخراً في البوندستاغ: هل يجب أن يكون ثمة صداقة فرنسا "معاداة بريطانيا العظمى"؟ فشعر أديناور بالاستياء، وتعرض ديغول لجرح كبير، فالمعاهدات التي انضم إليها كانت شبيهة بعطر فتاة صغيرة، لقد تبخرت بسرعة.

ضمت المقدمة، التي حظيت بالموافقة في 16 مايو عام 1963، مقطعاً شدد على ضرورة مواصلة توحيد أوروبا "لتشمل بريطانيا العظمى ودولاً أخرى ترغب في المشاركة"، جاءت هذه الخطوة واضحة جداً، فما كانت النخبة السياسية الألمانية مستعدة للتضحية بتقديرها لبريطانيا العظمى على مذبحة المصالحة مع فرنسا، مهما كانت هذه المصالحة مهمة، أو استبعاد المملكة المتحدة من أي اعتبارات أخرى ترتبط بمستقبل أوروبا.

ما زال هذا موقف ألمانيا اليوم، بعد كل التخبط مع لائحة المطالب البريطانية للتفاوض بشأن شروط جديدة لعضوية لندن في الاتحاد الأوروبي، أضف إلى ذلك واقع أن "خسارة بريطانيا في عهدها" ستشكل ضربة قوية لسجل ميركل التاريخي. نتيجة لذلك، نحن ملتزمون كل الالتزام بمسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. على العكس، سنحمل الكثير من المرونة إلى طاولة المفاوضات كي نتفادى نهاية مماثلة، ونأمل أن تحذو بريطانيا نفسها حذونا.

* توماس كيلنغر

back to top