هل كان ربيع العرب... «ثورة»؟ (2-2)

نشر في 25-12-2015
آخر تحديث 25-12-2015 | 00:01
 خليل علي حيدر رحبت شعوب العالم العربي بالتغيير السياسي والتخلص من الاستبداد وبانفتاح المجال لحرية التعبير، غير أن العنف والاقتتال اللذين رافقا ثورات الربيع العربي أدميا صورتها وشوها دورها وتسببا في تراجع التأييد لها وفي هيمنة الإحباط على المتعاطفين والمسايرين لها.

لا ينبغي، بعد أن عرضنا في المقال السابق التفاصيل المتعلقة بالثورات أو الانتفاضات وتعريفاتها المختلفة ووفق رؤى متنوعة أن يغيب عنا أمران: الأول، أن تحليلات العلوم السياسية عن ماهية الثورة بمختلف نظرياتها وتعريفاتها تثري في الواقع فهمنا وتنضج رؤيتنا لأنواعها وظروفها مهما انطبقت عليها ظروف العالم العربي الحالية أم اختلفت.

والثاني أن ما يجري الآن في بعض البلدان العربية، يؤكد بعض ما تحذر منه النظريات، فالنظرية التي أشرنا إليها تقول مثلا إن الثورة ربما وقعت قبل نضج البديل أو قبل تطور القوى الثائرة لاستلام مسؤولياتها السياسية للحلول محل النظام المطاح به، مما يوجد فراغا في السلطة يغري بعض القوى المتصارعة لملئه، وهذا ما رأيناه جليا في دول عربية عديدة برزت فيها قوى سياسية وتنظيمات إرهابية عنيفة، وكذلك بالطبع في أهم هذه الدول، أي مصر التي كادت أن تكرر نموذج ثورة أكتوبر في روسيا عام 1917 أو ما يماثل بعض جوانب تلك التجربة.

ولو عدنا إلى نموذج الثورة الروسية وحكومتها المؤقتة الضعيفة الحائرة، وقفز البلاشقة إلى السلطة فيها بعد أشهر قليلة، لرأينا تماثلا كبيرا في مخطط الإخوان المسلمين للاستئناس بحكم مصر والبلاشفة، وإقامة نظام عقائدي حزبي شمولي غير ديمقراطي، إلى سنين طويلة قادمة، وربما توسيع هيمنة جماعات الإخوان في كل الدول التي يوجدون فيها كالأردن وسورية والدول الخليجية وشمال إفريقيا وغيرها.

ويمكننا الجزم بأن الإخوان المسلمين المصريين خاصة، بحزبهم العقائدي المنظم والمسيس للدين الإسلامي إلى أقصى حد والمتغلغل في أوساط وطبقات كثيرة، والمنتشر في الخارج منذ عقود، والواسع التمويل والثراء، والمتعطش للانفراد بالسلطة وإقامة دكتاتورية «النظام الإسلامي» كالثوار الإسلاميين في إيران بعد ثورة فبراير الإيرانية عام 1979، وتأسيس «الدولة الإسلامية» في مصر وتوابعها. مثل هذا الحزب بمثابة حزب البلاشفة بالنسبة إلى مصر ومعسكر الإخوان الإسلامي الذي كان سيهيمن على المنطقة لسنين طويلة قادمة لولا انتفاضة المصريين ضد الإخوان في 30 يونيو.

ومن الواضح أن المراجع الماركسية تتحدث عن الثورة الطبقية النموذجية وفق نظريتها التاريخية، ولكن الظروف الدولية المعاصرة، وبخاصة في بلدان ومجتمعات الدول النامية، تظهر حقائق وتجارب أخرى مختلفة عن المجتمعات الأوروبية، وهناك إلى جانب الثورتين أو النموذجين الإقطاعي والرأسمالي ثورات أخرى ضد التسلط وهيمنة العسكر والطغم الفاسدة مثلا، أو ضد طغيان أقلية مذهبية أو عرقية، أو القيادات المتسلطة لسنوات طويلة دون أي سند قانوني، أو الخضوع لأي دستور أو أي إمكانية للتغيير السلمي.

ومثل هذه الثورات قد لا تكون ثورات كلاسيكية ولا تحمل ملامح طبقية أو أيديولوجية واضحة، وربما كانت كذلك غامضة الأهداف، وقد تساهم في إشعالها طبقات وشرائح عديدة دون اتفاق على ما ينبغي عمله في «اليوم الثاني»! وقد تكون لها مخططات مجهولة داخلية وخارجية بما يمليه الواقع الدولي المتداخل وظروف العولمة المعاصرة، وقد تكون معبرة عن حركات تمرد واسعة تعرف جيدا ما لا تريد وتقاتل طويلا ضد خصمها، ولكنها لا تعرف على وجه التحديد ما تريد، وقد يكون هذا بعض نصيب العالم العربي في بعض مناطقه للأسف.

صدر قبل أعوام عن «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت كتاب بعنوان «الربيع العربي إلى أين»؟ ساهم في تأليف فصوله العديد من الكتاب والباحثين العرب، ضمنهم الأكاديمي المغربي د. محمد نور الدين أفاية في فصل بعنوان «التحرر من السلطوية والديمقراطية المعلقة» قال فيه: أنتج الاستبداد العربي مجتمعات استبطنت الإذلال وقبلت بهدر الكرامة وتعودت على الحجر والمنع، وبإطلاق شرارات الانتفاضة تفجرت المكبوتات وتكسرت حواجز الصمت، وأطلقت الألسن العنان لبلاغتها الاجتماعية، وبقدر ما حصل الإصرار على إسقاط النظام ورحيله- وإن كانت لم ترحل سوى بعض رموزه في تونس ومصر على سبيل المثال- باعتباره شعارا حوله اتفاق، تفجرت بالمقابل بشكل علني أو مستتر خلافات عميقة بين الفئات والأحزاب والجماعات المحركة للانتفاضة بخصوص طبيعة ومقومات النظام السياسي المأمول أو البديل.

كيف يمكن التعامل مع هذه الخلافات؟- وهي طبيعية بحكم أن الجميع له حق المشاركة مبدئيا في المجال العمومي- وهل يمتلك هذا المجتمع السياسي الصاعد ما يلزم من وسائل فض النزاعات لبلورة ميثاق اجتماعي جديد يؤسس لديمقراطية تستجيب في هذه الفترة الانتقالية للشروط الدنيا للاختيارات الليبرالية الاجتماعية؟».

(الربيع العربي.. إلى أين؟ مجموعة كتّاب، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2012، ص24 - 25).

«يبدو أن الفكر حائر أمام حجم الانفجارات ونوعية الاصطفافات التي يفرزها حراك مختلف البلدان العربية»، ويضيف د. أفاية في مكان آخر «فما يحصل في هذا القطر أو ذاك يمنع كل نزوع تعميمي أو حكم شامل... لا جدال في أن الوطن العربي يشهد لحظة تاريخية بامتياز. انتفضت مجتمعات عربية كان قد حكم عليها بالاستكانة والخضوع التام. تحرر الناس من الخوف، واحتل الشباب طليعة التحركات واستعملوا كل الوسائل الممكنة، وركبت تيارات سياسية وجماعات دينية هذا المد لتأكيد حضورها». (ص30).

رحبت شعوب العالم العربي بالتغيير السياسي والتخلص من الاستبداد وبانفتاح المجال لحرية التعبير، غير أن العنف والاقتتال اللذين رافقا ثورات الربيع العربي أدميا صورتها وشوها دورها وتسببا في تراجع التأييد لها وفي هيمنة الإحباط على المتعاطفين والمسايرين.

والحقيقة أن العنف من المشاكل الدائمة التي ترافق أغلب الثورات وخاصة الكبرى منها، فهل كان يمكن أن تقع عمليات التغيير والصدام هذه دون عنف واقتتال، فوجئت وأنا أطالع كتابا للفيلسوف البريطاني الليبرالي المعروف «برتراند راسل» Russell (1872-1970) أنه يشير إلى هذه العلاقة بين الثورة وضرورتها، والعنف الذي يرافقها فيقول: «أظن أنه يجب التسليم بأن هناك حالات تكون فيها الثورة لها ما يبررها، وهنالك حالات تبلغ فيها الحكومة الشرعية من الفساد ما تستحق معه عناء إسقاطها بالقوة على الرغم من خطر الفوضى التي يستلزمها ذلك، وهذا الخطر حقيقي تماما».

والآن كيف يمكن حماية الثورة ومكاسبها وتأمين عدم انزلاقها إلى نوع من التدمير الذاتي؟

يضيف الفيلسوف «راسل» معلقا على التجارب الثورية الغربية في القرون السابقة فيقول: «مما يستحق الملاحظة أن أكبر الثورات نجاحا ثورة إنكلترا عام 1688 وثورة أميركا عام 1866 قد قام بها رجال كانوا مشربين تشربا عميقا باحترام القانون، وحيث ينعدم هذا فإن الثورة تكون معرضة لأن تؤدي إما إلى الفوضى أو إلى الدكتاتورية، ولذلك فإن طاعة القانون، مع أن هذا ليس مبدأ مطلقا، يجب أن تلقى وزنا كبيرا، ويجب ألا يقبل الشذوذ عنها إلا في حالات نادرة بعد درس كل الاعتبارات درسا وافيا».

(السلطة والفرد، برتراند راسل، ترجمة شاهر الحمود، دار الطليعة: بيروت 1961، ص134).

إن الحوادث الجسام التي رافقت حركات التغيير الحالية في العالم العربي منذ عام 2011 جميعها وليدة شرعية متوقعة لهذه الثورات والانتفاضات وعمليات الصعود والإطاحة، وهناك عوامل أخرى عقدت السلوك الحضاري الذي ساد المشهد السياسي في البداية، ومن هذه العوامل التركيبة العشائرية وغرور القوة وتطلعات قوى الإسلام السياسي، والجماعات الإرهابية وتنامي المخاوف الطائفية، وتدخل بعض الدول وغير ذلك، والآن هل ستكون لتضحيات العالم العربي منذ 2011 وآلام شعوبه خلال هذه السنوات التاريخية نتيجة ومعنى؟ وهل سيعود القانون والاستقرار والأمن إليها لتحقق أهدافها التنموية؟

نتمنى ذلك!

back to top