التدليس التاريخي بين أحادية الوثيقة وقدسية المقابلة

نشر في 03-11-2015
آخر تحديث 03-11-2015 | 00:01
 عبدالرحمن محمد الإبراهيم التاريخ أبو العلوم وجدّها، ويكاد لا يوجد مركز للدراسات الاستراتيجية أو الهيئات الحكومية ليس من ضمن الصفوف الأولى فيه مؤرخ، نظراً لأن هذا المقال صحافي لا علمي فسأحاول اختصار الفكرة لتناسب المساحة المتاحة لي في هذا العمود، ولذلك أستميحكم العذر أيها القراء الأعزاء إن وجدتم الفكرة مقتضبة!

في الآونة الأخيرة برزت دراسات تاريخية من أكاديميين وبعض الباحثين في تاريخ الكويت خصوصاً وتاريخ الخليج عموماً يحاولون من خلاله إبراز أدوار تاريخية غير موجودة لخدمة طائفة أو طبقة أو حتى تيار سياسي معين. هذه الدراسات في غالبها اعتمدت على تحليل وثائق أعطتها قدسية عالية، وربطتها ببعض المقابلات الشفهية التاريخية، وأعطت المتحدث في هذه المقابلات نوعا من التقديس، ولكم أيها الأعزاء أن تتخيلوا سبب هذا الفعل؟

من ينكر أهمية الوثيقة التاريخية أو المقابلات الشفهية لا يعرف أبجديات علم التاريخ، إشكالي ليس مع الوثيقة بحد ذاتها لكن كل وثيقة تاريخية لها روابط معقدة مع شقيقاتها في الفترة نفسها، فإذا كانت الوثيقة مثلا مختصة بتاريخ الكويت وهي بريطانية فستكون لها وبلا شك لها أهمية، لكن ارتفاع قيمتها تزداد عند إيجاد رديف لها في الوثائق المحلية، أو ربما تزيد أهميتها عندما يتمكن الباحث من استخدام وثائق أخرى في تحليل منطقي لنقضها أو تفنيدها.

أما المقابلات الشفهية فهذه بحد ذاتها لها أسس علمية لإجرائها، وبمراجعة كتب منهجيات البحث العلمي ينجلي الغبار عن فهم أسسها، فمن المبالغات في المقابلات الشفهية أن يذكر أحدهم سكن أسرته لمدينة أو دولة قبل تأسيسها حتى! ويناقض بذلك آراء المعاصرين لذلك القرن أو تلك السنة والفارق السني بين الحدث الذي يذكره وتاريخ المقابلة أكثر من ٤٠٠ سنة، والطامة أن يطير بهذه المعلومة المدلسون أو من لا يفقهون من التاريخ إلا قشوره ويبدأون ببناء وهمٍ أكبر من وهم صاحب المقابلة.

من عجائب المقدسين لآحاد الوثائق والذاكرة أنهم يقتطعون الفترات الزمنية التي لا تناسبهم حتى تظهر قيمة الوثيقة أو المقابلة التي لديهم؛ إذ إن رسم الصورة كاملة للقارئ سيظهر ضعف الدليل الذي يستندون إليه، ومن هنا كان لزاماً عليهم في حال رغبتهم في وضع مساحيق التجميل على التدليس التاريخي أن يراهنوا على عدم إلمام القارئ بالتفاصيل الدقيقة لهذه المرحلة التاريخية، لماذا يكون هذا القطع منهم؟ وهل له علاقة بأهداف أخرى في أذهانهم غير الكتابة التاريخية؟

أنا مؤيد لدراسة جميع القضايا التاريخية دون خطوط حمراء نهائياً، ومع التأريخ للجميع دون تمييز أو تحيز، لكن في الوقت ذاته لست مع التطبيل الثقافي الذي نراه اليوم لبعض من يحملون شهادات عليا في التاريخ، إذ إن المعضلة مع حامل هذه الشهادة أنه يدرك الخطأ الذي يرتكبه لكنه في الوقت ذاته يعلم أن الخجل الاجتماعي سيمنع بعض الناس من فضحه، والمصالح الخاصة ستمنع آخرين، والجهل بالحدث سيمنع البقية، ولذلك تراه ينشر تدليسه في وسائل التواصل الاجتماعي دون حسيب أو رقيب.

النقد العلمي الهادف البعيد عن شخصية الكاتب والمتعلق بالمضمون، مطلوب تبنيه وبشدة من مراكز الأبحاث التاريخية وأقسام التاريخ في الجامعات، إذ إن سكوتهم عن مثل هذا التدليس التاريخي في بعض المواضع والسماح للمتطفلين على العلم حتى إن حازوا الشهادات العليا، يضعهم أمام محكمة ضمائرهم، ومحاكم الباحثين الجادين في قادم الأيام؛ إذ سيقال: دلس فلان وهذه المراكز لم تتحرك! ونصيحة أخيرة لنفسي أولاً ثم لبقية المهتمين بالتاريخ عامة والتاريخ المحلي خاصة ألا تجاملوا على حساب الحقيقة فالحياة قصيرة!

شوارد:

اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فرواية العلم كثيرة، ورعايته قليلة". علي بن أبي طالب.

back to top