خوفنا المزمن من الهموم الماديّة

نشر في 03-10-2015 | 00:01
آخر تحديث 03-10-2015 | 00:01
No Image Caption
نادراً ما تكون علاقتنا بالمال حيادية. المال انعكاس لموقفنا من الحياة ومن الآخرين. لذا تبرز الحاجة إلى استكشاف الأسرار والآليات التي توجّه خياراتنا المادية تزامناً مع فهم مخاوفنا عند مواجهة أي نقص مالي.
من المثير للاهتمام أن نفهم سلوكياتنا تجاه الماديات ونحدد الطرق التي تسمح لنا بالخروج من المعضلات وبتحقيق تطلعاتنا. بعد هذه المرحلة، سنتمكن من تحسين علاقتنا بالمال ومن إضعاف المخاطر والأفخاخ التي يطرحها، ويحصل ذلك تحديداً عبر علاقاتنا العاطفية. يجب أن يتعلق الهدف الأولي بإعادة المال إلى مكانته الصحيحة في مسارنا الشخصي والمهني.

المال من الناحية النفسية

سواء كنا نقتصد المال خوفاً من المستقبل أو كنا أسخياء بسبب فائض الأموال التي نمكلها، يُعتبر المال مصدراً بارزاً للقلق والمخاوف. لكن ما الذي يجعل علاقتنا بالمال معقدة ومتناقضة لهذه الدرجة؟ كيف يمكن أن يعزز المال الجشع والتبعية والشعور بالذنب والحسد؟ هل يستحيل أن نقيم علاقة سليمة مع المال؟ غالباً ما يكون المال محور رغباتنا وواقعنا. لذا لا يتأثر موقفنا منه بعائداتنا المادية بل بشخصيتنا. للكشف عن الآليات النفسية التي تنعكس على سلوكياتنا المادية، يدعو الخبراء جميع الناس إلى تحديد أهمية المال بنظرهم. ويمكن اللجوء إلى خطوات بسيطة وفاعلة، من الناحية النظرية والعملية، لتجنب الأفخاخ المادية في الحياة اليومية.

مشاكل يومية

يطرح المال مشاكل كثيرة بالنسبة إلى جميع الناس وتتفاوت الصعوبة في حلّها: تخفيف التبذير، إنفاق المال بفاعلية أكبر، تمويل المشاريع، الادخار، كسب المزيد، الذهاب في عطلة، الاستعداد للتقاعد... بغض النظر عن موقفنا من المال، لا شك أنه بات يلقي بثقله على حياتنا اليومية أكثر من أي وقت مضى لأننا ما عدنا نعطيه مكانته الصحيحة: إنه مجرّد أداة لخدمتنا. جاءت الأزمة الاقتصادية الراهنة ومشكلة البطالة المتفاقمة لزيادة مخاوفنا وباتت المشاكل المادية تطاول عدداً متزايداً من الناس.

على المستوى الاجتماعي، يعكس اختلاف العائدات تفاوت المراتب الاجتماعية. قد تتخذ العلاقة مع المال منحىً معقداً أيضاً: نميل بشكل لاواعٍ إلى احترام أصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة أكثر من غيرهم. يُعتبر المال الذي يملكه الآخرون وسيلة أخرى لتقييم نفسنا: إنه عنصر فاعل لإقامة المقارنات الاجتماعية. قد يؤدي هذا النوع من المقارنات إلى تكوّن مشاعر الحسد. الحسد ليس شعوراً سلبياً محصوراً في المجال المالي، بل إن المال هو أحد المجالات البارزة التي تعزز الحسد. حين يرتفع مستوى الحسد ويصبح جماعياً، سرعان ما يتخذ شكل عدائية اجتماعية. بدأ هذا الوضع يتوسع نظراً إلى استحالة احتساب القيم ومظاهر العدالة الاجتماعية بطريقة ملموسة.

تاريخ عائلي

رصد فرويد في نظرياته الشائعة في عالم التحليل النفسي تأثير الطفولة وشدد على الرمزية القائمة بين المال وعلاقة الطفل بمخلفات جسمه التي يعتبرها أول مفهوم عن الهدايا التي يقدمها لوالدته، أي مفهوم التبادل. كان فرويد يعتبر مثلاً أن البخل يرتبط باحتفاظ الفرد بمنتجاته الشخصية في المرحلة الأولى من طفولته.

في مرحلة لاحقة، حُلّل تأثير نماذج الأهل في الطفولة، علماً أنها تستطيع أن تنعكس على مسار الحياة كلها. إذا كانت علاقة الأهل بالمال طبيعية، من المتوقع أن تكون علاقة الطفل بالمال سليمة حين يكبر. لكن إذا نما الطفل وسط أجواء من العوز والفشل والمشاكل المادية، أو إذا اعتاد على التبذير المفرط، سيتأثر الشخص حين يكبر بتلك النماذج التي ربي عليها فيكررها أو ينتفض ضدها، لكن ستكون ردة فعله عنيفة دوماً.

سعادة الإنفاق على الآخرين

على عكس ما يظن كثيرون، تزداد سعادتنا عند صرف المال على الآخرين وليس علينا لأن العطاء يرفع مستوى تقديرنا لنفسنا، ما يجعلنا نقتنع بأننا أسخياء ومسؤولون، وهذه القيم توفر لنا السعادة والراحة. يكون هذا السلوك إيجابياً أيضاً لأن إنفاق المال على الآخرين يحسن العلاقات معهم. أثبتت دراسات عدة ارتفاع مستوى السعادة لدى الأشخاص الذين يقيمون علاقات اجتماعية حسنة مقارنةً بغيرهم.

خوف مَرَضي من النقص

نخاف جميعاً من أن ينقصنا المال طبعاً، لكن قد يتحول الوضع في بعض الحالات إلى رهاب أو مرض حقيقي. أفضل مثال في هذا المجال هو الشخص الذي يمكن أن يستقيل من عمله للمشاركة في مشروع يدرّ عليه أرباحاً إضافية. لكن إذا كان هذا الشخص يخشى أن ينقصه المال، ولو بشكل غير واعٍ، فلن يستقيل لأنه يعتبر أن العمل الجديد ليس موثوقاً وقد يواجه الفشل ويصبح في نهاية المطاف عاطلاً عن العمل. قد يؤدي الخوف من نقص المال إلى نوع من الشلل، فيرفض الفرد أي مشروع يمكن أن يفيده مادياً. وقد يرتبط هذا الوضع أيضاً بالخوف من النقص بجميع أنواعه: النقص العاطفي، نقص الصحة، نقص الغذاء...

الخوف الذي يتجاوز حدود المعقول لا يساعد الناس على اتخاذ أفضل القرارات لأن أحكام الشخص الخائف تصبح خاطئة وشائبة وهو يعجز عن تحديد أصل المشكلة التي يواجهها، فقد يعمد مثلاً إلى تضخيم احتمال فقدان العمل أو إضعاف العوامل التي تضمن أفضل النتائج. لذا يمكن أن يتخذ هذا الفرد قرارات غير منطقية ولا تصبّ في مصلحته بأي شكل.على صعيد آخر، يحول الخوف من نقص المال دون إحراز أي تقدم في الحياة. يعكس هذا الوضع عموماً قلة ثقة في النفس. يخشى الفرد مثلاً أن يفشل في عمله الجديد، وهو موقف نموذجي لكل من لا يثق بنفسه. تشتق قلة الثقة في أغلب الأحيان من مرحلة الطفولة، إذا لم يكسب الطفل تقدير والديه أو إذا اختبر تجربة فاشلة وصادمة. لكبح هذا الخوف المزمن، يجب استهداف سبب الرهاب الأساسي واسترجاع الثقة المفقودة.في حالات أخرى، قد تُتَرجَم قلة الثقة وعلاقتها بالمال بطريقة مَرَضية مفرطة. في هذه الحالة، يظن الشخص أنه لا يستحق المال الذي يجنيه. إنه وضع شائع وهو يؤدي إلى عواقب أخرى مثل عدم تقبّل الترقية في العمل أو رفض الانتقال إلى عمل براتب أعلى. يعكس هذا السلوك تخريباً لاواعياً للذات والهدف منه هو الحد من العائدات المالية. وقد يمتنع هذا الشخص عينه عن الاستثمار في مشروع مربح أو يبدأ بإنفاق المال بما يفوق حدود المعقول لتجنب الاحتفاظ بأموال كثيرة.

خوف جوهري

يتراوح الخوف من المال بين الخوف من فقدان الأملاك، والخوف من عدم امتلاك الكثير، والخوف من نقص المال. كل من يعيش حدثاً صادماً مثل الحروب أو الأزمات يجيد تحديد مخاوفه لأنه عاش سابقاً في ظروف العوز. لكن يرتبط الخوف من المال بخوف جوهري من الموت. لتجاوز هذا القلق الوجودي، نحن نضمن مساحاتنا وحياتنا ونمنح نفسنا القواعد والتأمينات والقوانين والعقود. يعتبر البعض أن المال يشكّل ضمانة فائقة كونه يحميهم من المشاكل والاضطرابات وحتى الموت إلى حد ما. لكنها فكرة خاطئة جداً طبعاً.

غالباً ما يكون القلق المرتبط بالمال إرثاً من زمن الطفولة، أي حين علّمنا أهلنا كيفية التعاطي مع المال وتقدير قيمة الأشياء. تسمح هذه المقاربة بإقامة علاقة صحية مع المال. لكن إذا كانت مشكلتك كبيرة، يمكنك استشارة أهل الاختصاص لأنهم يستطيعون مساعدتك على تجاوز هذه المخاوف كلها.

مرحلة انتقالية ضرورية

ينجح البعض في الانتقال من الإحباط إلى تقبّل الواقع وفي التخلص من دور الضحية تمهيداً لتحمّل المسؤولية، وهكذا تتحول هذه التجربة إلى مبادرة مثمرة حيث يستعمل الفرد قدراته الروحية إلى أن تبتسم له الحياة مجدداً. للتحرر من المخاوف غير المنطقية، يجب اتباع خطة متكاملة: المضي قدماً، تقبّل الدروس المكتسبة، تجاوز التحديات، تحمّل مسؤوليات الحياة. تعني هذه الخطة تجاوز العوائق، وتغيير طبيعة طاقتنا (أي تحويل الأفكار السلبية إلى أفكار إيجابية إذا أمكن)، وإيجاد توازن سليم بين الإيمان بالذات والاقتناع بحدود القدرات الشخصية. لتحقيق ذلك، يجب التصرف بطريقة صادقة حتى بلوغ مرحلة داخلية من الشغف والهدوء والقوة وفهم الوجود بطريقة تتجاوز حدود المنطق. إنه مسار مثير للاهتمام وهو يمهد لإنهاء هذا الخوف المَرَضي من النقص!

back to top