رمضان في الجزائر

نشر في 11-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 11-07-2015 | 00:01
في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا الى مساحات واسعة من الخيال وفضاءات رحبة من التقرب الى الله بنوايا صادقة.

فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحا وعانقته وجداناً، وكلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة واختلفت طباعا وعادات وسلوكاً.

للجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.

ونحن في بحثنا هذا نحاول ان نعود بالزمن الى الوراء، ونعيد الرحلة في اتجاه المنابع لأن ما تعيشه شعوب اليوم أتى من بعيد، فهناك ولدت الأسرار. نسافر من منطقة إلى أخرى نبحث عن اخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل اخبارا بسيطة مثل اهلها لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول الى الحقيقة التي تشير جميعها الى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.

والجزائر إحدى الحواضر العربية التي كان شعبها رافداً للرجال والحضارة, نهل من معاني الدين السامية، وسجايا الأجداد الخالدين، ما جعل منه معدناً للأصالة ومعيناً للبناء.

الأرض والجذور

يقال إن الإنسان سكن الأرض الجزائرية منذ آلاف السنين قبل الميلاد، فبناها وعمرها وأقام بها البناء الأول, وان اقرب الشواهد المؤكدة لقيام حضارة كبرى كان قبل العام 1250 ق.م، حيث وصلت طلائع القرطاجيين إلى هناك قادمين من الجوار, ثم تلاها رجال الحضارة الفينيقية التي وصلتها من بلاد الشام ومن لبنان بالتحديد، بعد أن عبر بحر الروم حاملة معها حداثتها وبضائعها وطموحها التجاري, وتعددت الحضارات التي قامت على أرضها بعد ذلك حتى لمئات السنين، حتى دخلها الإسلام في منتصف القرن السابع الميلادي على يد أبي المهاجر دينار أولاً، ثم عقبة بن نافع ثانياً, ومنذ تلك الفترة تعاقبت الممالك والدول الإسلامية على حكم الجزائر, فبعد حكم الأمويين بـ300 سنة حكمها الفاطميون الذين أقاموا دولة مترامية الأطراف، ثم الحماديون والمرابطون والموحدون والزيانيون، الذين أقاموا دولهم المحلية حتى الاحتلال العثماني في أواخر القرن السادس عشر، والذي أتى في أعقاب اعتداءات إسبانية وفرنسية عدة كرغبة عثمانية في دخول حلبة التنافس والطموح السياسي, فشهدت الجزائر أربعة أنواع من الحكم العثماني جاءت متتالية أولها البايلربايات، ثم الباشوات الذين صدر فرمان بهم من قبل الباب العالي السلطان مراد الثاني, وتلاه عهد الأغوات، ثم كان عهد الدايات الذي استمر حتى نهاية الاحتلال العثماني بعد الحرب العالمية الأولى وبدء الاستعمار الفرنسي المقيت الذي أهلك البلاد والعباد.

ويتكون الشعب الجزائري من خمس قوميات كبرى أرست جذورها في الأرض الجزائرية، أولاها الأمازيع أو البربر، ومعظمهم مسلمون يتحدثون اللغة العربية، ولهم لغة خاصة بهم متداولة في بعض المناطق، وهم قبائل قديمة سكنت الجبال بعد بداية الفتح الإسلامي خوفاً من الفاتحين العرب، وطلباً للسلامة، فحافظت على الكثير من عاداتها وتقاليدها, وثانيها العرب وهم نوعان من المهاجرين الأوائل الذين فتحوا شمال إفريقيا فطاب لهم العيش هناك واستقروا بها، أما المهاجرون اللاحقون فهم الذين جاءوها بعد أن ضاقت بهم أرضهم وأشهرهم بنو هلال ومن تلاهم من القبائل العربية التي انتقلت من الجزيرة العربية وما جاورها من مناطق، وهؤلاء حافظوا على تقاليدهم التي لم تتغير إلا قليلاً حتى نهاية القرن التاسع عشر, وثالثها الشاوية وهم قبائل من السكان الأصليين الذي تعودوا أن يسكنوا الجبال منذ القدم ومازالوا قليلي الاحتكاك بالآخرين من الجزائريين، لذلك فمعظمهم لا يجيد العربية أو الفرنسية إنما يتحدثون لغتهم الخاصة, ورابعها بني مزاب الذين يقطنون المدن الجنوبية ويشتهرون بالتجارة، وهم متفاعلون مع جميع القوميات الجزائرية، ويتحدثون العربية والفرنسية والأمازيغية، كما أن لهم لغتهم التي لا يجيدها إلا كبار السن منهم, وخامسها الطوارق وهم قومية تنتشر في عدة دول ومنها الجزائر التي يسكنون جنوبها وجنوبها الغربي، ويسمون الزرق بسبب لبسهم ملابس زرقاء في الماضي، ويعمل معظمهم بالتجارة، حيث ينقلون البضائع من إفريقيا إلى جنوب الجزائر، وبالعكس، كما يعمل بعضهم في تربية الإبل، وكل الطوارق مسلمون.

الاستعداد لرمضان

عرف الجزائريون القدماء باهتمامهم الشديد بالأطعمة في رمضان، حيث كانت الأسواق تكتظ بالمتسوقين, خصوصاً الحبوب كالقمح والأرز والشاي والقهوة والسكر والذرة والتمور والخضار بأنواعها, وكذلك تنشط تجارة اللحوم والدواجن في المدن، حيث يقبل الناس على شرائها يومياً, وتقوم النساء بتنظيف المنازل بشكل تام وكامل، فلا تترك فراشا أو حائطا الا تقوم بتنظيفه، استعداداً لاستقبال شهر رمضان المبارك, كما تقوم النساء أيضاً بتجهيز المطبخ كاملا بالأواني القديمة والجديدة إن أمكن شراؤها، حيث كانت الأسواق القديمة تغص بالأواني المصنوعة من الفخار، وأهمها الطواجن، والمعدنية كالحلل.

وتتسع دائرة الاستعداد لاستقبال الشهر الكريم بتجهيز الحبوب شراء وطحنا, فيتم الشراء عادة من أسواق الجزائر وتلمسان وقسطنطينة ووهران والبليدة، وجميع المدن المذكورة كانت أسواقها تعج بالسلع والبضائع خاصة الحبوب التي كان معظمها يزرع وينتج محليا, وأما طحن الحبوب فكان في الغالب يتم في المنازل، وتقوم النساء بطحن حاجتها من القمح أو الذرة بطرق بدائية يتم فيها الطحن بالرحى اليدوية بقصد تجهيزها للخبز أو الكسرة كما كان يسمى, كما كان يتم تكسير الحبوب الخاصة بصناعة الشوربة والحساء والحريرة بما كان يعرف بالمهباش، وهو وعاء خشبي كبير يصنع من جذع الشجر، إذ يقطع بحجم معين وينحت من الداخل وتصنع له يد من غصن الشجر أيضاً ليضرب بها القمح أو الذرة لتكسيره أو تهبيشه، كما كان يسمى قديماً, وأما الأسر الكبيرة أو الغنية أو محال بيع الحبوب المطحونة فإنهم يلجأون في العادة إلى الطواحين الكبرى التي تعمل على الماء أو يدوياً, وكانت هذه الطواحين تكثر بجانب المياه وفي المدن التي تزرع الغلال, وكان يسمى أصحاب الطواحين الرحوية, وقد ذكر محمد التنسي قي تاريخ تلمسان أن عدد الطواحين أو الرحوية في منتصف القرن التاسع عشر كان يزيد على المئة في تلمسان وحدها, ومعظم هذه الطواحين كانت مقامة على نهر الصفصيف ووادي الوريط وبجوار باب كشوط, ومثلها تقريباً في مدينة الجزائر، وكذلك كانت هذه الطواحين منتشرة في وهران والبليدة وبعض المدن الأخرى, وتكثر الطوابير أمامها منذ منتصف شهر شعبان حتى آخره، وكان بعض الرحوية لا يتوقفون عن العمل إلا ساعتين أو 3 في النصف الثاني من شعبان، بسبب ضغط العمل وكثرة الزبائن, ومن ضمن تجهيزات الأسر الجزائرية لرمضان شراء أخشاب الطبخ والفحم، حيث كان للأخشاب سوق خاص يسمى سوق الحطب, فيما كانت تسمى في تلمسان سوق الغماري نسبة إلى مؤسس السوق الغماري أحمد الذي اسسه قبل أربعة قرون، وكان يبيع الحطب ويصنع منه الفحم ليبيعه أيضاً, وأما في الجزائر أو مدينة القصبة، كما كانت تسمى قديماً، فكان سوقها الوحيد يسمى السوق الكبير، ويمتد من باب عزون إلى الباب الشمالي المسمى باب الوادي، ولم تكن محال الأخشاب أو الفحم تجلبه من الصحراء عبر أصحابها، بل كان تجار الحطب وأصحاب المحال يشترون حاجتهم منه من الحطابين الذين يجلبونه من الصحراء أو الجبال على الجمال.

الحجامة والحمام

وقد تعود الجزائريون في الماضي على عمل الحجامة في الأيام العشرة الوسطى من شهر شعبان، حيث يزدحم حي الحلاقين والمختصين بالحجامة بالناس، وقد عرف الحي في مدينة الجزائر بدرب الحجامين, وكان الجزائريون يرون انها سنة نبوية تتناسب مع الصيام وتوافقه, وانها تساعد على صحة البدن وتقوي قدرة الإنسان على تحمل العطش والعمل في النهار, وأما كبار السن والمرضي فكانوا يرون بها علاجاً لضعف بدنهم يساعدهم على تحمل مشقة الصوم.

وأما الحمامات فكان يرتادها الجزائريون في الماضي كعادة رمضانية متداولة ومعروفة، حيث تزدحم الحمامات العامة أو الرومانية، كما كانت تسمى بالناس في الأيام الثلاثة التي تسبق شهر رمضان، وفي الأيام التي تسبق الأعياد وقبل حفلات الزواج أيضاً, وقد اشتهرت الجزائر العاصمة ومدينة القسطنطينة بهذا النوع من الحمامات وهذه العادة الرمضانية التي كان الجزائريون يرون فيها وجوب طريقة مناسبة لاستقبال رمضان بالنظافة والتجهيزين البدني والروحي، لما للشهر من قدسية، وما للناس من تقوى وورع في تلك الحقبة الزمنية.

الاستهلال والمدفع

عرفت مدينة الجزائر الاستهلال منذ القدم، حيث كانت تسمى القصبة, لكن منذ منتصف القرن التاسع عشر أصبحت مساجد القصبة الأربعة الكبرى، وهي جامع سفير، وجامع سيدي عبدالرحمن، والمسجد الجديد، والمسجد الكبير تقوم بمهمة الاستهلال الكبرى في مدينة الجزائر، حيث يقوم أئمة المساجد المذكورة وبعض المساجد والتكايا الأخرى بتجهيز حملات الاستهلال من خلال الخروج إلى الساحات القريبة المكشوفة وأداء صلاة المغرب هناك والبدء بالاستهلال، وحين تثبت رؤية الهلال يتم اعلان ذلك من فوق منارات المساجد.

وأما إعلان الفطور اليومي في شهر رمضان فكان يتم عبر الاعتماد على مدفع الإفطار, وقد اختلف في تاريخ نصب أول مدفع للافطار في مدينة الجزائر، حيث يقال إن الذين أدخلوه للمرة الأولى كان العثمانيون قبل العام 1820م، وهي رواية لا يمكن قبولها بهذا الشكل، حيث عرف مدفع القاهرة على أنه الأقدم تاريخياً، وأنه أول مدفع استخدم لفطور رمضان في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي, لكن أقرب الروايات للصواب هي الرواية التي تقول إن الاحتلال الفرنسي في عام 1870م قد قام باستبدال الأذان بمدفع نصب في قلعة دار السلطان أو دار الداي يطلق قذيفة واحدة باتجاه البحر, ويقال إن صاحب الاقتراح كان أستاذا في ثانوية بيجو اسمه دي بوزي، وهو من جالية الانديجان التي كان الاستعمار الفرنسي يسوق لها على أنها السكان الأصليون للجزائر, واستمرت عادة المدفع حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي، إذ كان الأهالي في الجزائر لا يقولون حان الإفطار انما يقولون حانت ضربة المدفع، لشدة ارتباطهم بهذه العادة الرمضانية، كما كانت كبار السن وبعض العجائز يسمون الإفطار كسر الصيام, أما قبل دخول المدفع فقد كانت المساجد ترفع بيرقا فوق مناراتها, كما كان المؤذن يصدح بالاذان من فوق المنارات بالطريقة الأندلسية القديمة.

عادات رمضانية

كان الغرباء والسابلة والفقراء يتسابقون لأخذ مكانهم قبل أذان المغرب في ملجأ بوالطويل القريب من ضريح سيدي عبدالرحمن الشهير في العاصمة، وفي الملاجئ الأخرى، وباحات المساجد، والأضرحة المنتشرة في أعالي القصبة للحصول على فطور من الموائد الخيرية التي كان يتبرع بها الموسرون والتجار والأغنياء في المدينة, وكان الهدوء يعم أحياء العاصمة الجزائر في الماضي قبل الإفطار بساعة تقريباً، حيث يذهب الناس إلى منازلهم بانتظار دوي المدفع, فتجد السوق الكبير خلا من الزبائن ومثله سوق الصناعات وحي القيسارية الراقي والأسواق التابعة له كالصاغة والنحاسين, ومن عادات الجزائريين التزاور في ما بينهم وصلة أرحامهم والتواصل مع جيرانهم، وما كان يعرف بالعرضة قديما، وهي فطور جماعي يجمع الاخوة والأخوات والأبناء, كما كان الأهالي يحتفلون فرحين بأبنائهم الذين صاموا للمرة الأولى، حيث كانوا يعطونهم بعض الحلوى ويرافقونهم إلى المساجد، ليوزعوها احتفالا بصومهم، وتحبيبا وتشجيعا لهم على إكمال الصوم, كما كان الأهالي يقومون بختان أولادهم في رمضان، تيمناً بالشهر وتبركاً به.

الصلوات والسهرات

ما ان يفرغ الجزائريون من الفطور حتى تراهم قد خرجوا من منازلهم، طلبا للترفيه وقضاء ليلة رمضانية بهيجة, ولم يكن الناس قد عرفوا السهرات حتى الفجر، كما هو حاصل حاليا، بل كانت سهرتهم تقتصر على ما قبل منتصف الليل على الأبعد, وقد كان توجه الجزائريين في الليل على أربعة اتجاهات, أولها توجه البعض الى المساجد لأداء صلاة التراويح وقراءة القرآن وحضور بعض الدروس الدينية, وثانيها توجه البعض إلى الحلقات الصوفية والتكايا وأماكن الإنشاد الصوفي, وثالثها التوجه إلى المقاهي العامة المنتشرة في الأحياء الجزائرية القديمة, ورابعها الخروج الى الساحات والأماكن البعيدة وبعض أماكن النزهة القديمة.

ففي النوع الأول يتسابق الناس لاحتلال الصفوف الأولى في المساجد لأداء صلاة التراويح، وقد انقسم المصلون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى مالكية واحناف, فالمالكية كانوا يذهبون إلى المساجد المالكية مثل المسجد الكبير وجامع سيدي عبدالرحمن الثعالبي، والأحناف إلى المساجد الحنفية مثل جامع كنشاوة، ومسجد سفير، وجامع السيدة، والجامع العثماني الجديد, وبعض المساجد المذكورة كانت تضيق بالمصلين فيلجأون إلى ساحات المساجد ليملأوها بالتسابيح والعبادة، وقد قاموا بإنارتها بالفوانيس والمصابيح الزيتية.

وأما النوع الثاني فقد كانت الزوايا والتكايا الصوفية محطة لاستقبال الراغبين في سماع المدائح والأشعار والإنشاد الذي يسلب الألباب، وقد توسط شيخ الحضرة المنشدين، حيث احيط بقصادي وحزابي الطريقة الذين يتبادلون الإنشاد، فيخشع المستمعون وقد تنتاب بعضهم نوبات بكاء تأثراً بالمدائح والأناشيد.

وأما النوعان الثالث والرابع من الباحثين عن الترفيه والسهرات العائلية فقد تعددت الأماكن التي كان الناس يلجأون لها, حيث اشتهرت بعض الساحات والأراضي الفضاء التي كانت مسرحاً للنزهات الأسرية، بعد أن يحملوا معهم بعض الأفرشة والمشروبات الساخنة والباردة ومصابيح الانارة القديمة, كما كانت المقاهي في القصبة أو الجزائر المدينة تغص بالرواد الذين يأتون من كل الأحياء للمقاهي التي تعودوا أن يأتوها في أشهر السنة الأخرى نهاراً, وكانت أشهر المقاهي القديمة القهوة الكبيرة، وهي أجمل المقاهي في العاصمة وأكبرها حجماً وأكثرها اتساعاً للرواد وتقع في وسط المدينة, وقهوة البوزة وتقع في حي باب عزون الشعبي القديم وقهوة العريش التي كانت تقع بحي باب الجديد، والعشرات من المقاهي الأخرى المنتشرة في أرجاء المدينة وأحيائها, وقد كانت المقاهي تقدم المشروبات الساخنة كالشاي والقهوة والأعشاب, كما كانت تقدم الأدخنة وبعض العاب الطاولة القديمة ذات الأصول العثمانية أو الفرنسية, كما كان بعض المقاهي يحضر المنشدين والمداحين الذين يرددون الأناشيد والموشحات على إيقاع الدربوكة والبندير.

*كاتب وباحث كويتي

back to top