الكاتبة ياسمينة رضا: تعلّمت الخيال الأدبي من بورخيس!

نشر في 10-08-2015
آخر تحديث 10-08-2015 | 00:01
أصبح السطر الأخير من قصيدة خورخيه لويس بورخيس الغامضة عنوان أحدث كتاب لياسمينة رضا: {سعداء هم السعداء} (Happy Are the Happy). بالنسبة إلى رضا، تشير قصيدة بورخيس إلى أن السعادة التي يعتبرها الناس قابلة للتحقيق ومبنية على السياق العام تُوزَّع على الأشخاص بطريقة غامضة أكثر مما نظن. ناقشنا خلال محادثاتنا كيف تتجاوز السعادة حدود إدراكنا وكيف تكون الأعمال الأدبية أهم مما يظن كتّابها.

يشمل كتاب «سعداء هم السعداء» 18 كاتباً مختلفاً، ويستطيع كل واحد منهم أن يجذب انتباه القارئ في فصل على الأقل. بما أن الشخصيات متعاونة عن قرب، كأصدقاء أو أحباب أو أزواج، تؤدي جميع الأصوات المتلاحقة إلى تعقيد طريقة فهمنا للشخصيات الأخرى وهي تطرح أسئلة جديدة خاصة بها.

تُرجِمت كتب رضا (روايات ومسرحيات وسيرة غير تقليدية عن نيكولا ساركوزي) إلى أكثر من 30 لغة.

يشمل أشهر أعمالها المسرحية كتابين فازا بجائزة {توني} عن فئة أفضل مسرحية: {الفن} (Art) و{إله المجازر} (God of Carnage). كتبت رضا السيناريو الخاص بفيلم «المجزرة» (Carnage) المقتبس من روايتها الأصلية التي صدرت في عام 2006 وكان من إخراج رومان بولانسكي.

تقيم في باريس راهناً لكنها تحدثت معي حين كانت تزور مدينة نيويورك.

ياسمينة رضا: في آخر مرحلة من تحضير كتابي الجديد «سعداء هم السعداء»، بدأتُ أبحث عن عنوان. لم أكن قد فكرتُ بأي عنوان حتى تلك اللحظة، ولم أكن واثقة من العنوان الذي سأتوصل إليه. كل ما كنت أعرفه هو أنني لا أريد عنواناً مرتبطاً بالحب أو الأزواج، وهما موضوعان بارزان في الكتاب. لم أشأ أن يوحي العنوان بالمحتوى مباشرةً.

كنت على متن طائرة حين خطرت على بالي عبارة {سعداء هم السعداء} المستوحاة من مقولة فرنسية. بدت لي العبارة جميلة وفكّرتُ أنها قد تكون مناسبة. لكني لم أتذكر أين سمعتها للمرة الأولى. كنت أعرف أنها مأخوذة من أحد أعمال بورخيس بكل بساطة. لكني لم أعرف أين وردت العبارة في الأصل.

حين عدتُ إلى المنزل، أخذتُ معي جميع كتب بورخيس التي أقتنيها. بدأتُ أفتش فيها عن تلك العبارة فوجدتُها بالصدفة في آخر سطر من قصيدة {أجزاء من الإنجيل الملفق} وهي تنتهي بهذه الطريقة:

{سعيد هو كل شخص محبوب وكل شخص يحب وكل شخص بلا حب.

سعداء هم السعداء}.

هذا هو موضوع الكتاب. قررتُ فوراً اعتماده كعنوان.

أحب طريقة بورخيس في إنهاء القصيدة بهذه العبارة التي تعكس صورة ذاتية عميقة. بعبارة أخرى، لا يمكن أن يحقق أحد السعادة إلا الشخص السعيد. إنها فكرة متناقضة وغامضة، مثل بورخيس تماماً. يمكن أن نحلل هذه الفكرة في عقلنا مراراً وتكراراً.

أظن أن جزءاً مما يقصده بورخيس هو أنّ السعادة لا ترتبط بالقوى الخارجية. السعادة هي قابلية موجودة في داخلنا. هي ليست موجودة في العالم الخارجي: السعادة هي أنت!

تنعكس هذه المشاعر في {القاموس الفلسفي} لفولتير: {ليست الظروف هي التي تجعلنا سعداء بل روحنا}.

في كتاب {سعداء هم السعداء}، استمتعتُ باستكشاف المفاهيم الذاتية التي تحملها شخصياتي بشأن عواطف الآخرين. يشعر ثنائي يواجه المشاكل مثلاً بالغيرة والانزعاج حين يشاهد ثنائياً آخر لا يكف عن إظهار العاطفة ويعكس صورة عن السعادة الزوجية. لم أكن أنوي في البداية أن أكتب القصة بهذه الطريقة، لكن سرعان ما تكشف الرواية عن المعاناة الكبرى التي يعيشها ذلك الثنائي الذي يبدو سعيداً ظاهرياً.

على بعض المستويات، كان يصعب علي أن أكتب كتاباً فيه هذا العدد من الرواة المختلفين. يجب أن ننظر إلى الشخصيات بالطريقة التي ينظر فيها الآخرون إليها، ثم نستكشف مشاعرها الداخلية. لكن حصل ذلك بشكل تلقائي أيضاً من خلال الخلط بين أصوات مختلفة. لدي خلفية في الأعمال المسرحية، فأنا كاتبة مسرحية. وحين نكتب للمسرح، يجب أن نعطي كل شخصية صوتها الخاص كي تتحدث به. المسرحية مجموعة من الأصوات التي تستعمل صيغة المتكلّم. بدا بعض جوانب هذه الرواية قريبة من البنية الدرامية، فقد كتبتُ من وجهة نظر الرجال والنساء وأشخاص من مختلف الأعمار.

صيغة المتكلم

أميل إلى الكتابة بصيغة المتكلّم: إنه الصوت الذي أسمعه فوراً. أحب الشعور الداخلي الحميم الذي تعكسه هذه الصيغة. في المقابل، لا تبدو صيغة الغائب طبيعية بالقدر نفسه. بل إنها تبدو غريبة بعض الشيء بالنسبة إلي. إذا كتبنا مثلاً: {في أحد الأيام، فتحت جوديث الباب. كانت متعبة جداً}. من يتكلم في هذه الحالة؟ أريد أن أعرف الشخص الذي يكلّمنا عن جوديث فوراً.

تتعدد الروايات التي تستعمل صيغة الغائب لكن تتولى إحدى الشخصيات سردها. كتاب {مرتفعات ويذيرنغ} (Wuthering Heights) الذي أعتبره تحفة فنية هو المثال المفضل لدي عن هذه التقنية: تسرد مربية مسنّة القصة وهي تعرّف عن نفسها.

قد ننسى من يتكلم أحياناً لكنها كاتبة القصة الفعلية وليس إيميلي برونتي. يعني ذلك أن جميع التفاصيل ترتكز على آراء المربية. تشكّل وجهة نظرها «مصفاة» للمعلومات التي نتلقاها. يستعمل كتّاب كثيرون هذه التقنية، منهم ستيفن زويغ أو إيديث وارتون في رواية «إيثان فروم» (Ethan Frome).

يؤثر المتكلم، سواء كان واضحاً أو مفترَضاً، على مستوى العبارات المستعملة لسرد القصة. إذا نظر أحد الأشخاص إلى لوحة وأخبرنا بما يراه، سنستنتج أنه يرى نفسه: يشاهد ما يستطيع مشاهدته وحده. عند استعمال صيغة المتكلم، يكون الوصف ذاتياً للغاية لدرجة أنه لا يعود مجرّد وصف.

لكن حين ينتقي الراوي المجهول التفاصيل، سنشعر بأن من يكتب القصة هو الكاتب المنفصل عن الأحداث.

قرارات غرائزية

حين يُفترض أن يكون الوصف {موضوعياً}، يشبه الأمر مشاهدة شخص يبني موقعاً على المسرح. لكنّ السؤال المطروح في هذه الحالة: من صمّم الموقع؟

مع ذلك، تبقى هذه القرارات كلها غرائزية. أظن أن كتابة الخيال الأدبي ليست عملية فكرية، بل إنها غامضة بقدر الرسم: يشبه الأمر تمرير فرشاة على لوحة زيتية لرؤية ما سيحصل. أفترض أن الفن يهدف إلى تشويه العالم وإعادة بنائه. لكن لماذا نفعل ذلك؟ لماذا يكتب الناس ولماذا يرسمون؟ لماذا لا تكون الحياة كافية؟ إنه لغز حقيقي. لا نعرف الجواب.

ولن نعرف الجواب مطلقاً. لا أعرف ما أكتبه حين أكتب. متأكدة من أن أحداً لا يعرف ما يكتبه. التقرير الذي يجبَر كل كاتب على توفيره للصحافة أو كل من يطلبه هو مجرد سخافة. إنه تقرير سطحي وقد فُرِض على عملية الكتابة في الفترة الأخيرة.

لا يعود العمل ملكاً لنا

لا يمكن أن يتحدث الفنان عن الفن. ينشأ العمل الفني بطريقة آنية: في لحظة ابتكاره، يصبح بعيداً عنا. نحن نكتب في لحظة معينة وتحصل عملية الإنتاج بيننا وبين الورقة. في اليوم التالي، لا يعود العمل ملكاً لنا بل يختفي. لدي إثبات ملموس على ذلك. بعد نشر أولى مسرحياتي، طلب ناشر آخر إعادة نشر الكتب بعد بضع سنوات. كان هذا الناشر أفضل من سابقه وكانت الكتب لتصبح أجمل معه. وبما أنني أردتُ تغيير بعض التفاصيل في المسرحيات السابقة، سررتُ بذلك العرض: سيتسنى لي الآن أن أغير العناصر التي اعتبرتها خاطئة. لكني أدركتُ سريعاً أنه أمر مستحيل. مؤلّف تلك الكتب لم يعد الشخص نفسه. إذا غيّرتُ أي تفصيل، سأضطر إلى إعادة صياغة العمل كله.

الفن ليس كياناً يمكن تحديده فكرياً. ما نظن أننا نكتبه لا يتطابق مع ما نكتبه فعلياً. لدينا حدس بشأن ما يفيدنا، في الكتابة وفي الحياة عموماً، لكنه يبقى خفياً وغامضاً. نحن نحاول التنبه إلى ذلك الدافع ونسعى إلى تطبيقه عملياً عند الإمكان.

back to top