حلم أوروبا الليبرالي يختفي

نشر في 15-12-2015
آخر تحديث 15-12-2015 | 00:01
إن ما يواجهه مؤيدو الوحدة الأوروبية اليوم يُعتبر أكثر صعوبة وتعقيداً بكثير، ولا يطاول السعي العملي لدعم قضيتهم فحسب، بل يمس أيضاً أسسها، ومن المؤكد أن قضية التكامل الليبرالية مع سائر دول أوروبا ما زالت قائمة، إلا أن إثباتها يزداد صعوبة.
 الغارديان عندما نجح جان ماري لوبان في بلوغ الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2002، انتاب الخوف ناخبين كثراً، وقد عاد هذا الشعور في جزء منه إلى رؤيتهم بشكل واضح وجه أمة كان ظلاً سابقاً، فأخبرني آنذاك صديق لي كان من مؤيدي المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان، وقد بدا مضطرباً جداً: "يعني هذا أن بعض مَن نعرفهم صوتوا للجبهة الوطنية"، ولكن حتى فهم الأسباب (الاحتجاجات الاقتصادية ولا مبالاة التيارات السياسية الرئيسة) لم يخفف من وطء هذا التطور أو الاستياء الذي ولده، فلا يعني التفهم المسامحة.

ولكن من شبه المؤكد أن ابنة لوبان ستكون من أبرزين المنافسين على الرئاسة عام 2017، ولا شك أن هذا يشكل صدمة من نوع مختلف تحمل في طياتها وقع الحتمية القاتمة، فتتنقل مارين لوبان في أوساط السياسة الفرنسية، فيما تفوح منها رائحة الفاشية المجمّلة باحتراف الحادة، فقد نأت بنفسها وبحزبها عن أسلوب والدها العدائي، متخلية عن التمييز العرقي الصريح، ومستغلة المساحة السياسية، حيث يتداخل موقفه المتطرف مع الاحترام التقليدي، وبعد ظهورها المنتصر في الجولة الأولى من الانتخابات المحلية قبل أيام، تدعي الجبهة الوطنية أنها الحزب المعارض الرئيس في فرنسا.

لكن فرنسا لا تشكل حالة استثنائية، فبدأ السأم الطويل من الديمقراطية الليبرالية في القارة يبدو أقرب إلى تراجع، إذ تزدهر الديمقراطية غير الليبرالية شرق القارة، فهي تشكل المبدأ الصريح الذي يعتمده رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، الذي حاول منع الصحف من انتقاد الحكومة باسم حماية "الأخلاق العامة"، والذي يعامل الأديان غير المسيحية والمنطمات غير الحكومية كطابور خامس يعيق حماسة مشروع وطني، واللافت للنظر أننا شهدنا هذه التطورات حتى قبل بدء أزمة الهجرة في الاتحاد الأوروبي، التي يعتبر لوبان فيها نفسه سور صد ضد "جيش" المسلمين المتوغل.

في شهر أكتوبر، أطاح حزب القانون والعدالة المحافظ المتشدد بالحكومة المركزية في بولندا، فانتشر الخوف بين الليبرالين في هذا البلد من أن يميل هذا الحزب إلى قومية مسيحية شبيهة بما يعتمده أوربان، لكن بعض الصحافيين دعوا بأعصاب باردة إلى عدم الشعور بالخوف، مرجعين هذه النتيجة إلى رد فعل البولنديين الفقراء، وخصوصاً في القرى والبلدات الصغيرة، ضد الطبقة الحاكمة المنهَكة الحالية، علماً أن هذه الشريحة من الشعب لم تجنِ غنائم انتقال السوق إلى ما بعد المرحلة الشيوعية. وتبقى النظرية المطمئنة أن المعتدلين يستطيعون إعادة رص الصفوف وتجديد محاولاتهم، ولا شك أن عقارب الساعة ستعود إلى الوراء في هذه الحالة.

لكن عقارب الساعة لا تبدو متوازنة في مختلف أرجاء أوروبا، حتى في الدول الإسكندنافية، تعرض التعاقب الودي بين نموذجَي الليبرالية المحافظ والديمقراطي الاشتراكي إلى هزة على يد الشعبويين اليمينيين، فقد حظي الديمقراطيون السويديون بأعلى النسب في استطلاعات الرأي في هذا البلد، علماً أن لهذا الحزب أصولاً نازية جديدة. أما الحكومة في الدنمارك، فتنال الدعم من حزب الشعب المناهض للهجرة.

صحيح أنه ما من بلدين يتبعان سياسة متطابقة، إلا أن أوجه شبه عدة تجمع الدول الأوروبية، ولعل أبرز الأسباب الموحدة لهذه التبدلات تفاعل عدم الاستقرار المالي مع انفصال النخب الحاكمة الثقاقي عن الشعب، فمن باريس إلى وارسو، يُعتبر السياسيون المنتمون إلى الوسط التكنوقراطي فئة منفصلة ناجحة على الصعيد المهني، ومحمية بفضل عدد من الامتيازات من القلق الذي ينتاب الناخبين بسبب الاضطرابات الاقتصادية والتبدل السكاني المفاجئ. وعلى هذه الخلفية، يُسلَّط طيف الإرهاب الذي تسلل إلى السياسة بسبب لاجئين قادمين من دول ذات غالبية إسلامية.

لكن ما يجعل التخلص من هذه القومية المتجددة البالغة الصعوبة هو الثقة التي تختبئ بها وراء أقنعة الديمقراطية الشعبية، تماما كما تفعل القومية دوماً. فتحرص لوبان على ألا تظهر بمظهر المعارض للأجانب، بل كمدافع عن العلمانية الجمهورية، كذلك يصور اليمين الإسكندنافي المتشدد رفضه الترحيب باللاجئين كدفاع عملي عن قيم التسامح والمعاملة بالمثل الإسنكدنافية التقليدية، ملمحاً بالتالي إلى أن العقد الاجتماعي يصبح عرضة للخطر بسبب مجتمعات مهاجرة يشكل إخفاقها في الاندماج في المجتمع عملاً متعمداً ونوعاً من الفصل الديني، وما إن تتأصل فكرة أن الإسلام يحمل بطبيعته ميولاً إلى التعصب ومناهضة الليبرالية، حتى يسهل الادعاء أن الهجرة الجماعية تشكل خطراً يهدد القيم "الأوروبية"، وأن الحدود غير المضبوطة لا تتوافق مع الديمقراطية التعددية، لكن مؤيدي هذه الأفكار غالباً ما يتناسون الإقرار بأن القارة الأوروبية حققت التناغم الديني النسبي بقضائها بطريقة منظمة على الأقليات الكبيرة غير المسيحية في القرن العشرين.

صحيح أن بريطانيا لا تُعتبر مجتمعاً نموذجياً يعيش فيه الناس من شتى الأديان بتناغم، إلا أنها تبقى محصّنة نسبياً ضد تنامي الشعبوية الصريحة المناهضة للغرباء، فمن المفرح أن حزب استقلال المملكة المتحدة يشكل مجموعة هاوية مقارنة بالحركات المشابهة الأكثر فاعلية في أجزاء أخرى من القارة. قد نميل إلى اعتبار هذه الحماية إرثاً مستمراً من مناهضة الفاشية التشرشلية، إلا أنها تنبع أيضاً، ولو بطريقة غير متعمدة، من الهندسة الانتخابية والطبيعة الجغرافية: غياب الحدود البرية مع سائر القارة نعمة، أو ربما نقمة، فنظام انتخابي يخنق الأحزاب الصغيرة.

لا شك أن مناعتنا الجماعية في وجه السياسات العرقية ستُمتحن خلال حملة الاستفتاء بشأن الاتحاد الأوروبي، فقبل الاعتداءات الإرهابية على باريس، بدا أن الحجج ستتمحور حول الاقتصاد، إذ سيدعي المعسكر المؤيد للانفصال أن الازدهار يعتمد على تحرير أنفسنا من عبء منطقة اليورو البطيئة النمو، التي تتفشى فيها البطالة، أما الجانب الرافض للانفصال، فسيقول إن الوظائف والاستثمارات تعتمد على عضويتنا في نادٍ تجاري كبير في زاويتنا هذه من العالم، ومن المؤكد أن هذه ستظل محاور بارزة.

ولكن في الأسابيع الأخيرة تحولت أنظار السياسات البريطانية بعيداً عن الاقتصاد لتركز على الأمن، فعندما نطبق هذا النموذج تصبح عضوية الاتحاد الأوروبي إما آلية ضرورية لتنسيق السياسة المعادية للإرهاب (تبادل البيانات، ومذكرات التوقيف عبر الحدود، والتعاون الاستخباراتي) أو باباً مفتوحاً يتسلل عبره الجهاد متنكراً بعباءة اللجوء.

يمثل هذا التطور في الحجج مشكلة جديدة وأكثر تعقيداً بالنسبة إلى مؤيدي عدم الانفصال، فلطالما اصطدمت محاولات إبقاء بريطانيا جزءاً من أوروبا بتمسكها القوي بالليبرالية المجردة والخيالية التاريخية: تبجيل الانفتاح والتفاعل مع القارة واعتباهما رمزاً لأمة عصرية واثقة من نفسها؛ تذكُّر الهدف الرئيس وراء تأسيس الاتحاد الأوروبي، ألا وهو القضاء على القومية بالتخلص من الحدود؛ ورفض التشكيك في الوحدة الأوروبية واعتبارها نوعاً من الحمائية الثقافية الرجعية المتلونة عند أطرافها بمعاداة الأجانب الصريحة. لا شك أن هذه لم تشكل مطلقاً حججاً سهلة يمكن تحويلها إلى محاور حملة تتمتع بجاذب شعبي كبير، لكن ما يواجهه مؤيدو الوحدة الأوروبية اليوم يُعتبر أكثر صعوبة وتعقيداً بكثير، ولا يطاول السعي العملي لدعم قضيتهم فحسب، بل يمس أيضاً أسسها، ومن المؤكد أن قضية التكامل الليبرالية مع سائر دول أوروبا ما زالت قائمة، إلا أن إثباتها يزداد صعوبة تدريجياً، عندما يبدو أن عدداً كبيراً من الدول في أوروبا يدير ظهره لليبرالية.

* رافائيل بير

back to top