المومياوات... تخبرنا بما يجب تناوله؟

نشر في 07-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 07-01-2016 | 00:01
No Image Caption
في يوم ضبابي في أغسطس 1936، أبحر عالم أنثروبولوجيا وفريق عمله إلى جزيرة كاغاميل، ذرة بركانية صغيرة مليئة بالينابيع الساخنة والجروف في بحر بيرنغ. أخبرهم شخص يُدعى «الدب البني» عن كهف مليء بالمومياوات وغيرها من بقايا بشرية. وبعد الوصول إلى الشاطئ، عثروا على فتحة في الصخور قرب نبع متدفق.

تشير ملاحظات عالم الأنثروبولوجيا أليس هردليكا إلى أن الكهف احتوى على «ثروات مذهلة». يضيف العالم: «كانت المساحة داخل الكهف ضيقة جداً، ولم نستطع الوقوف في معظم أجزائه، فضلاً عن أنك لا تستطيع نبش أي مكان في أرضيته. لذلك كان علينا العمل بأيدينا كحيوانات الغرير. فيما اخترقنا ترسبات الملح، ظهرت المومياء تلو الأخرى. كانت حالتها متفاوتة: رجل، امرأة، أولاد، كتف حوت كبيرة، قاربان صغيران».

بعد نحو 80 سنة، أثارت المومياوات من كاغاميل وأماكن أخرى اهتمام العلماء، الذين يؤكدون أنهم تعلموا من التحديات التي واجهتها هذه البقايا أحد الأسس الرئيسة للتفكير التقليدي بشأن ما علينا تناوله.

يُنسب مرض القلب، الذي يُعتبر السبب الرئيس للوفاة حول العالم، إلى نظامنا الغذائي المعاصر ونمط حياتنا الخامل. لكن هذا التفكير يشير إلى أن الناس قد يعيشون فترة أطول إن تناولوا الطعام «المناسب» وزادوا تمرنهم. وقد أُدرجت وجهة النظر هذه في النسخة الأخيرة من توجيهات الحكومة الغذائية للأميركيين، التي تخضع راهناً للمراجعة وسيُعاد إصدارها قريباً. لطالما نصحت هذه التوجيهات باتباع عادات غذائية تُعتبر جيدة للقلب، مثل الحد من استهلاك الدهون المشبعة والملح والتركيز على اللحم الخالي من الدهون وثمار البحر.

لكن فحص أجسام الأونانغان من جزيرة كاغاميل وغيرهم من شعوب قديمة يُظهر أن بلاء مرض القلب المعاصر لا يُعتبر جديداً إلى هذا الحد، وأن مَن تمرنوا أكثر منّا بحكم الضرورة وكان غذاؤهم خالياً من المغريات المعاصرة عانوا أيضاً معدلات عالية من مرض القلب، وفق الباحثين.

في السنوات الأخيرة، كشفت عمليات مسح بالأشعة السينية لمومياوات من حول العالم (بمن فيهم صيادو وجامعو ثمار كاغاميل وعدد من المومياوات من مصر، البيرو، وجنوب غرب أميركا) إشارات إلى مرض القلب والتصلب العصيدي (صفيحات في بطانة الشرايين قرب القلب).

حتى الرجل الذي أعاد العلماء تركيب شكله والذي عاش قبل نحو 5 آلاف سنة، عانى إشارات إلى التصلب المتعدد. اكتُشفت بقاياه المحنطة في جبال الألب الإيطالية في شهر سبتمبر عام 1991.

طوال سنوات، تباحث العلماء بشأن مدى اللوم الذي تتحمله الأنظمة الغذائية المعاصرة في ارتفاع معدلات مرض القلب. فيذكر أحد منشورات جمعية القلب الأميركية: “لا شك في أن النظام الغذائي الغربي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظهور التصلب المتعدد”.

يوافقها كثيرون الرأي. إلا أن هذا الطرح أدى إلى مناظرة محتدمة حول حجم التغييرات التي يجب أن يدخلها الناس إلى غذائهم. فقد استخلصت مجموعات صحية بارزة، بما فيها جمعية القلب الأميركية، أن خطر الإصابة بمرض القلب يرتبط “بكمية الدهون ونوعيتها في غذاء الفرد”. لذلك شجعت الناس على الحد من استهلاك المنتجات الحيوانية، خصوصاً لحم البقر والغنم.

لاقت هذه المقاربة في السنوات الأخيرة الكثير من الانتقاد ممن اعتبروا بدلاً من ذلك أن النظام الغذائي الغني بالبروتينات، الذي يحتوي على قليل من النشويات (مقاربة “رجل الكهف” المزعومة) تسهل على الإنسان الحفاظ على وزن وعملية أيض مستقرين.

أدلة جديدة

لكن الأبحاث الجديدة قد تقوض النظريتين. باكتشاف أدلة على مرض القلب في مجموعات سكانية تتبع أنظمة غذائية متنوعة جداً، يُظهر بحث المومياوات أن عدداً من العوامل الأخرى غير المحددة يؤثر على الأرجح في هذه المسألة، فضلاً عن الطعام الذي تختاره.

يقول الباحثون، الذين شملوا اختصاصيين في مرض القلب، التصوير بالأشعة السينية، الأنثروبولوجيا، وغيرها من مجالات: “صحيح أننا افترضنا أن التصلب العصيدي مرض عصري، إلا أن وجوده قبل ظهور الإنسان المعاصر بدأ يثير احتمال ميل أكثر أساسياً للإصابة بهذا المرض”.

فيما تناقل هذا البحث على مر السنوات بعضُ أهم المجلات العلمية المحترمة، بما فيها “لانست” التي نشرت عام 2013 مقالاً عن أربع مجموعات من المومياوات، ادعى النقاد أن عدد المومياوات الخاضعة للفحص محدود (بضع مئات تقريباً)، لذلك لا يتوافر دعم كافٍ لتأكيد هذه الخلاصات الواسعة. علاوة على ذلك، ماتت هذه المومياوات منذ زمن بعيد، وربما أدت تغيرات كيماوية أخرى إلى ظهور الصفيحات في الشرايين.

لكن رد الفعل الأساسي تجاه بحث المومياوات جاء كالآتي: نظراً إلى كل الأبحاث التي تربط مرض القلب بالنظام الغذائي، فمن المستبعد تصديق هذه النتائج. يذكر جينو فورناكياري، خبير متخصص في الأمراض القديمة في جامعة بيزا، في رسالة إلكترونية: “أعتقد أن الشعوب القديمة مارست نشاطاً جسدياً حاداً واتبعت نظاماً غذائياً غنياً بالخضراوات وخالياً من الدهون المشبعة، ما جعلهم بالتالي أقل عرضة للتصلب العصيدي”. في الماضي، وفق فورناكياري، كان “أفراد النخبة” فحسب، مثل الملوك، يعانون التصلب العصيدي لأنهم كانوا يستطيعون تناول أطعمة شبيهة بما نستهلكه اليوم.

يضيف موضحاً أن عدم الدقة في قراءة صور الأنسجة، التي ماتت منذ زمن وشُرحت، أدى إلى خلاصات غير دقيقة. تستند مسوح، مثل التصوير المقطعي المحوسب، إلى تحليل حاسوبي لعدد من الصور الملتقطة بالأشعة السينية. وتتألف الصفيحات التي تسبب مرض القلب في جزء منها من الكالسيوم. فظلت هذه البقايا المتكلسة في المومياوات وظهرت في عمليات المسح.

لكن فورناكياري يؤكد أن الكثير من الاكتشافات الخاطئة قد يكون ممكناً “بالاستناد إلى خبرتي الطويلة”.

لكن الباحثين الذين تفحصوا المومياوات، بمن فيهم أطباء قلب يتفحصون صوراً مماثلة لمرضى أحياء، يشددون على أن ظهور التصلب العصيدي في الصور المقطعية “مطابق تماماً” للتصلب العصيدي في حالة مرضاهم.

يتابعون موضحين أن هذا التشابه يستبعد احتمال أن يكون تغيير ما في الجثث القديمة قد تسبب بوهم التصلب العصيدي هذا.

قديم

على نحو مماثل، يعتبر باحثون آخرون أن الأدلة على مرض القلب القديم حول العالم قوية.

كتب أنتوني م. هيغرتي، طبيب قلب من جامعة مانشيستر، في رده على مقال مجلة “لانست”، مشيراً إلى أبحاث أخرى في هذا المجال: “تؤكد هذه النتائج ظهور التصلب العصيدي في حضارات قديمة الاختلافات الثقافية بينها كبيرة”.

علاوة على ذلك، يستطيع الباحثون الإشارة إلى أدلة أخرى تشير إلى أن مرض القلب بلاء قديم.

يرد في نص من مصر يعود إلى 1550 قبل الميلاد: “إن فحصت إنساناً لمرض في قلبه، وكان يعاني ألماً في ذراعيه، صدره، وأحد جانبي قلبه، فهذا الموت يهدده”.

ولكن ما يصعب اكتشافه من المومياوات مدى تقدم مرض القلب لدى الأفراد، ومدى شعورهم بأعراضه.

لكن العلماء أكدوا أن ثمة إشارات إلى مرض القلب تبدو حادة كفاية لتجعل الإنسان يعاني. على سبيل المثال، يشير العلماء بالتحديد إلى إحدى مومياوات جزيرة كاغاميل: امرأة في أربعينياتها عاشت نحو عام 1900.

يقول غريغوري توماس، باحث ومدير طبي في معهد القلب في مستشفى لونغ بيتش التذكاري في لونغ بيتش بكاليفورنيا: “من اللافت بشأنها أنها اتبعت على الأرجح نظاماً غذائياً بحرياً وأكثرت من تناول زيت السمك. شمل غذاؤها الكثير من أسود البحر والحيتان والسمك، في حين أن مَن عاشوا في الداخل تناولوا العنبيات والأوراق”.

رغم ذلك اكتشف الباحثون أدلة على إصابتها بتصلب عصيدي حاد في اثنين من الشرايين الثلاثة التي تغذي القلب بالدم.

يعتبر أطباء القلب أمثال توماس أن تداعيات هذا العمل لا تقتصر على الإطار الأكاديمي. فقد بدلت طريقة تفكيرهم بشأن النصائح الغذائية المعتمدة التي تُقدَّم للأصحاء.

«تناولوا غذاء صحياً وعانوا داء القلب»

يوضح راندال تومسون، طبيب قلب من معهد St. Luke’s Mid America في مدينة كنساس وبروفسور في كلية الطب في مدينة كنساس في جامعة ميسوري، أن هذا البحث بدل نظرته إلى ما يمكننا القيام به لتفادي مرض القلب.

يقول: “أنا طبيب قلب سريري وأريد أن يتبع الناس نظام غذاء صحياً. لكن هذا البحث يدفعنا إلى إعادة النظر في ما نعرفه. فلا يعود جزء من هذا المرض على الأقل إلى عوامل الخطر التقليدية. ما كان هؤلاء القدماء يتناولون المواد الحافظة، بل كان كل طعامهم عضوياً. ما كانوا يدخنون، وكانوا يقومون بكثير من التمارين. لكن مقدار التصلب العصيدي في الأزمنة القديمة لا يختلف كثيراً عما نراه في الأزمنة العصرية. وإن أخذت عامل العمر في الاعتبار، تلاحظ أن النتائج التي تتوصل إليها متقاربة جداً”.

يطرح توماس فكرة مشابهة: “عندما أصبحت طبيب قلب قبل 30 سنة، اعتدت التشديد على اتباع نظام غذائي قليل الدهون والكولسترول بغية تفادي مرض القلب. إلا أننا لم نتمكن من اكتشاف ثقافة خالية من التصلب العصيدي. لذلك ما عدت واثقاً مما علي شخصياً تناوله لتأخير التصلب العصيدي أو ما يجب أن أنصح به مرضاي. لذلك أوصيهم بالحد من الدهون”.

ويضيف موضحاً أن الحد من الدهون في الطعام يبقي معدلات الكولسترول في مجرى الدم منخفضةً ويساهم في تفادي مرض القلب.

يختم توماس: “نأمل أن ننجح في تأخير التصلب العصيدي، إن عدنا إلى الطبيعة. لكن هؤلاء تناولوا نظاماً غذائياً طبيعياً. رغم ذلك، عانوا مرض القلب. لذلك بدلت رأيي”.

back to top