أفكار وأضواء: مغامرة لغوية في الصين

نشر في 22-10-2015
آخر تحديث 22-10-2015 | 00:04
 خليل علي حيدر لم تكن الصين متحمسة في الماضي لعرض لغتها وثقافتها على العالم الخارجي كشأنها اليوم، وكانت المخاطر تهدد في القرون السابقة من يحاول حتى تعليم اللغة الصينية للأجانب، وتقول بعض المراجع عن تاريخ الحملة البريطانية التي قادها اللورد مكارتني Macartny إلى الصين عام 1793 "إن المواطن الصيني الذي يقوم بتعليم اللغة الصينية لأي أجنبي يحكم عليه بالموت، لأنه يسهل على الغرباء الدخول إلى أسرار الصين".

ويقال إن الكتابة التصويرية الصينية نفسها كانت من عوامل حماية البلاد من "ألاعيب الأغراب"، ويقول بلال عبدالهادي في مقال له عن استعدادات الصين لأن "تحكم العالم" عام 2020، إن الأمر تغير اليوم، "فالصين أنشأت معهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية للأجانب، وتقوم بنشر فروعه في أنحاء العالم، وأشارت الإحصاءات إلى أنه ثمة حاجة حاليا- عام 2007- إلى حوالي 10 آلاف معلم لغة صينية في العالم سنويا، ولكن الصين لا تقدر على إرسال أكثر من ألفي معلم، وهي تنشط في مضاعفة عدد الأساتذة لتلبية أسواق التعليم في العالم". (الشرق الأوسط، 29/ 8/ 2007).

ويضيف الكاتب أن الصين تفتتح في كل ثلاثة أيام معهداً لتعليم الصينية أو كما تسمى عادة "لغة الماندرين"، كما قامت الصين بتيسير تعليم اللغة الصينية عن طريق إنشاء كتابة أبجدية خاصة بها بالحرف اللاتيني، وتعرف باسم "بِن يِن"، ترافق عملية تعليم الكتابة الصينية التصويرية، كما أن اللغة الصينية تعيش اليوم تجربة فريدة عبر مسارها التاريخي من حيث اتساع الرقعة والخروج من إطار منطقة الشرق الأقصى، حيث يقبل الناس على تعلمها في أميركا وأوروبا وغيرهما.

ويشير مقال في موقع إلكتروني إلى وجود تسعة معاهد كونفوشيوس اليوم في سبع دول عربية، وهي مصر والسودان والمغرب وتونس ولبنان والأردن ودولة الإمارات، وفي بعضها أكثر من معهد، غير أن الدول العربية لم تنضم حتى الآن إلى قائمة أكبر عشرين دولة مصدرة للطلبة المبعوثين إلى الصين، ويؤكد مسؤولون أن هناك نحو 400 جهة من 76 دولة ترغب بشدة في إقامة معاهد أو فصول كونفوشيوس، من بينها جامعات عربية، وكان معهد تعلم الصينية في جامعة محمد الخامس في المغرب يحتضن ستين طالباً فقط في بداية تأسيسه بسبب نقصان المعلمين، أما في العام الجاري فيلتحق بالمعهد 296 طالباً، ورغم ذلك يلاحظ أنه سجل أكثر من مئة طالب في معهد كونفوشيوس بحرم جامعة محمد الخامس لتعلم اللغة الصينية، "لكن معظمهم تخلوا عن ذلك لصعوبة اللغة ولم يبق إلا قليل منهم، عند نهاية السنة الدراسية".

 وتقول خريجة لغة فرنسية من طالبات المغرب أكملت دراسة اللغة في المعهد، ووصلت إلى الصين عام 2010 في بعثة على حساب الحكومة الصينية "يعد تعلم اللغة الصينية تحدياً نوعا ما، وبلا مبالغة يتمتع كل من بقي حتى النهاية بقلب شجاع". ومثل فاطمة حصل نحو 4000 شخص من نحو 120 دولة في العام الماضي على منح من معاهد كونفوشيوس في مختلف دول العالم". (عن موقع 2011 Arabic people.cn.com)

وفي عمان بالأردن، أشار مدير معهد كونفوشيوس إلى أن تعلم اللغة الصينية يشهد إقبالا ملحوظا من الأردنيين، وخاصة من قبل رجال الأعمال وجيل الشباب في المدارس والجامعات، ولهذا بدأت بعض المدارس والجامعات بتدريسها، كما تخرج 1200 طالب من المعهد منذ تأسيسه عام 2009.

ونشر موقع "المركز العربي للمعلومات" arabsino.com تجربة أحد قادة المنظمات الفلسطينية مع تعلم اللغة في الصين نفسها: "كما كان متوقعاً، رفضت القيادة الفلسطينية عودتي إلى الجبهة، وأكدت بدورها على ضرورة مواصلة انتهال المعارف الجديدة في الحقلين السياسي والدبلوماسي. وفي أمسية جمعتني والصديق المترجم حدثني قائلا: ما زلت في ريعان الشباب، ومستقبل العلاقات الصينية العربية زاهر ومشرق، فلم لا تتعلم اللغة الصينية؟ الجهات التربوية على استعداد لتنظيم دورة تأهيلية تساعدك على الانتساب إلى إحدى جامعاتنا. وبالفعل خصصت وزارة التربية الصينية ثلاث حصص أسبوعيا أتلقاها في مقر البعثة الدبلوماسية الفلسطينية، وفي خريف 1970 بدأت مشواري الجامعي في وقت لا يسمح فيه لأي أجنبي الدراسة في الصين، إن الحياة الجامعية ممتعة على الرغم من أنني كنت أقطع ما لا يقل عن ثلاثين كيلومترا، ذهاباً وإياباً، من الجامعة وإليها، على دراجتي الهوائية.

 في الصباح الباكر من كل يوم أستقل دراجتي الهوائية وأنطلق بها من الحي الدبلوماسي مخترقا الحقول الزراعية والشوارع الترابية الموصلة إلى الجامعة، الدرجات الهوائية تملأ الشوارع، والشعب في حركة مستمرة، لا تستطيع التمييز بين الرجل والمرأة إلا بالصوت، حيث يرتدون زي العمل الأزرق المعهود والجنود الزي الخاكي، وكان من المحرم على المرأة إظهار أنوثتها، فالشعر القصير تغطيه القبعة والزي الموحد يواري جسدها".

كيف وجد هذا الدبلوماسي الفلسطيني اللغة الصينية؟ يقول: "لغة الضاد أصعب لغات العالم، كما كنت أسمع، إلا أن اللغة الصينية بكل تأكيد أكثر صعوبة وتعقيداً، إنها لغة تصويرية، عبارة عن مقاطع دون أحرف أبجدية أو لاتينية أو غيرها تستطيع الارتكاز عليها في نطق الرموز أو المقاطع، فإذا استطعت معرفة معنى المقطع الصيني من شكله فلن تستطيع نطقه. المقاطع الصينية للأشياء المرئية من الصعب هضمها، فما بالك عن تلك المقاطع ذات الدلالات غير المرئية كالحواس والأفكار والمشاعر... إلخ، إضافة إلى وجود أربع تنوينات لكل مقطع، وكل تنوين يختلف عن الآخر من حيث الشكل والمضمون، فمثلا مقطع MA، تنوينه الأول يعني "الأم" ويُكتب بشكل معين بينما الثاني يعني "إزعاج" والثالث يعني "حصان" والرابع "المذمة"، والفارق اللفظي بين التنوينات الأربعة يكاد لا يظهر بالنسبة للأجنبي. ومن العادات أن يشير الشخص المتحدث إلى أنفه عند الحديث عن ذاته، أي عندما يقول WO بمعنى "أنا"، يتبعها بوضع إبهامه على أنفه، فمقطع WO المدون على الكتاب أمامي، أشرت له باللغة العربية "أنف" حتى لا أنساه"!

كانت "الصين الشعبية" يومذاك في أوج تشددها العقائدي زمن قائدها "ماوتس تونغ" (1893-1976)، وما شاع في عهده من مظاهرات ومسيرات كانت تصرف الطلاب والمدرسين عن الدراسة وإتقان التخصص، وهذا ما لاحظه الدبلوماسي الفلسطيني على أحد أساتذته، فيقول عنه:

"من خلال احتكاكي به لاحظت انشغاله الدائم بالاجتماعات الحزبية والاجتماعات الطلابية، ولم يكن لديه الوقت الكافي لدراسة اللغة العربية... دائماً ما يعود مرهقاً إلى الغرفة... اللغة العربية ليست سهلة التعلم، فكيف له أن يفعل ذلك على هذا النمط من الحياة الدراسية، أضف إلى ذلك ما يتخلل السنة الدراسية من دورات تثقيفية تطول أشهراً في المصانع والكيماويات الشعبية ومعسكرات الجيش، تنفيذاً لتوجيهات الرئيس ماو في ذلك الوقت، "على المثقفين التعلم من العمال والفلاحين والجنود"، حيث إن السنوات الأربع المخصصة له لدراسة اللغة العربية لا يمارس منها إلا بضعة أشهر فقط! وهذا ينطبق على بقية التخصصات وحتى العلمية منها! فالطبيب أو المهندس أو عالم الذرة... إلخ، ما الذي يتعلمه من العمال والفلاحين والجنود؟ كيف له أن يصبح مهندساً بارعاً أو طبيبا خلاقاً أو عالماً مبتكراً؟ كنت أسمع بمدى أهمية "الأطباء الحفاة"، الأطباء غير المؤهلين في تلك الفترة، كنت أخشى أن أتناول حبة أسبرين منهم... وكيف لعامل أو فلاح غير مؤهل إلا بسلاح المعول والمنجل أن يصبح بقدرة قادر على رأس جهاز علمي هنا وهناك؟ كانت الشهادة العلمية للأكفاء تُقرأ من كف اليدين، فكلما كانت خشنة ومجرحة كان مستواه العلمي والثقافي أرقى وأرفع من غيره، ونحن كطلبة أجانب كنا نشارك في مثل هذه النشاطات التثقيفية "النزول إلى الأرياف". بالنسبة إلي كانت ممتعة ومفيدة لاعتبارين اثنين، فرصة لممارسة اللغة الصينية وفرصة للتعرف على ما يجري". تعرض "الطالب الفلسطيني" نفسه بضغط من أستاذه كما يقول لموقف محرج مع اللغة الصينية، عندما ارتجل خطاباً ذات مرة بين عمال الحديد والصلب... في بكين، يقول: "كلما تقدمتُ باللغة كان يعود ضغطه- أي إلحاح الأستاذ- من حيث ارتفع، أخبرني بتنظيم الجامعة رحلة تثقيفية إلى مصانع الحديد والصلب في إحدى ضواحي بكين، حيث سنبقى معهم عشرة أيام، نأكل ونعمل وننام معهم، وأوكل لي الحديث باسم الطلبة الأجانب، فاعتذرت منه رأفة بصحته قائلا "لا يمكن، كيف لي ذلك وأنا لا أستطيع أن ألقي خطاباً باللغة العربية فكيف لي باللغة الصينية؟". لم يترك لي أي مجال للتملص أو التردد وهكذا حدث، عصرت أفكاري وسلحت نفسي بعدة جمل مترابطة وتتوافق مع المناسبة وأمام مئات من العمال وتصفيقهم الحار ترجلت، وقبل بدء الحديث سرقت النظر لمدرسي الذي حاول الابتعاد عني وإذا به يتصبب عرقاً... عرفتُ على نفسي أولا، وما إن بدأت في مخاطبتهم إلا وعلامات الاستغراب، لا بل التهامس فيما بينهم يوقفني عن الحديث، منهياً الجمل الخمس بكلمة "شكراً للجميع". لم يستسلم مدرسي، وشق طريقه من بينهم ليطلب مني استكمال حديثي عاد التصفيق والتشجيع، وبالفعل أنجزت المهمة الصعبة التي لا تقل صعوبة عن العمليات الفدائية، وبعد الحفل أبلغني أستاذي سبب همسات العمال وضحكاتهم عند بدء حديثي، وهو نطقي غير السليم لكلمة "أيها المعلمون" فيجب أن تلفظ بالصينية بالشين المشددة وليست الخفيفة كما فعلت، فالشين المخففة تعني "أيتها النساء"!

back to top