غادرنا «الحكيم»

نشر في 02-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 02-07-2015 | 00:01
 يوسف عبدالحميد الجاسم  سطّر العدساني دروساً في النقاء والعفّة والنزاهة ونظافة اليدين لأجيال متعاقبة سوف تذكره بالامتثال والقدوة في حسن الأداء وكبح جماح النفس والتعفف والترفّع عن مفاسد المال والإثراء غير المشروع، فأصبح نموذجاً من نماذج «الاستقامة» الوطنية والأخلاقية والإدارية.

حينما كان يتحدث إليك لا تملك إلا الإصغاء والتدبر فيما يتتالى من عقله ولسانه من مخزون الخبرة وثبات البصيرة وصواب الرأي والاتجاه، وحينما كنت تتحدث إليه يبهرك بإطراقه وإرخائه السمع والمتابعة دون مقاطعة، وكأنه يتلقف الجديد والمفيد ممن يصغره سناً وخبرة في شؤون الحياة، وحين يختلف معك فإنه لا يلغي رأيك، وكان خصامه في الحق لأنه منحاز إليه، وكان رضاه عن الصواب مع الحذر بأن موقفه سيتغير معك إن أنت حدت عنه.

تراكمت لديه الخبرات منحدراً من جيل المؤسسين واشتغاله في بيئتهم الملأى بالنقاء الوطني والأخلاقي وعفة ونظافة السرائر، تتلمذ على أيدي معلمي كتاتيب الكويت الصالحين وارتقى في سلم التعليم حتى الجامعي بالانتساب، فضاعف من تحصيله العلمي ليضاعف حصيلته في خبرات الحياة، وتشرّب من موازين بيت عريق من أسرة عريقة في الأدب والعلم وشؤون القضاء، فاستحق خلال مسيرته الطويلة لقب "الحكيم" بجدراة، لأنه لا يفصح عن رأي دون تدبر، ولا عن موقف دون درس، ولا عن اتجاه دون تيقن.

صلب في رأيه ومواقفه ودفاعه عن الكويت ولحمتها وعمقها الأخلاقي والوطني والاجتماعي، استعان برصيده الوطني والأخلاقي حين خاض معاركه الانتخابية ليمثل الشعب بجدارة في دورتين متتاليتين ويبلي مع رفاق دربه ريادات النواب بلاءً حسناً في جميع أمور الوطن، ثم يترجل عن صهوة جواد النيابة طوعاً وهو متيقن من ثقة الشعب به، مدركاً بفراسة الخبير أن رياح الأحداث تتجه نحو ما لا تشتهي سفن الديمقراطية الحقة التي شارك مع أبناء جيله في تشييدها.

لازم أخاه الأكبر (محمد) كأحد رموز الحنكة والحكمة في الكويت، والذي رأس مجلس الأمة في مرحلة كانت تحتاجه بلاده في سدّة ريادة المؤسسة التشريعية، ونهل من خبرات أخيه الأكبر الكثير، وكان يعتبره مثله الأعلى، تمرَّس في شؤون المجالس والأجهزة البلدية وتسلم رئاستها.

وإذا كانت تلك المواقع مراتع لبعض ضعاف النفوس الذين تداولوا عليها فإن "الحكيم" سطّر دروساً في النقاء والعفّة والنزاهة ونظافة اليدين لأجيال متعاقبة سوف تذكره بالامتثال والقدوة في حسن الأداء وكبح جماح النفس والتعفف والترفّع عن مفاسد المال والإثراء غير المشروع، فأصبح نموذجاً من نماذج "الاستقامة" الوطنية والأخلاقية والإدارية.

رأس باقتدار أمانة منظمة المدن العربية حتى وفاته، وكان الممثل الوحيد لبلاده دورة بعد أخرى، اعترافاّ وعرفاناً منها لمصداقيته وقدراته على حسن تمثيل وطنه وأمته في مثل هذا الموقع.

أسند إليه مجلس الأمة آخر مهامه الكبيرة، وهي رئاسة "ديوان المحاسبة" بقرار إجماعي استناداّ إلى القاعدة الربانية " إن خير من استأجرت القوي الأمين" فحفظ الأمانة وأدى الرسالة، وكان على نحافة عوده، جبلاً أشمَّ صامداً في وجوه المفسدين ورعاة الفساد، وصدع بأقوال الحق دون أن تأخذه فيها لومة لائم حتى قابل ربه بنفس راضية مطمئنة.

عاش لا يفارق بيوت الله حيثما سكن واستوطن، وكان ملجأً لذوي الحاجة والمعوزين دون أن يرد سائلاً منهم.

رحم الله حكيماً من حكماء الكويت، وصوتاً من أصوات الحكمة، فارقنا بعد معاناة ومكابدة طويلة مع المرض، المرحوم العم عبدالعزيز يوسف العدساني، ونعزي كل الكويت وذويه الكرام بفقده في وقت نحن بأمسّ الحاجة إليه، ولكنها إرادة الخالق التي لا رادَّ أو اعتراض عليها.

وسيبقى اسم الراحل عبدالعزيز يوسف العدساني محفوراً في ذاكرة الوطن بأفعاله ومواقفه وسيرته العطرة التي ستكون نبراساً لأجيال كثيرة من بعده، و"إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ".

back to top