أغنيات لم تعلمني إياها أمي

نشر في 31-10-2015 | 00:01
آخر تحديث 31-10-2015 | 00:01
No Image Caption
أمي، المرأة الأكثر شجاعةً التي عرفتها على الإطلاق، استسلمت للسرطان، وبعد سبعة أسابيع قضيتها في المستشفى، الذي كان من اللافت أن يحمل اسم فلورانس نايتنجل، ماتت. كانت كلماتها الأخيرة قبل أن تدخل غرفة العناية الفائقة: «أردا، أفضل مطعم للدونر كباب في إسطنبول هو في الشارع الواقع إلى يمين هذا المبنى، اذهب وجربه...».

سيلاحظ كل من يقرأ ما هو مكتوب على شاهدتي قبري والديّ، المجاورين لقبر الشاعر أقطاي رفعت، أنهما كانا يبدوان كأب وابنته:

البروفيسور الدكتور مرسال كمال أرجينكون (1991-1928) البروفيسورة الدكتورة أدا أرجينكون (2003-1950).

انتظرت سبعة أيّام قبل أن أنفصل عن ملكة المشكلات، صاحبة الاسم السخيف جيل، التي كانت طالبة علم اجتماع في الجامعة الأميركية وتقارن نفسها بالنجمة السينمائية جوليا روبرتس. تحرّرت من هذه الفتاة الثرية التي كنت قد خطبتها لمجرد إرضاء أمي، وهأنذا أتذوّق متأخّراً طعم كبريائي مثل طالبة في الثانوية تدخل بيت دعارة للمرة الأولى في حياتها.

أعيش اليوم في القصر العثماني- الذي عشت فيه كوريث، كضيف وسجين، والآن كسيّد- وتثيرني فكرة أني لا أعرف كم من الأيام أو السنوات سأبقى فيه. لم ألجأ إلى شقتي الواقعة في قمة ناطحة سحاب في العاصمة وفضّلت البقاء في شيشلي الهادئة فقط من أجل إفاكت- الخادمة التي تتعب في البناء القديم المتعب والتي كانت على استعداد أن تتناول حبّةً فاسدة من دواء للبروستات فقط كي لا تضيع سدى. مع انتهاء الصراع بين مصراعي النافذة وريح الجنوب يرتفع أذان الفجر، وأنا أجلس منتظراً بتثاقل في الصالة تحيط بي التماثيل البرونزية الصغيرة من كل جانب. عندما تنتهي الصلاة ستشتدّ الريح من جديد. تستمتع يدي اليسرى بنفض رماد السيجار على السجادة الحريرية وأنا مدركٌ أني نسيت نوع الشراب الذي أحمله في يدي اليمنى. تلوت في حفل تأبين، الذي حضرته نخبة من أهل المدينة، سطوراً من قصيدة «بيان صخرة» للشاعر كوجوك إسكندر، وأشعر الآن أني أستطيع أن أدمدم تلك الخطبة القاسية حتى أغيب عن الوعي في ساعات هذا الصباح الغائم.

عمري اليوم سبعة وعشرون عاماً، والنعمة الوحيدة التي أتوق للتمتّع بها هي نشوة كوني متحرّراً من أمي ومن خطيبتي...

يروي أبو موسى الأشعري أن سيّدنا النبيّ قال:

«يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوبٍ أمثال الجبال فيغفرها الله لهم».

يكمل اليوم خادمكم المتواضع بدرخان أوزتوك عامه السابع والثلاثين! وقد قرّرت أن أتّخذ قراراً حاسماً في حياتي، بدلاً من أن أبتاع لنفسي هدية عيد ميلاد: سأتوقّف، إن شاء الله، عن ممارسة العمل الذي صبرت عليه طيلة الأثني عشرة سنة الماضية.

لا تنسوا من فضلكم حقيقة أنني قاتل مأجور يبعث على الخوف. كانت مهمتي محصورة بأولئك الذين يرتكبون جرائم قاتلة خاصةً ضد ديننا، ويتجرّؤون على الاختفاء في جيوب نظام عدالتنا وأمننا، لكن يعلم الله أني لم أنه أكثر من حياتين في العام.

أنا أتبرّع بجزءٍ من الأربعين من دخلي للأيتام والمحتاجين في البلد الذي يقال فيه أنه مقابل كل 100 ليرة تُدفع كضريبة هناك 225 ليرة تضيع نتيجةً للتهرّب الضريبي.

عندما احترفت مهنتي للمرة الأولى تمّ تحذيري من أنّ الدخول إلى عالم القتل أمرٌ صعب ولكنّ الأصعب هو الخروج منه، وقد هدّدني الشخص المقزّز الذي ينقل إليّ أوامر التنفي (والذي يتحرّك باسم بايبورا) قائلاً: «لا تفكّر حتى في الاعتزال المبكر! يجب أن تأخذ إذن الرئيس أولاً».

أنا لم أسمع أبداً صوت زعمينا، كما أنّي لم أرَ وجهه قط. ولكنّ الاعتزال سيحدث بإذن الله! سأتلو صلاتي وأذهب إلى النوم بعد أن أستمع بإجلال لآذان المساء وأتناول ثمرة الرمان المباركة هذه، إذا سمحتم لي. أنا واثقٌ من أنكم بدأتم تدركون أنّ «خادمكم المتواضع» ليس قاتلاً مأجوراً عاديّاً...

كانت أمي تتباهي على الدوام بأنه ليس هناك في إسطنبول قصراً أعلى من قصرنا أو له إطلالة أجمل من إطلالته. كنت معتاداً على تتبّع الفسيفساء البانورامية للمدينة، شبراً شبراً، والنقاط الاستراتيجية التي تبدو كأنها واقفة في انتظار دورها في الاستعراض التاريخي. على الرغم من السحب التي تحجب الرؤية، تستوقفني أبراج قصر التوب كابي الباقي من الآثار البيزنطية، وعندما يهبّ النسيم المتثاقل فوق الجدار الحجري فإنه يحمل رائحة منعشة من أعشاب الحديقة إلى داخل الصالة لتنتهي رحلته بتنهيدة.

قالت إنها اختارت تشامليجا، التي تجذب كمغناطيس آذان الصبح من مساجد المدينة الثلاثة آلاف، لأنّه لم يبق هناك حيٌّ لم يفقد نكهته». وقد كان القصر العثماني بواجهته المزخرفة ونقوشه المزيّنة هديّة الزفاف التي جعلت والدها يقدّمها لها.

كانت تقول بحماسة: «منذ رأيت مرسل للمرة الأولى عرفت أنه كُتب لي أن يكون زوجي وسيدي. عندما كان يتجوّل في حرم الجامعة وهو يعضّ شفته السفلى، واضعاً يديه في جيوب بنطاله المجعّد، حتّى الطالبات اليساريات كنّ يرتجفن. لقد عمل جاهداً ليكون مستقيماً، لكنّ ابتسامات المجاملة التي كانت ترتسم على شفتيه كافية لتسحر الفتيات. وعلى الرغم من شعره الدهني والخربشات غير اللائقة على بعض أعضاء جسده، حتى عاملات التنظيف كنّ معجبات به...».

لسوء الحظ كانت أمي امرأة جذابة بشعرها الأشقر الغزير وعينيها الزرقاوين بلون البحر وأنفها المعقوف وجسدها الرشيق. أعتقد أنه حتى الكلاب في الشارع كانت تقف لتحدّق فيها عندما تمرّ. عندما كنا نذهب معاً إلى التسوّق كنت أتمنى أن أقتل كل أولئك الرجال الخسيسين الذين كانت عيونهم تعلق بها بمسدّسي اللعبة.

ليس عليّ الغوص في تفاصيل أساليبها اللعوب التي كانت تدفع زوجها إلى الغليان. يمكنني فقط أن أكشف كيف غيّرت تيلدا تاراجونا اسمها وديانتها لتحصل على زوجها وسيّدها الذي كان مشغولاً حينها بطلاق «زوجته الأولى العاقر التي كانت تحمل شهادة دبلوم ولم يرها أحد أبداً» والتي كان قد تزوّجها «بناءً على أوامر عمّته».

كان والد أمي، إسحاق تاراجونا، يهودياً شرقياً. كان يدرس القانون في جامعة جنيف عندما وقع من النظر الأولى في حب آنّا، الطالبة التي كانت أطول منه. وقد استمرّ يتوسّل أمه سبعةً وعشرين شهراً كي تسمح له بالزواج من الفتاة الجذابة التي كانت تدرس الفلسفة، والتي هي ابنة لزوجين مسيحيّين مثقّفين من ستوكهولم. وضعت جدّتي طفلاً مشلولاً في 7 نيسان/أبريل 1947، وهو اليوم نفسه الذي مات فيه هنري فورد مؤسسة صناعة السيارات، الأمر الذي أطلق العنان لتذمّر حماتها العصبية التي كانت تناديها «ديبوك الفايكنغ الشريرة».

لم أرَ في حياتي شخصاً بدا كالقديس مثال خالي سلفادور الذي قضى حياته وهو يجرجر ساقه اليسرى أثناء المشي.

«امتازت» أمي والأميرة آن، أميرة بريطانيا العظمى، بأنهما ولدتا في 15 أب/ أغسطس 1950، تحت «برج الأسد». وقد سمّيت تيلدا نسبةً إلى زوجة الكاتب المعروف يشار كمال، التي كانت صديقة جدتي الحميمة. كانت أمي في طفولتها عنيدة وأنانية، ولكنها كانت جميلة كدمية، وأصبحت تُعتبر التعويذة الجالبة للحظ في العائلة، وهي المحبوبة من أم أبيها التي كانت تدعوها «ديبوك الغزال». تخرّجت في كليّة الفتيات الأميركيات في أوسكودار، وكنت الثانية على المدرسة، وأقنعتها تيلدا كمال بالدراسة في جامعة برانديز، الجامعة المفضّلة لدى الشابات اليهوديات. حين كانت أمي تحضّر شهادة الدكتوراه في الأدب واللغة الإنكليزية، كان والدي بروفيسوراً في قسم الرياضيات في جامعة بوغازيتشي. كان عمري سبع سنوات عندما اشتروا لي دراجة لأنني تمكّنت من قراءة عنوان أطروحتها «التأثير غير المباشر لإليس كانيتي في روايات إيريس مردوخ» والتي كانت تحضّرها تحت إشراف البروفيسور أويا باشاك، أحد الأكاديميين النادرين الذين كانت تعتبرهم مهمّين. لم توافق العائلة على زواجها من البروفيسور الذي كان كبيراً في السن، وكان مطلّقاً ومسلماً، ولكنّ أحداً لن يبدِ أي اعتراض، لأنهم كانوا يدركون أنها لن تصغي إليه.

back to top