حدود الهندسة الوراثية الجديدة

نشر في 17-12-2015 | 00:01
آخر تحديث 17-12-2015 | 00:01
No Image Caption
حققت قدرة البشرية على تعديل الطبيعة وهي إحدى خاصيات نوعنا منذ آلاف السنين، تقدماً كبيراً نحو الأمام.
كانت القدرة على تعديل التفاصيل الوراثية في حياتنا، كما يحلو لنا، تقتصر على الكائنات المدجنة، مثل الماشية والمحاصيل. لكن هذه القدرة باتت تشمل اليوم جزءاً واسعاً من المحيط الحيوي، حتى الإنسان.
كانت الهندسة الوراثية، على نطاق عالمي، تُعتبر من أحلام الخيال العلمي وأحياناً كابوساً. لكن هذه الإمكانية باتت متاحة اليوم. فللمرة الأولى ما عادت مناقشات تحويل أنظمة بيئية كاملة بسرعة وعلى نطاق واسع تُعتبر فرضية.
قبل أيام، أعلن علماء في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو وجامعة كاليفورنيا بإرفين أنهم هندسوا وراثياً بعوضاً لا يعيق عدوى الملاريا فحسب، بل يستطيع أن ينشر بسرعة جينات مضادة للملاريا في هذا النوع. حتى إن موسماً واحداً يُعتبر كافياً في بعض المناطق لتبديل كامل البعوض.

بما أن الملاريا تقتل مئات آلاف الناس سنوياً، تبدو الفائدة المحتملة واضحة. كذلك من الممكن استخدام هذه الطريقة للتحكم في أمراض أخرى يحملها البعوض.

بالإضافة إلى مكافحة الأمراض، من الممكن إدخال تعديلات مرغوب فيها إلى أنواع برية أخرى، فضلاً عن حيوانات المزارع والنباتات المزروعة. تخيل طحالب معدلة هندسياً لتنمو بوفرة كي تكون مصدر طاقة حيوية، ماشية مقاومة للأمراض... والاحتمالات كثيرة.

لكن مع هذا التقدم يكثر الخوف من الأخطاء والهفوات. فلا تزال أصداء دروس التلاعبات البيئية السابقة تتردد في أذهان العلماء وخبراء أخلاقيات العلوم.

تنتشر الفوضى غير المتعمدة، أحياناً، حين يعمد الناس، بذكاء أو بغباء، إلى إضافة نوع إلى بيئة غير بيئتهم الطبيعية. فبما أن هذا النوع الغازي لا يواجه أنواعاً مفترسة طبيعية تحد من نموه، فقد يخرج عن السيطرة ويؤدي إلى تأثيرات غير مرغوب فيها.

يشكل انتشار النحل الأفريقي في أميركا الشمالية، الأفاعي في غوام، والأرانب في أستراليا أمثلة بارزة على الضرر الناجم عن إدخال أنواع جديدة والذي لا يمكن إصلاحه.

أما بالنسبة إلى البشر، فثمة فيض من القصص المخيفة في أعمال الخيال العلمي عن أناس معدلين جينياً أو مكيّفين اجتماعياً.

يؤكد العلماء أنهم يدركون الأشراك المحتملة، وأنهم يبقون علمهم محصوراً في المختبر لتفادي أي أضرار. كذلك يطلبون من العلماء الآخرين، الحكومات، والمنظمات غير الحكومية مناقشة كيف ومتى يجب استخدام هذه التكنولوجيا.

في يناير 2016، سيستضيف معهد ج. كريغ فنتر في لايولا ورشة عمل تضم هذه المجموعات. وسيلي هذا اجتماعات  عدة بغية تطوير قواعد وتوجيهات أخلاقية لم يسبق أن احتاج الناس إليها. تشمل الأسئلة المطروحة:

في أي مجالات من الممكن استخدام هذه التكنولوجيا؟

كيف نحصل على موافقة السكان المحليين؟

ما الأخطاء التي قد تقع؟ وما أفضل السبل لمعالجتها؟

يبدو أن هذه التكنولوجيا ستُقيّم على مراحل عدة، وفق روبرت فريدمان، مدير العمليات في معهد ج كريغ فنتر. فبعد التجارب في المختبر، ستُنفذ اختبارات ميدانية بغية التحقق من فاعلية هذه التجارب في إطار خارجي. ولكن لن تُتخذ خطوة مماثلة قبل الإجابة عن الأسئلة الكثيرة حول كيفية التعاطي مع هذه التكنولوجيا وما الطرق التي سيتبعها المنظمون لاحقاً للموافقة على كائنات مماثلة.

يضيف فريدمان: «ستركز ورشة العمل بحد ذاتها على الحشرات. إلا أنها لن تقتصر على الحشرات التي تحمل أمراضاً تصيب الإنسان، بل ستركز، أيضاً، على تطبيقات زراعية محتملة لهذه التكنولوجيا الجينية».

التبدلات والعلوم

بلغت البشرية هذه المرحلة لأن العلماء، بعد عقود من الهندسة الجينية، طوروا طريقة أكيدة لإدخال تغييرات جينية من صنع الإنسان إلى كائنات برية. وأضيفت هذه التكنولوجيا، التي تُدعى {الدفع الجيني} (gene drive)، إلى تكنولوجيا أخرى فاعلة في تحرير الجينات تُدعى كريسبر-كاس 9 (CRISPR-Cas9).

في عملية التكاثر الطبيعية، تضيع جينات الكائنات القليلة المعدلة نسبياً وسط المجموعة الأكبر التي تملك جينات غير معدلة. لهذا السبب، من الضروري مثلاً ضبط تكاثر كلاب باست بدقة بغية الحفاظ على تميزها.

لكن تكنولوجيا {الدفع الجيني} بدلت هذه المعادلة مع مضاعفة عدد الجينات المعدلة مع كل جيل جديد. على سبيل المثال، تنقل جينة معدلة ورثتها من والدك هذه التغييرات إلى الجينة عينها التي ورثتها عن أمك. وفي ظل ظروف مثالية، تتضاعف وتيرة هذه الجينات تقريباً مع كل جيل.

طُرح هذا المفهوم منذ عام 2003 على الأقل، إلا أنه لاقى رواجاً بعد التوصل إلى تكنولوجيا كريسبر قبل أربع سنوات.

ولكن مع بدء استخدام هذه التكنولوجيا الوشيك واحتمال استعمالها خارج المختبر، كتب خبراء الهندسة الوراثية بقيادة جورج تشيرتش، من كلية الطب في جامعة هارفارد، مقالاً تحذيرياً في مجلة Science. فنبه إلى المخاطر المحتملة وحض على التزام الحذر.

نُشر هذا المقال في أبريل عام 2014. وفي مارس من هذه السنة، كتب علماء بقيادة إيثان بير وفالنتينو غانتز من جامعة كاليفورنيا بسان دييغو أنهم نجحوا في تطبيق {الدفع الجيني} على ذباب فاكهة. وأطلقوا على هذه التكنولوجيا الاسم المبتكر {التفاعل التسلسلي المطفر}.

في هذا التفاعل التسلسلي، تحوَّلت طفرة متغايرة اللواقح تظهر في زوج واحد من الجينات إلى طفرة متماثلة الجينات تظهر في زوجَي الجينات. وفي دراسة البعوض التي نشرها بير، غانتز، وباحث جامعة كاليفورنيا في إيرفين أنتوني جيمس في 23 نوفمبر، بلغت فاعلية التحول هذا 99.5 %.

قدّم عامل التفاعل المتسلسل هذا عاملاً جديداً في الهندسة الجينية، التي خضعت بحد ذاتها لنوع من التجميد نحو منتصف سبعينيات القرن الماضي، فيما قارن العلماء الفوائد والمخاطر.

توصل العلماء وصانعو السياسات إلى إجماع على أن الهندسة الجينية تشكل أداة مشروعة لتطوير أدوية أفضل. على سبيل المثال، يُعَدّ الإنسولين، الذي يستخدمه مرضى السكري، من بكتيريا تُعطى جينة تحمل شفرة لإنتاج هذا الهرمون. بالإضافة إلى ذلك، تُنتَج مجموعة كاملة من الأدوية، الأجسام المضادة الأحادية النسيلة، من خلايا مهندسة جينياً في ما بات يشكل اليوم جزءاً معتمداً في صناعة الأدوية.

لكن الانتقال من الأدوية المهندسة جينياً إلى الأطعمة شكل خطوة مثيرة للجدل. فيواجه حليب البقر، التي تُعطى هرمون نمو معدّاً بواسطة الهندسة الوراثية، معارضة قوية، مع أن إدارة الأغذية والأدوية الأميركية أعلنت أن هذا الحليب آمن للاستهلاك البشري.

كذلك تصطدم المحاصيل المعدلة جينياً برفض مجموعات بيئية مثل {غرينبيس}، فضلاً عن أن بعض البلدان حظرت استيرادها.

إمكانات مستقبلية

لم يتضح بعد ما البنية التي ستُطوَّر للتعاطي مع الاستعمالات المقترحة {للدفع الجيني} خارج المختبر. وسيشكل هذا، حسبما يُفترض، جزءاً كبيراً في ورشة عمل شهر يناير التي سينظمها معهد ج. كريغ فنتر في لايولا.

لطالما نادى فنتر، رائد في مجال علم الجينات عمل في هذا المجال طوال عقود، بتحسين الطبيعة باعتماد أشكال الحياة المهندسة جينياً. كذلك قاد الفريق الذي طوّر أول شكل حياة يحمل جينوماً معداً اصطناعياً.

بالإضافة إلى معهد ج. كريغ فنتر، شملت الشركات التي أسسها فنتر Synthetic Genomics، شركة في لايولا تطور علم أحياء اصطناعياً بهدف إعداد منتجات، مثل لقاحات وأدوية جديدة، أطعمة، وقود حيوي، وأعضاء حيوانية لزرعها في جسم الإنسان. ومن الشركات الأخرى التي أسسها فنتر Human Longevity التي تمزج الجينومات وغيرها بهدف تطوير تقييم صحي مفصل بدقة. يدرس معهد ج. كريغ فنتر منذ سنوات أفضل الطرق التي تستطيع من خلال التنظيمات التعاطي مع الجيل الجديد والقوي من التكنولوجيا الحيوية، وفق فريدمان، مدير العمليات في المعهد.

يضيف فريدمان: {أعددنا عام 2014 تقريراً قدّم نظرة شاملة. ولكن من المؤسف أن أحد المجالات التي لم يتناولها كان الحشرات. ركزنا بدلاً من ذلك على الميكروبات والنباتات}.

بعد الاطلاع على النجاح الذي حققه غانتز وبير في استخدام الدفع الجيني في ذباب الفاكهة، يقول فريدمان إنه سأل بير عما إذا كان يود المساهمة في التحقق من مدى تغطية التنظيمات القائمة الجيل الجديد من هذه التكنولوجيا. فكانت النتيجة ورشة عمل شهر يناير.

back to top