رمضان في نجد

نشر في 23-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 23-06-2015 | 00:02
في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا إلى مساحات واسعة من الخيال، وفضاءات رحبة من التقرب إلى الله بنوايا صادقة.
فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحاً، وعانقته وجداناً، كلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة، واختلفت طباعاً وعادات وسلوكاً، وللجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.
ونحن في بحثنا هذا نحاول أن نعود بالزمن إلى الوراء... نعيد الرحلة باتجاه المنابع، لأن ما تعيشه شعوب اليوم يأتي من بعيد... فهناك ولدت الأسرار... نسافر من منطقة إلى أخرى، نبحث عن أخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل أخباراً بسيطة مثل أهلها، لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول إلى الحقيقة التي تشير جميعها إلى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.
نجد الأرض، نجد هي الهضبة المستوية من الجزيرة العربية الممتدة بمساحات واسعة متوسطة الجزيرة، يحدها من الشمال صحراء النفود، ومن الجنوب الربع الخالي، ومن الشرق المنطقة الشرقية أو الإحساء والكويت وصحراء العراق، ومن الغرب جبال الحجاز وجبال عسير.

وهضبة نجد ترتفع كلما اتجهنا غربا، وتنخفض باتجاه الشرق، فتسمى الجهة الغربية عالية نجد، و{الشرقية} سافلة نجد، وقد يُسأل المتجه غربا الى اين فيجيب {مسنِّد}، أي متجه صعودا الى الغرب، ويُسأل المتجه شرقا نفس السؤال فيجيب {محدّر}، أي متجه الى الشرق نزولا.

وربما يصح القول إن الدوادمي ووادي الذهب هي آخر مناطق نجد غربا، بينما يعد بعض الأوائل الحناكية من إقليم نجد، لكن ما هو مؤكد تاريخيا أن جبل حضن يعد نجديا، وقد قيل قديما من رأى حضنا فقد أنجد، أي دخل في منطقة نجد.

سافلة نجد هي الجهة الشرقية من الإقليم، وتمتد شرق جبل طويق وشماله الشرقي حتى الجزء الشمالي من إقليم الاحساء وحدود الكويت ووادي الباطن بين العراق والسعودية، بينما تصل آخر حدودها شمالا الى منطقة حايل جنوب صحراء النفود، وتنحدر جنوبا حتى حدود الربع الخالي، حيث تنتهي ببعض الاودية كوادي سناح ووادي الدواسر وبعض الاودية الأخرى الواقعة جنوب الهدار. 

واهم مناطق نجد الحضرية هي مجموعة القرى المحيطة بجبل طويق والمتناثرة حوله من كل الجهات، واسم طويق تصغير لطوق على عادة العرب في تصغير الأسماء لتمليحها او تخفيف وطأة الاسم، وكان يسمى جبل العارض قديما، وسمي جبل طويق بهذه التسمية لأنه يشبه الطوق او القوس الذي يقع ظهره في الغرب وطرفاه في الشرق، احدهما في الشمال الشرقي والآخر في الجنوب الشرقي.

وعلى جوانبه نشأت معظم قرى نجد ومناطقها الحضرية، حيث ارتبطت معظم المناطق المستقرة حضرية كانت او شبه حضرية بطويق، وان شهد بعضها هجرات عديدة بسبب بعض سنوات الجفاف والقحط كان معظمها نحو مناطق الشرق.

 

الاستهلال والرؤية

 

كان المتعارف عليه في نجد ان يتفق أمير المنطقة او القرية وقاضيها وشيخ المسجد والوجهاء والاعيان والرجال الذين اشتهروا بقوة النظر والقدرة على الرؤية للخروج معاً يوم 29 شعبان الى جهة مكشوفة أو مرتفعة في المنطقة قبل وقت المغرب بقليل، ليبدأوا في التشاور عن الجهة والارتفاع والوقت المناسب للترائي في هلال شهر رمضان.

وعادة ما يكون بين المتشاورين من له دراية بمنازل الهلال ومواقع الاستهلال وإمكانية الرؤية، فيحدد الاتجاه والارتفاع وزاوية الرؤية والأمور المرتبطة بتحديد مكان ظهور الهلال، إن كان ظهوره ورؤيته ممكنان، ومعروف ان لأهل نجد فهما ودراية كبيرين في طرق السماء، وما يرتبط بها من دراية بالأجرام السماوية والنجوم والأهلة لمداومة الساري على الاستعانة بها ليلا.

وما يميز نجد من أفق مفتوح وفضاء نقي ساهم في زيادة مدارك الأهالي واتساع خبراتهم في مثل هذه الجوانب الفلكية، وحين تثبت رؤية الهلال يتم إبلاغ أهل المنطقة بالمناداة أو بإطلاق الاعيرة النارية ان توافرت، فيسري الخبر في أرجاء المنطقة او القرية او الامارة سريعا.

ونظرا لغياب وسائل الاتصال في السابق فإن إيصال خبر ثبوت الرؤية الى بعض المناطق والقرى البعيدة وبيوت الشعر المتناثرة في الصحاري المحيطة بالقرى والمناطق يكون فيه الكثير من الصعوبة والعناء، وتتعدد طرق إيصال خبر ثبوت رؤية هلال شهر رمضان فتستخدم الخيل أو الجمال للتنقل السريع بين المناطق والقرى المجاورة التي بدورها تبلغ ما يليها من قرى بذات الطريقة او بإطلاق الاعيرة النارية ان توافرت أيضا، كما يتم اشعال النار في رؤوس الجبال والتلال العالية في بعض المناطق كأسلوب متعارف عليه في بعض ارجاء نجد.

والطريف ان العديد من المناطق الواقعة في أعماق الصحراء والجهات المقطوعة او التي لا تقع على طرق المرور القديمة كانت تعاني عدم وصول خبر رؤية الهلال في المناطق الأخرى، لذا فقد وقع بعض سكان نجد قديما، خاصة البدو الرحل، تحت وطأة عدم ثبوت الرؤية، وعدم وصول خبر الرؤية من المناطق الأخرى.

فكان لا يصلهم خبر ثبوتها في مناطق أخرى الا صباح او ظهر اليوم التالي او حتى عصره فيمسكوا عن الطعام والشراب من لحظتهم ويتموا صيامهم الى المغرب على ان يقضوه بعد ذلك، وتتكرر نفس الحالة في ليلة ثبوت هلال العيد، حيث يبقى البعض صائما الى ضحى او ظهر يوم العيد لعدم معرفته بثبوت الرؤية عند الآخرين، ثم يفطر عند وصول الخبر، ويبدأ بتبادل التهاني مع الآخرين بما تبقى من اليوم.

 

أعمال رمضانية

 

انصب اهتمام النجديين قديما على المسائل العبادية، مثل تنظيف وانارة المساجد بشكل خاص، فتجد العديد من أهالي المنطقة يحضرون السرج والفوانيس المملوءة بالزيت لينيروا بها المساجد فيقتلوا وحشة الليل وظلمته لإيناس السابلة ومعاونة المتهجدين والعباد على أداء أعمالهم براحة وطمأنينة، وتكثر قرب الماء الموضوعة عند أبواب المساجد قبل الفطور، للمشاركة في إفطار الصائم وإطفاء ظمأ السابلة.

ومعروف ان القرب المصنوعة من جلد الأغنام او الماعز تستخدم في نجد لحفظ الماء وتبريده، ومن عجائب وصايا النجديين ان بعضهم كان يوصي بوقف جلود الاضاحي الخاصة به وتجهيزها قربا تملأ بالماء وتوقف للمساجد في شهر رمضان.

كما ان بعض سكان القرى النجدية كان يوقف نخلة او اكثر لإفطار الصائم، وكان يوضع ثمرها إن اتى شهر رمضان في موسم الثمر عند باب المسجد، بما كان يعرف في تلك الفترة بعشا رمضان، واعتنى النجديون القدامى بإفطار الصائم والاهتمام به رغم ضيق ذات اليد، حتى بلغ من هجاء الشاعر حميدان الشويعر لأحد التجار الذين عرفوا بالبخل إذ قال:

تاجرٍ فاجرٍ ما يزكي الحلالْ

لو يجي صايم العشر ما فطَّرهْ

وعرف النجديون بارتيادهم للمساجد للصلاة خاصة في العشر الاواخر من شهر رمضان، حيث يقرأ الامام ما تيسر من محفوظاته، وان كانت قليلة، حيث كان التعلم والتعليم في نجد نادرا في الماضي، ولم يكن قراء القرآن وحفظته في نجد كثيرين.

وتعود بعض الموسرين على استقدام بعض حفظة القرآن من قرى ومناطق أخرى لإمامتهم في المساجد المجاورة لبيوتهم في الصلوات اليومية وصلاتي التراويح والقيام طوال شهر رمضان المبارك، كما يلتزم هؤلاء الموسرون عادة بإقامة موائد إفطار في نفس المساجد لإفطار عابري السبيل وبعض المعوزين والفقراء من اهل الحي او المنطقة، كما كان بعض الأغنياء يشتركون معا في مائدة واحدة كنوع من التآلف والتقارب. 

 

رمضان في الصيف

 

لم يكن حال نجد القديمة كما هو حالها الآن من سهولة حياة ورغد عيش وتطور وعمران في معظمها، بل كانت صحراء قاحلة شديدة البرد شتاء وشديدة الحر صيفا، يعاني أهلها الفقر والعوز، وحين يأتي شهر رمضان في القيظ فإن الناس تعاني مع الصوم اشد العناء.

ومع شدة الحرارة وضيق ذات اليد والعناء اليومي في سبيل توفير قوت الأولاد والاسرة يواجهون الكثير من المشاكل والمصائب بسبب الصيام وعدم قدرتهم على تحمل العطش في جو صحراوي شديد الحرارة، واحد الحلول التي كانوا يتغلبون بها على هذه المشاكل هو فتاوى جواز الإفطار لبعض الضرورات كالنوازل والامراض والاوبئة والحروب، وكلها تحتاج الى جهود استثنائية يتم الاستقواء عليها بالافطار والارتواء بالماء وتناول بعض الطعام لدفع الضرر والبلاء ما امكن.

ومن الأمثلة لذلك ما أورده الباحث عبدالحكيم العواد في بحثه {رمضان في نجد القديمة} ان المؤرخ ابن يوسف ذكر في مخطوطته التاريخية انه في العام السابع بعد المئة والألف الهجرية قام الشريف سعد بن زيد امير الحجاز بحصار اشيقر في 21 رمضان، ووضع شروطا لفك الحصار، فماطلوه حتى اتموا حصاد زروعهم، بعد ان افتى فقيه أشيقر وقاضيها احمد بن محمد القصير بجواز الإفطار في تلك السنة للاستقواء على الحصاد، ما جعلهم يصمدون على الحصار مدة من الزمن، حتى يئس الشريف سعد من إمكانية استسلامهم أو رضوخهم، وغادر الى دياره دون ان يحصل منهم على شيء.

ووجدت للقاضي ابن ذهلان فتوى تجيز لبعض النجديين العاملين الإفطار في القيظ، للاستقواء على أداء أعمالهم، كالحطاب والحشاش والحصاد والدايس والشمّال والكالف والذاري، وبعض أصحاب المهن الأخرى الشاقة التي كان بعض النجديين يمارسونها، على ان يقضوا صيامهم بعد انتهاء موسم عملهم او في الشتاء او اطعام بعض المساكين والفقراء ككفارة للافطار ان لم يوفقوا في صوم أيام أخرى.

 

المائدة النجدية

 

كان النجديون القدماء يكثرون من شرب المريس عند الإفطار والسحور، لظنهم انه يطفئ العطش ويساعد على تحملهم حر النهار، ويمدهم بالطاقة والقوة على الصيام، والمريس مشروب حلو يحضر بتنقيع التمر بالماء لفترة ثم تصفيته ليكون اشبه بالعصير، ويضيف له البعض، خاصة كبار السن، الاقط المطحون لاعطائه نكهة الحموضة المحببة لدى كبار السن.

لكن المشروب الأول عند النجديين هو الحليب واللبن، سواء حليب النوق او لبن الأغنام، كما ان الطعام الأول الذي يتناوله النجدي في الإفطار هو التمر، لكن إقليم نجد تميز ببعض الأطعمة المحلية بشكل خاص دون بقية أقاليم الجزيرة العربية كالحنيني الذي يوضع في الفطور كنوع من الحلويات، وتصنعه بعض النجديات الماهرات من عجين القمح الذي يضاف بعبيط التمر كالسكري او المكتومي ويصنع على شكل أقراص على النار الصافية كنار الرمث.

وتعود النجديون ان يفطروا على التمر واللبن او الحليب او الماء، ثم ينهضون من السفرة للصلاة، وعادة ما يأكل الرجال والأولاد معا، والنساء والبنات معا ايضا، حيث لا يجتمع الرجال والنساء على مائدة واحدة الا نادرا وفي حدود ضيقة، ويعود الجميع الى الأكل مرة أخرى بعد الصلاة.

ويعتبر العصيد اهم الاكلات الرمضانية التي يحبها الصائم هناك، وهي تصنع من طحين الذرة والماء والبصل، ويتم وضعها فوق نار هادئة، وتحريكها بعصا حتى تنضج وتأخذ حالة من الليونة، كما عرف النجديون العديد من الاكلات البسيطة في موادها وطرق تحضيرها، مثل الحويس والعفيس والدعيكة والخلاصة التي يتم تحضيرها من خليط التمر والدهن الذي يطبخ مع الدقيق.

لكن الحيس، وهو من الاكلات النجدية المشهورة تاريخيا، وينسب لبني حنيفة القدماء، فهو اكلة الموسرين، ولم يكن في متناول الناس البسطاء في عموم مناطق نجد الحضرية والقروية، ويصنع من التمر والقمح والاقط والدهن، ويشبه الحنيني كثيرا لكنه يعتبر النوع الفاخر منه ان جاز الوصف.

 

   

*كاتب وباحث كويتي

أبو موسى النجدي

لم تكن الحياة في نجد سهلة او ميسرة أبدا، فقد كان القحط يعم ارجاءها لسنوات متتالية، كانت الناس تعاني شظف العيش ووطأة الفقر، فمنهم من يهاجر الى أقاليم وبلدان مجاورة او بعيدة طلبا للرزق وسعيا لتوفير مستلزمات البقاء وأسباب الحياة لأسرهم.

وقد تكون هذه الهجرة جماعية تشمل الاسرة جميعها او تقتصر على رب الاسرة او كبار الأولاد، حيث يغيبون عاما او اكثر ليعودوا وقد جلبوا معهم ما وفروه لأسرهم من مأكل وملبس في مناطق الغربة، اما الذين يصرون على البقاء في وطنهم ويكافحون بما يستطيعون من قوة فإنهم يعانون صعوبة الحياة وشدتها ويقاومون العوز والفقر الذي أسماه النجديون (أبو موسى) لطول ما عاشروه وخبروه وطول ما رافقهم وصبغ حياتهم واحوالهم بصبغة الكفاف وربما الجوع والحاجة.

لذلك لم تكن مائدة رمضان في نجد تتميز عن بقية الشهور إلا قليلا، حيث محدودية القدرة الشرائية للأسر النجدية وقلة المواد الغذائية المتوفرة، لكن ما كان يميز الشهر الكريم نظام الاكل والصوم والأعمال العبادية التي تصاحبه وفرحة الصغار به وبالعيد الذي يليه، والاجتماعات الاسرية والسهرات الليلية، والاهتمام بالإضاءة واستعمال الفوانيس او السرج بكثرة، وهي جميعها أحوال مرتبطة برمضان وتتوقف بانقضاء أيامه ولياليه.

مناطق نجد

كانت قرى ومناطق إقليم نجد في الماضي متمايزة في ما بينها في أنماط الحياة والمأكل وربما الملبس أيضا، وعرفت بعض القرى والمناطق بقسوة الحياة خاصة الصحراء الممتدة من شمال جبل طويق وشماله الغربي باتجاه الشمال، وهي المنطقة المعروفة الممتدة بين النفود وبادية العراق الجنوبية والكويت والحجاز وطويق، حيث الصحراء القاحلة وندرة الزراعة. 

وتعودت التجمعات القروية والقبلية المقيمة في هذه المنطقة الشاسعة على التسوق وشراء حاجاتها من الأسواق القريبة منها كالكويت والخميسية وسوق الشيوخ والزبير وحفر الباطن عند الضرورة، بعد ان يكون المتسوقون قد باعوا بضاعتهم من أغنام واصواف وبعض المنتجات كالدهن والاقط وربما الفقع ان كان موسم الامطار جيدا.

ويعتبر الغزو مصدرا رئيسيا للدخل عند بعض افراد القبائل البدوية الرحالة وبعض القرويين ممن لهم أقارب في الغزاة او صلات معهم، لكن هؤلاء تعودوا على التوقف عن الغزو في شهر رمضان احتراما للشهر الكريم وحرمته.

اما بعض قرى طويق، الواقعة شمال الرياض كالدرعية والعيينة وبعض القرى التي تقع جنوبها وشرقها، فكانت احوالهم المعيشية افضل قليلا من المناطق السابقة، حيث توجد البساتين في معظمها وبعض الزراعات الهامة كالخضراوات الموسمية المتنوعة والنخيل، ما كان يوفر نوعا من الاكتفاء الذاتي لساكني هذه المناطق.

كما كان يمكن لمن يرغب في التسوق هناك التوجه الى الاحساء وبعض مناطقه الساحلية وشراء بعض الاحتياجات غير المتوفرة، وقد كان أهالي المناطق الوسطى والشرقية من نجد يستعدون لرمضان مبكرا في شراء حاجاتهم وتجهيز منازلهم للشهر الكريم.

back to top