انسَ الفحوص الدورية !

نشر في 27-06-2015 | 00:01
آخر تحديث 27-06-2015 | 00:01
No Image Caption
منذ أربعينيات القرن الماضي، يُعتبر الفحص السنوي الشامل أحد أسس الصحة الجيدة. فكل سنة، يبعث الأطباء العامون برسالة واحدة إلى مرضاهم: حان وقت معاينتك الدورية. ولكن في المجالس الخاصة، لا على العلن، يعتبر أطباء كثر أن الفحص السنوي أشبه بإمبراطور لا يرتدي أي ملابس، ولا حتى رداء مستشفى. اسأل طبيبك عما إذا كان هو يخضع لفحص دوري. يقول الدكتور إزيكيال إمانويل، عالم أخلاق حيوية في جامعة بنسلفانيا: {لا شك في أن من الخطأ إنفاق مليارات الدولارات على أمر نملك أدلة جيدة تبرهن أنه لا يجدي نفعاً}.
قد تبدو لك المعاينة الطبية الدورية فكرة لا ضرر فيها تساعدك في تفادي المخاطر. ولكن ما من أدلة تثبت أنها تحسن الصحة، بل العكس قد يكون صحيحاً.
بعد تتبع نحو 60 ألف شخص طوال عقد، أفاد باحثون في الدنمارك السنة الماضية أن الفحوص الدورية لا تأثير لها في تفادي الأمراض القلبية الوعائية أو الموت. تلت هذه الدراسة تحليلاً واسعاً عام 2012 شمل 182 ألف شخص وتوصل إلى الخلاصة عينها: من المستبعد أن تنقذ الفحوص الدورية الحياة أو تحول دون الإصابة بمرض. في الوقت عينه، نصح فريق عمل خدمات الصحة الوقائية الأميركي، مجلس مستقل يتألف من خبراء صحة، أن على الناس تجاهل إجراءات متبعة خلال الفحص الدوري (منها تخطيط كهربية القلب وفحص المستضد البروستاتي النوعي PSA لسرطان البروستات). أما نظيره الكندي فنصح بتفادي الزيارات الطبية السنوية أساساً.

رغم ذلك، يخضع الملايين من الناس الأصحاء في كل بلد لفحوص طبية كل سنة، مستنفدين موارد العناية الصحية القليلة ورافعين أقساط التأمين الصحي. لذلك ينشأ السؤال: لمَ نخضع لفحوص سنوية؟

علينا أن نعود إلى مطلع القرن العشرين، حين أقنع الطبيب يوجين ليمان فيسك قطاع التأمين على الحياة بأن الناس الذين يزورون الطبيب بانتظام يتمتعون بصحة أفضل ويشكلون مصدر خطر أقل بالنسبة إلى شركات التأمين، وفق نورتن هادلر، برفسور فخري متخصص في الطب في جامعة كارولاينا الشمالية ومؤلف كتاب Worried Sick.  

بحث عن الاضطرابات

لكن طرق البحث التي اعتمدها فيسك كانت بدائية، ولم يتمكن أحد من تكرار النتائج الإيجابية التي توصل إليها. رغم ذلك، تحولت الفحوص الدورية إلى أمر مهم في المجال الصحة العامة. وبحلول ستينيات القرن الماضي، كانت المختبرات قد طورت طرقاً آلية عالية السرعة لإجراء فحص الدم بحثاً عن شتى الاضطرابات. وهكذا ولدت المعاينة الطبية السنوية التي نعرفها اليوم. قد تشمل هذه المعاينة دردشة قصيرة مع الطبيب، الصعود إلى الميزان، قياس ضغط الدم، وربما الخضوع لتخطيط كهربية القلب، ومن ثم نخضع لسحب دم يُرسل إلى المختبر كي نحصل على أرقام بشأن شتى المسائل من الكولسترول إلى وظائف الكلى والكبد، فضلاً عن مخاطر سرطان البروستات.

أصبح الذهاب إلى الطبيب أشبه بأخذ سيارتنا إلى الميكانيكي لتغيير الزيت والتحقق من سلامة الدواليب، وفق هادلر. ويضيف: {كلما فُحصت الدواليب، ظن الجميع أن الفحص السنوي سيكون أفضل}.

ولكن بخلاف السيارات، يستطيع الجسم شفاء ذاته. وعندما يحاول الطبيب اكتشاف وعلاج إشارات المرض الأولى، تكون النتائج سلبية أكثر منها إيجابية. يوضح غيلبرت ويلش، بروفسور في معهد دارتموث للسياسة الصحية والممارسات السريرية ومؤلف كتاب Less Medicine, More Health: {نعاني كلنا من مواضع خلل، لذلك تكشف تقنياتنا التشخيصية شتى الاضطرابات، ما يؤدي إلى مزيد من الفحوص والوصفات الطبية والإجراءات. لكن خطوات مماثلة قد تجعل الناس مرضى}.

كيف يحدث ذلك؟ يقول سانديب جوهار، طبيب قلب في نيويورك له كتاب Doctored: Disillusionment of an American Physician: {يتدرب الأطباء على الشعور بالانزعاج حيال أي مسألة غير أكيدة}. ومن الأمثلة التي يصادفها جوهار عادةً إخفاق مرضى لا يعانون أي تاريخ مع مرض أو اضطرابات القلب في اختبار الجهد. قد تكون هذه النتائج خاطئة. رغم ذلك، ينصح الأطباء بإخضاع المريض لقثطرة قلبية، تفادياً لأي حالة كامنة، إلا أن هذا إجراء غازٍ قد يسبب العدوى. يضيف جوهار موضحاً: {يخبرك كل طبيب أعرفه قصصاً عن مشاكل بسيطة تفاقمت وأدت إلى شتى المضاعفات لاحقاً. وهذا هو الوجع الذي يقلقني حقاً في الفحوص الطبية الدورية: الفحوص غير الضرورية}.

فحوص السرطان

تكمن المشكلة في أنك عندما تنظر عن كثب إلى ما يحدث خلال عملية الفحص، تدرك أن الجزء الأكبر منها غير ضروري. وتُعتبر فحوص السرطان خير مثال على ذلك. تشكل هذه الفحوص أحد الأسباب المهمة التي تجعل الناس يعتقدون أن عليهم زيارة عيادة الطبيب، حتى لو لم يشكوا من أي خطب. لكن المسألة ليست بهذه البساطة. يُعتبر الخضوع لفحص القولون مرة كل عشر سنوات فكرة سديدة. لكن إجراء هذا الفحص بوتيرة أكبر لا يؤدي إلى أي فوائد إضافية. أما فحص المستضد البروستاتي المناعي (PSA)، الذي ما زال يشكل جزءاً من المعاينة الدورية السنوية، فهو اختبار ذو وجهين، نظراً إلى خطر الحصول على نتيجة إيجابية خاطئة والخضوع لعلاج غير ضروري. ويُقدر ويلش أنه مقابل كل حالة وفاة قد تنجم عن سرطان البروستات يتفاداها الأطباء من خلال التشخيص المبكر والعلاج، يُعالج نحو 50 رجلاً بلا داعٍ، حتى إن ثلث هؤلاء يتعرض للأذى نتيجة ذلك. في المقابل، البحث عن المراحل الأولى من سرطان الخصيتين ما عاد يُنصح فيه لأن نجاح العلاج في المراحل الظاهرة اللاحقة كبير جداً. وهكذا تتفادى احتمال إلحاق ضرر بخصية سليمة بسبب عملية أخذ الخزعة. في الواقع، ثمة فحص سرطان واحد يمكننا أن نجزم أنه ينقذ بالتأكيد حياة كثيرين: المسح المقطعي للرئتين في حالة المدخنين.

حتى الفحوص الأقل خطورة قد تسبب مشاكل. لنتأمل في قياس ضغط الدم مثلاً. من الجيد، بالتأكيد، معرفة ما إذا تُصنف ممن يعانون ارتفاع ضغط دم طفيف، بين 140 و159. ولكن إن كانت هذه حالتك، فسينصحك الطبيب على الأرجح بتناول أدوية ارتفاع ضغط الدم (حبوب قد تسبب التعب، الإغماء، ألماً في الصدر، وغيرها من التأثيرات الجانبية)، مع أن الأبحاث الأخيرة أظهرت أنها لا تساهم في الحد من خطر الإصابة بنوبة قلبية أو سكتة دماغية. وينطبق الأمر عينه على الكولسترول. من المؤكد أن ارتفاع الكولسترول السيئ يشكل أحد عوامل الخطر التي تعرض المريض لنوبة قلبية، إلا أن عامل الخطر هذا ليس بالأهمية التي قد تخالها. رغم ذلك، يسارع الأطباء إلى وصف أدوية الستاتين، مع أن ريتا ريدبيرغ، طبيبة متخصصة في طب القلب الوقائي في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو تقول: {قد تحول هذه دون حدوث بعض الوفيات جراء التعرض لنوبة قلبية، إلا أن احتمال أن تسبب عوارض جانبية سلبية، مثل ألم العضلات، فقدان الذاكرة، والداء السكري، يظل أكبر بكثير}.

نتائج غير مفيدة

تؤكد ريدبيرغ أن الأطباء يستطيعون الترويج للصحة الجيدة بفاعلية أكبر {بطرح أسئلة بسيطة غير جذابة غالباً ما ترددها أمك على مسمعك}. ما النظام الغذائي الذي تتبعه؟ كم تتمرن؟ هل تواجه صعوبة في النوم؟ أما بالنسبة إلى الفحوص الأكثر تطوراً المتعلقة بوظائف القلب في حالة مَن يُعتبر خطر الإصابة بمرض القلب منخفضاً في حالتهم، مثل تخطيط كهربية القلب الشائع الاستعمال، فقد تؤدي هذه على الأرجح إلى علاجات غير ضرورية أكثر منه إلى كشف عيوب مخفية تحتاج إلى إصلاح. تُظهر الدراسات أن المرضى الذين يحظون بنتائج إيجابية خلال فحص كهربية القلب ينتهي بهم المطاف إلى وضع دعامات في الشرايين أو مجازة تاجية شاملة، مع أن هذه الإجراءات الخطرة لا تحد من خطر التعرض لنوبة قلبية في حالة المرضى الذين لا يعانون أي عوارض.

أخيراً، نصل إلى فحوص أيضية التي تتعلق بوظائف الكبد والكليتين. إن كنت تتمتع بصحة جيدة، ولا تتناول أي أدوية دائمة، تُعتبر هذه النتائج المخبرية من دون فائدة، فضلاً عن أنها معقدة جداً. يوضح مارك إبيل، طبيب متخصص في علم الأوبئة وطبيب عام يشارك في فريق عمل الخدمات الصحية الوقائية الأميركي: {ستحصل على مجموعة من الاختبارات لنحو 20 مسألة. وبمحض الصدفة، ستكون إحدى هذه القيم غير طبيعية}. قد يشير الفحص الأيضي إلى تلف في الكبد بسبب إدمان ما، إلا أن الحديث الصادق بين الطبيب ومريضه قد يؤدي إلى المعلومات ذاتها.

إذاً، هل يعني ذلك أن عليك الامتناع عن إجراء كل الفحوص وعن زيارة الطبيب، إلا عندما تعاني المرض؟ هذه مقاربة إزيكيال إمانويل الشخصية التي روج لها في مقال مثير للجدل نُشر في  صحيفة {نيويورك تايمز}، إلا أنه ليس مستعداً لأن ينصح بها الجميع. لكنه يقترح أن يؤجل  الرجال الأصحاء زيارات الطبيب الدورية إلى أن يبلغوا أواخر عقدهم الخامس، حين تزداد المخاطر الصحية. ويقول: {يوفر عليك هذا عقدين إلى ثلاثة عقود من المعاينات الطبية السنوية}. ولا شك في أن الشخص العملي يفكر في ضرورة زيارة الطبيب عدداً كافياً من المرات. وهكذا إن مرض أو عانى عوارض غير طبيعية، يستطيع الاتصال بطبيب يعرف على الأقل اسمه وتاريخه الصحي. يوضح ويلش: {يجب أن تشكل زيارات الطبيب فرصة لتبادل المعلومات أكثر منها للمعاينة}. ولكن في النهاية يعود القرار لك، حتى لو كان هذا القرار عدم الذهاب إلى الطبيب مطلقاً.

فحوص يجب تفاديها

فكر جيداً قبل الخضوع للفحوص التالية، إن كنت لا تشكو من أي مشاكل صحية وتتمتع بصحة جيدة.

الفحوص الأيضية: تتناول الفحوص {الكيماوية السبعة} سبع مسائل ترتبط بوظائف الكبد والكليتين. أما الفحوص {الشاملة}، فتتناول عشرين مسألة أو أكثر. لكن مارك إيبيل، طبيب متخصص في علم الأوبئة، يؤكد أن هذه الفحوص لا تؤدي مطلقاً إلى بيانات مفيدة.

تخطيط كهربية القلب: يقيس هذا الفحص نشاط القلب الكهربائي. ولكن إن كنت لا تعاني مشاكل قلبية، يكون هذا الفحص الذي يُدرج عادةً في المعاينات الدورية، غير ضروري.

فحص الدهون في الدم:

لا ضرر في معرفة معدل الكولسترول السيئ في جسمك، مع أن للأطباء عادة سيئة، إذ يسارعون إلى وصف الستاتينات. يجب أن يدفع ارتفاع معدل الكولسترول السيئ المريض إلى تبديل نمط حياته. بالإضافة إلى ذلك، لا يشكل هذا مصدر قلق إن كان الشخص سليماً، وفق الخبراء.

فحص المستضد البروستاتي النوعي PSA:

بسبب خطر الحصول على نتائج إيجابية خاطئة والتعرض لعلاج مؤذٍ غير ضروري، فمن غير الحكمة الخضوع تلقائياً لفحص المستضد البروستاتي النوعي خلال المعاينة الطبية الدورية. قيم مع طبيبك ما إذا كنت تحتاج إلى فحص مماثل. فيُعتبر نحو 40% من الإجراءات الناجمة عن فحوص مماثلة غير ضرورية، وفق تقرير نُشر في مجلد نيو إنغلاند للطب.

فحوص يُفضل الخضوع لها

أربعة فحوص قد تبقيك في حالة صحية جيدة:

كل سنتين

• اختبار الهيموغلوبين الغليكوزيلاتي A1c:

يقيس هذا الاختبار كيفية معالجة الجسم النشويات، وهو أكثر فاعلية من فحص الغلوكوز في الدم الشائع. يجب أن تتراوح النتيجة التي تسجلها بين 4.8 و5.6. أما إذا كانت النتيجة أعلى، فهذه إشارة إلى ضرورة الحد من استهلاكك السكر. اخضع لهذا الفحص الآن إن كنت تعتقد أن معدل السكر في دمك غير طبيعي (تشعر مثلاً بدوار أو تشوش فكري بسبب نقص السكر في دمك أو تعاني من زيادة غير مبررة في الوزن).

• اختبار البروتين التفاعلي C عالي الحساسية (hs-CRP):

إنه اختبار عام للمؤشرات الالتهابية في الدم. تتراوح الكميات على مقياس من 1 إلى 3. وتشير أي نتيجة تتخطى 2 إلى معدلات التهاب عالية (ما يمهد لمعظم الأمراض المزمنة)، وإلى الحاجة إلى تبديل النظم الغذائية وممارسة التمارين الرياضية. اخضع لهذا الفحص في الحال إن كنت تعاني تأثيرات الالتهاب العالي الجانبية، مثل التعب الدائم، الاضطرابات الهضمية، زيادة الوزن.

• فحص الفيتامين D:

 يؤثر تراجع معدل الفيتامين D في شتى الأمور من المزاج إلى القلب والدماغ والصحة الأيضية. لذلك اسأل طبيبك أن يخضعك لفحص 25-هيدروكسي فيتامين D للتأكد من أن معدلاتك 20 ميكروغراماً/مليلتر أو أعلى.

مرة كل عقد

• تنظير القولون:

يُعتبر سرطان القولون ثالث أكبر سبب للوفيات الناجمة عن مرض السرطان. ولا شك في أن هذا الفحص يحد من الخطر. يجب أن تخضع لتنظير القولون مرة في سن الخمسين، ثم الستين، فالسبعين. ولكن لمَ مرة واحدة كل عشر سنوات؟ بما أن سرطان القولون ينمو ببطء، فحتى لو خضعت للفحص في سن الخمسين وبدأ السرطان بالنمو في سن الحادية والخمسين، يتبقى أمامك وقت لاكتشافه ومعالجته مع تحقيق نتائج إيجابية ذاتها. قد لا يبدو هذا منطقياً، إلا أن الأبحاث تُظهر أن النتائج الصحية ليست أفضل إن خضع المرضى لفحوص سرطان القولون مرة كل خمس سنوات، مقارنة بمرة كل 10 سنوات.

back to top