الكاتب التركي أورهان باموق: التحرير وإعادة التحرير سر الكتابة
منذ أن فاز الكاتب التركي أورهان باموق بجائزة نوبل في عام 2006 (عن كتابَي My Name Is Red وSnow)، تابع كتابة عدد من أفضل أعماله المدهشة ودعّمها بمشاعر الحنين إلى مدينته الأم اسطنبول. بدءاً من مذكرته الانطباعية Istanbul: Memories and the City وصولاً إلى كتاب The Museum of Innocence، يصور باموق بكل حب تاريخ بلده الحديث من خلال أحياء اسطنبول المتغيرة. تُعتبر أحدث رواية له، A Strangeness in My Mind، مشروعاً طموحاً أيضاً: تمتد على أربعة عقود وتروي قصة بائع متجول بعيد عن عصره وعائلته ولكنه ينجح في إيجاد درجة من السلام ليلاً من خلال بيع {البوزا} (مشروب تركي مصنوع من الشعير) أثناء تنقله من باب إلى آخر. يشاهد كيف تتحول اسطنبول، وتركيا كلها، أمام عينيه فتتهدم المنازل المتهالكة وترتفع مكانها ناطحات سحاب معاصرة وينشأ أمامه المشهد الذي يحلم به: {التجول في المدينة ليلاً يشعرني بأنني أتجول داخل عقلي}!تحدّث {غودريدز} إلى باموق عبر الهاتف عن العالم الخفي الذي يعيش فيه بائعو مشروب البوزا (كتب: {الباعة المتجولون أشبه بطيور مغرّدة في الشوارع. هم حياة وروح اسطنبول!})، لأنني أردتُ أن أكتب من وجهات نظر متعددة وأذكر أصغر التفاصيل المهمة التي تحرك رواياته.
أحدث رواية لك، A Strangeness in My Mind، أشبه بملحمة جديدة عن اسطنبول وتركيا وتطرح أيضاً رؤية دقيقة من الشارع. لماذا قررت أن تسرد هذه القصة من خلال البائع المتجول ميفلوت كاراتاس؟لا تتعلق الروايات حصراً بالمفكرين المنتمين إلى الطبقة الوسطى العليا أو بحياة الطبقة الوسطى. هذه المرة، أردت أن أشاهد مدينتي بعيون بائع متجول من الطبقة الدنيا. حين بدأتُ أفكر بالرواية، سألتُ نفسي: من أين يأتي هذا الشاب؟ وبعد أن قمت بأبحاثي ومقابلاتي مع الناس مباشرةً، أدركتُ أن جميع باعة اللبن ومشروب البوزا جاؤوا إلى اسطنبول خلال الخمسينيات والستينيات من المنطقة نفسها. إنه عامل أساسي بالنسبة إلى الوافدين، بغض النظر عن طبيعة عملهم: إذا كان الشخص ناجحاً، سيدعو شخصاً آخر للانضمام إليه، والأخير سيدعو نسيبه وهكذا دواليك... لذا أردتُ أن أكتب عن الأشخاص الذين يبنون منازلهم بأيديهم، على الأرض التي ترتفع فيها اليوم ناطحات سحاب، بعد مرور 50 أو 60 سنة. أردت أن أسرد هذه القصة الملحمية من دون أن أنسى أنّ أصعب جانب لا يتعلق بالتحدث مع الناس وتصحيح الوقائع. المهم هو تجسيد النزعة الفردية في شخصية القصة الأساسية.هذا هو المغزى الحقيقي!تجسد الرواية أيضاً مدينة اسطنبول متعددة اللغات التي تأثرت، كما تقول، بموجات من المهاجرين واللاجئين. ربما أردت أن تعكس هذه الفكرة حين ألّفت كتاباً يشمل مجموعة من الأصوات التي تحمل وجهات نظر متبدلة وآراءً متنوعة.نعم، عبّرتُ على الأرجح عن الجانب المرتبط بعصر ما بعد الحداثة فيّ! قررتُ أن أكتب هذه الرواية بأسلوب الروائي ستندال التقليدي من القرن التاسع عشر. لكن بعد إجراء مقابلات كثيرة مع باعة متجولين وشخصيات سياسية وأفراد آخرين، أدركتُ أن صيغة الغائب لا تكفي لبث حس الواقعية الذي أردته وتجسيد أصوات وألوان هذا العدد كله من الناس. لذا قررتُ أن أستعمل أصوات صيغة المتكلم في هذه الرواية التقليدية من القرن التاسع عشر للتلاعب بأحداث الكتاب بما يضمن أن تبقى القصة متماسكة رغم طرح وجهات نظر متعددة. ما الذي يمنع إضافة نفحة من التميّز؟أنت تذكر صفات الكتاب في عصر ما بعد الحداثة. إلى جانب شجرة العائلة والتسلسل الزمني، تضيف فهرساً للشخصيات، كما فعلت في كتاب The Museum of Innocence، وهو أمر غير مألوف في الروايات. أخبرني عن هذه العناصر المضافة.شجرة العائلة معروفة. لكن تتعدد الشخصيات التي ستبدو مربكة بالنسبة إلى القراء الأتراك نفسهم، لذا تساعد شجرة العائلة على قراءة كتاب من 600 صفحة. يرتفع عدد الأنسباء الذين يتزاوجون، لذا من الطبيعي أن يصبح الوضع مربكاً! أما التسلسل الزمني والفهرس، فقد فكرتُ بهما بعد التكنولوجيا الرقمية لأنني اعتبرتُ أن إعداد فهرس مماثل أمر ممكن وغير مكلف. هل تريد قراءة صفحة عن شخصية معينة مجدداً، ما الذي يمنع إعداد فهرس للرجوع إليه؟ ما الخطب في ذلك؟ نحن الروائيون لم نكن مبتكرين بما يكفي كي نستفيد من التطورات التكنولوجية. ما الخطب في إعداد فهرس؟ اعتبر بعض النقاد في تركيا، وعلى الساحة الدولية، أن هذه الخطوة قد تفسد متعة القراءة. لكني أخالفهم الرأي. أظن أن الروايات لا تتعلق حصراً بطرح المواضيع بل بأصغر التفاصيل الجميلة. أهتم برواياتي: أهتم طبعاً بالحبكة لكني أهتم أيضاً بأدق التفاصيل الصغيرة! وأجمع هذه التفاصيل مثلما يجمع البعض المجوهرات أو القطع النقدية الصغيرة.أنشأت متحفاً حقيقياً في اسطنبول استناداً إلى تفاصيل صغيرة وقيّمة موجودة في روايتك The Museum of Innocence.نعم، أنا من الروائيين الذين يهتمون باللحظات والأغراض والتجارب الأدبية وأدق التفاصيل. يجب أن تكون القصة عبارة عن خط يربط بين هذه التفاصيل كلها.ثمة جانب استثنائي آخر في هذا الكتاب وهو يتعلق بتصميم الغلاف المدهش. أنت قمت بهذا العمل الفني أليس كذلك؟لا تخبر أحداً بأنني فنان فاشل!قرّاء مذكراتك يعلمون أنك كنت رساماً قبل أن تصبح كاتباً.صحيح، كما ذكرتُ في كتاب Istanbul: Memories and the City، أردت أن أصبح رساماً في شبابي. لكن في ما يخص غلاف الكتاب، قال لي تشيب كيد، وهو واحد من أعظم مصممي الكتب الأميركيين: {أورهان، هل يمكن أن أرى جزءاً من أعمالك الفنية؟}. ثم أخذ صورة وكبّرها وطلب رؤية المزيد وبدأ يعطيني التعليمات عبر البريد الإلكتروني. أعطيتُه أيضاً العناصر الموجودة الآن على غلاف الكتاب الخارجي. سررت كثيراً بالعمل معه. صحيح أن العمل الفني من صنعي لكنّ التصميم، وهو الأهم، من صنع تشيب.كتبت بأسلوب مؤثر عن جو الكآبة في اسطنبول. هل اختبرت مدناً أخرى خارج تركيا كان لها أثر مماثل عليك رغم اختلافاتها الجغرافية أو الثقافية؟حذرني الكثيرون من أن المدن البرتغالية مثل لشبونة تحمل صفة مشابهة. وثمة أماكن أخرى يشعر فيها الناس بذلك الحزن، وهي الأماكن التي شهدت سابقاً نشوء الإمبراطوريات وأصبحت فقيرة نسبياً اليوم. لكن حين أسافر، أكون سائحاً سعيداً. لا أشعر بالحزن لأي سبب. بالنسبة إلي، إنه إحساس لا يمكن أن يشعر به إلا السكان المحليون ولا يمكن أن يعبّر عنه إلا الكتّاب. إذا كنت تعيش في اسطنبول، ستشعر بذلك! لكن قال لي جيل أصغر من القراء الأتراك إن اسطنبول أصبحت اليوم أكثر تلوّناً وسعادة! منذ عام 1972، على مرّ أكثر من 40 سنة، أصبحت اسطنبول أغنى من السابق وربما فقدت جزءاً من جو الكآبة. من بين الشخصيات الغنية في كتاب A Strangeness in My Mind، أي شخصية كان ابتكارها الأصعب؟البطل الرئيس هو البائع المتجول ميفلوت لأن قوة الرواية تكمن فيه. على مر تاريخ الروايات، ثمة أحكام مسبقة عن صعوبة استكشاف وتطوير الجانب الإنساني لدى شخصية منتمية إلى الطبقة الدنيا. يتم التعامل معها وكأنها شخصيات مليودرامية أو جزء من المفكرين المتواضعين أو المنتمين إلى الطبقة الوسطى. لكننا لا نشاهد جانبهم الداخلي مطلقاً. حرصتُ في هذه الرواية على عدم تطوير أي شخصيات من الطبقة الوسطى. وإذا برزت الحاجة إلى شخصيات مماثلة، يجب أن تنطلق من طبقة أدنى مستوى في البداية. في عمل مماثل، يجب أن تكون مبتكراً ومضحكاً وذكياً جداً. يجب أن تحارب شخصيات القصة وتكشف عن إنسانيتها وتستعمل لغتها الخاصة. لم أشأ أن أكتب رواية تشبه مؤلفات إميل زولا حيث تكون الطبقات الأدنى مستوى جامدة وغير مبتكرة. أردتُ أن أخترع عالماً مبنياً على إنسانية الشخصيات!من وجهة نظر غربية، تتعلّق أكثر الأمور التي أعتبرها مثيرة للاهتمام في كتبك بطريقة تجسيد ثقافة اسطنبول «الشرقية»، وهو أمر يمكن أن يستخف به جمهورك المحلي. مع توسع شهرتك الدولية، وتحديداً بعد فوزك بجائزة نوبل، هل أصبحت كتاباتك أكثر مراعاة لهذه الشريحة الدولية من القراء؟ هل أثرت على أيٍّ من الخيارات التي قمت بها في كتبك الحديثة؟95 % من قرائي الأتراك لا يعرفون شيئاً عن أدق التفاصيل في قصة ميفلوت، أي أصغر التفاصيل عن بيع اللبن والباعة المتجولين وطريقة إدارة المطاعم وانتظار الطاولات وطهو الدجاج والأرز! سأخبرك قصة مضحكة. حين نشرتُ كتاب My Name Is Red، كنت أجري مقابلة في أوروبا، وأتذكر أن أحد الصحافيين قال لي: {يا للعجب! كتابك أشبه بموسوعة من الرسوم والعوامل الثقافية الإسلامية! إنها رواية ممتعة جداً لكن يشعر عدد منا في أوروبا للأسف بأننا نفوّت الكثير علينا لأننا لا نعلم هذه القصص الإسلامية القديمة}. فقلتُ له: {لا تقلق! حتى القراء الأتراك لا يعرفونها!}. ينطبق الأمر نفسه بدرجة معينة على ميفلوت لأن قرائي الأتراك قالوا لي: {يا إلهي! لقد تعلمنا منه الكثير!}.هل يمكنك أن تخبرنا قليلاً عن مسار الكتابة الذي تتبعه؟السر وراء امتهان الكتابة هو الانضباط. أنا مجتهد ومهووس بعملي وأعلم أن الإنتاجية تنمو بدرجة كبيرة بحسب المدة التي نمضيها وراء المكتب. إذا أمضيت ثلاث ساعات وأنت تكتب ثلاث صفحات، يمكنك أن تكتب 30 صفحة خلال 10 ساعات!مع مرور الوقت، تزداد الإنتاجية بنسبة ملحوظة مع أن هذا الجهد يستنزف روحك! أعمل بجهد ولطالما رافقتني القهوة والشاي طوال حياتي! أكتب ثم أقدم ما كتبته لدار النشر التي أتعامل معها. وحين أسترجع النص، أغيّره مراراً وتكراراً! سر الكتابة هو التحرير وإعادة التحرير.قرأتُ أن تجوالك في الشوارع ليلاً كان جزءاً مهماً من عملية الابتكار لديك.نعم، كنت أكتب حتى الرابعة فجراً قبل ولادة ابنتي. في هذا الكتاب، يحمل ميفلوت الكثير من عاداتي الليلية وحب الوحدة، وقد ساعدني تجوالي المتكرر على تطوير شخصيته. أنا وميفلوت نتشارك المخيلة نفسها! طوال حياتي، لا سيما في فترة المراهقة، كان أصدقائي يقولون لي: «لديك عقل غريب!». ثم قرأت يوماً عبارة لويليام وردزورث، وهي واحدة من العبارات المقتبسة في الكتاب: {راودتني أفكار حزينة.../ أفكار غريبة في عقلي/ شعور بأنني لا أنتمي إلى هذا الزمن}، لذا قررت أن أكتب يوماً رواية عن هذه الفكرة. تبيّن أنها قصة ميفلوت، وقد احتجت إلى ست سنوات لتطويرها.مطالعة• هل تريد أن توصي بكتب أو كتّاب للقراء أو أي أعمال كانت مهمة بالنسبة إليك ككاتب؟تعلمتُ الكثير من ويليام فوكنر. أهتم فعلاً بتغير الآراء، ما يعني سرد قصة عبر شخصيات متنوعة والتلميح إلى عدم وجود حقيقة واحدة، إذ يحمل كل شخص حقيقة معينة. أستعمل هذا المبدأ في عدد كبير من رواياتي، حتى إنني أغير قواعدي وأطورها في هذه الرواية.• هل تريد أن تذكر أي كتب معينة من تأليف فوكنر؟كتابا The Sound and the Fury وAs I Lay Dying هما من الكتب المهمة بنظري. لكنهما ليسا من الكتب السهلة! إذا أردت كتباً عظيمة - لا تنس أنني أعطي درساً في جامعة كولومبيا اسمه {فن الرواية}- قد تكون رواية Anna Karenina الأعظم على الإطلاق! أما أعظم رواية سياسية، مع أننا لا نتوقع منها أن تكون سياسية، فهي رواية The Possessed للكاتب دوستويفسكي.• ما الذي تقرأه راهناً؟بدأت للتو أقرأ كتاب Brideshead Revisited لإيفلين واه لأن ابنتي صدمت حين علمت أنني لم أقرأه يوماً! اشترت لي لتوها نسخة وطلبت مني أن أبدأ بقراءتها فوراً! حصد الكتاب إشادة واسعة وسمعتُ أنه عالم بحد ذاته، لذا أشعر بالحماسة كي أبدأ بقراءته أخيراً!