حل الأزمة الروسية - التركية

نشر في 07-12-2015
آخر تحديث 07-12-2015 | 00:01
 أوبزيرفر فتح إسقاط طائرة إف-16 تركية قاذفة قنابل روسية من نوع Su-24 على الحدود السورية التركية، حيث يخوض سلاحَا الجو هذان لعبة "قط وفأر" عالية السرعة طوال أشهر، مرحلة جديدة وخطيرة في الأزمة الدولية التي تعتمل منذ مدة على نار هادئة.

صحيح أن تركيا برئاسة رجب طيب إردوغان وروسيا برئاسة فلاديمير بوتين تشكلان عدوين قديمين، إلا أن هذين البلدين نعمَا خلال السنوات الأخيرة بعلاقات ودية مع تنامي التجارة بينهما وتوافقهما البارز في عدد كبير من المسائل الأمنية، مع أن عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي تعود إلى مطلع الحرب الباردة.

لكن التدخل العسكري الروسي الصريح في الصراع السوري في أواخر شهر سبتمبر دفع بموسكو وأنقرة نحو التصادم، كما بدا جلياً لكل المراقبين الدقيقين. تعتبر تركيا أن ممارستها بعض السيطرة على جارتها سورية، وخصوصاً شمالها الذي تمزقه الحرب، تشكل مصلحة أمنية بالغة الأهمية. وقد أوضحت أنقرة أنها لا توافق على مناورات روسيا هناك. نتيجة لذلك، كان من المتوقع أن تؤدي أساليب بوتين الصلبة والعشوائية المعتادة في العلاقات الدولية إلى التصادم.

كل ما يمكننا تأكيده أن طائرة إف-16 تركية أسقطت طائرة Su-24 تابعة لسلاح الجو الروسي، قاتلة الطيار وجارحة الطيار الثاني في طاقم الطائرة، كذلك قتل الثوار السوريون جندياً روسياً آخر خلال جهود البحث والإنقاذ. تدعي أنقرة أن الروس اخترقوا مجالها الجوي لفترة وجيزة، إلا أن موسكو تنكر ذلك بشدة.

لا شك أن التحقيق الدولي الموضوعي يساهم في نزع فتيل التوتر في هذه المسألة، بيد أن من المستبعد أن يؤيد أي من الطرفين هذه الخطوة. على سبيل المثال، عندما أُسقطت طائرة الركاب الماليزية 17 فوق شرق أوكرانيا في يوليو عام 2014، على يد القوات التابعة لروسية في الغالب، ردّ الكرملين على هذه الحادثة بفيض من الدعاية، بعضها ممكن وبعضها الآخر سخيف.

من المؤسف بالنسبة إلى أنقرة أن بعض ادعاءات بوتين على الأقل صحيح، قد يكون أعوان الكرملين الوحيدين الذين يعتقدون أن لأوباما يداً في عملية الإسقاط هذه، غير أن موسكو لا تتخيل أو تفبرك دعم تركيا السري لـ"داعش" في الحرب السورية، فقد تناقلت أجهزة الاستخبارات الغربية في السنوات الأخيرة الكثير من التقارير عن استغلال النفط في أنقرة، بما فيه نفط "داعش".

لكن اتهامات روسيا ضد تركيا لا تلقى أذاناً صاغية، ولاسيما أن أجهزة الاستخبارات الغربية تقدم تقارير أيضاً عن استغلال روسيا بدورها مبيعات نفط "داعش" غير المشروعة، في حين أن ألعاب تجسس الكرملين المريبة مع عدد من المجاهدين على مر السنين، بمن فيهم تنظيم القاعدة، موثقة بوضوح. إذاً، قد لا تكون اتهامات بوتين الملتهبة مفبركة بالكامل، إلا أن نظامه قام بالمثل تقريباً.

في الوقت الراهن، لا يبدو أي من البلدين مستعداً للانسحاب من هذه المواجهة، ما يجب أن يدفع الجميع إلى القلق،

ويعود جزء كبير من هذه المعمعة إلى تشابهات أساسية كثيرة بين القائدين، فيتمتع كل من بوتين وإردوغان بشخصية صلبة قوية ومصداقية وطنية عالية، وقد نجحا في مزج الإيمان مع القوة الذكورية لحصد تأثيرات سياسية إيجابية، بما فيها الحنين إلى المجد الإمبراطوري الضائع الذي يخيف جيرانهما ويثير استياءهم، كذلك يلاقيان شعبية كبيرة بين الكثير من المواطنين، الذين ينسبون إليهما الفضل في تحقيق تقدمات اقتصادية كبيرة عادت بالفائدة على المواطن العادي، أما خصومهما السياسيون فقد هربوا من البلد خوفاً، في حين يُعتقل الصحافيون والناشطون المنشقون أو يُقتلون في جرائم "غامضة" لا تُحل، علاوة على ذلك استخدم كلاهما غايات شبه ديمقراطية لبناء نظامين غير ديمقراطيين البتة، محققين مكاسب شخصية في هذه العملية.

لا يصعب علينا تمييز الإشارات المقلقة، فلا شك أن المطالبات في موسكو بأن تعيد تركيا آيا صوفيا إلى الكنيسة الأرثوذكسية، بعد أن سيطر عليها العثمانيون عام 1453 مع احتلال الأتراك أخيراً القسطنطينية (اليوم إسطنبول) بعد عقود من المحاولة، ستؤجج مشاعر الأتراك المتعلقين بالتاريخ والذين يملكون منحى إسلامياً على غرار إردوغان.

من المؤكد أن العودة إلى الخلافات الدينية والتاريخية في المطلق أزمة لا تشكل إشارة مشجعة، لذلك من الضروري أن يوضح حلف شمال الأطلسي لأنقرة أن المادة الخامسة (بند الدفاع الجماعي في الحلف) لا يُطبق، إن استفزت تركيا روسيا ودفعتها إلى حرب لا مفر منها، بالإضافة إلى ذلك يجب أن تفهم موسكو أنها لا تستطيع التعامل بتنمر مع دولة عضوة في حلف شمال الأطلسي من دون مواجهة العواقب أيضاً.

إن بدا كل هذا، من المشاعر الوطنية وألاعيب الحدود الخطيرة إلى التحالفات المتشابكة، مشابهاً على نحو مقلق لما شهدناه عام 1914، فلسنا مخطئين البتة، فقد حاولت كمؤرخ أن أتفادى المقارنات السلبية، التي تكون أحياناً غير دقيقة، لكننا لا نستطيع تجاهل أوجه الشبه بين ما يحدث والكارثة التي حلت بأوروبا بعد اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو، ففي تلك الحقبة، كما اليوم، دعمت روسيا طرفاً تابعاً لها مثيراً للقلق (صربيا آنذاك وسورية اليوم) ودفعته إلى مواجهة لا مفر منها مع جارة أكبر حجماً، مما قاد إلى حرب أشمل وأفظع على نحو لا يتخيل عقل.

طوال عقود، سادت نظرة تعتبر الحوادث التي مهدت للحرب العالمية الأولى نوعاً من سوء التفاهم المؤسف، علماً أن هذه سخافة من الناحية التاريخية. في الواقع، اختارت فيينا وروسيا كلتاهما الحرب عمداً، وهما تدركان جيداً أن النتيجة ستكون حرباً واسعة، حرباً لم يستطع أي من النظامين تخطيها، كما تبين، وكما أوضحت في كتابي الأخير Fall of the Double Eagle (سقوط النسر المزدوج)، الذي يتناول بالتفصيل أحداث شهر يوليو المصيري ذاك ونتائجه المريعة، يقدِم القادة السياسيون والعسكريون أحياناً، مع أنهم أناس أذكياء ومثقفون، على أعمال غبية وجنونية تكون لها عواقب مريعة تطول الملايين.

نأمل أن يكون بوتين وإردوغان، بما أنهما يفهمان معنى الحرب (وخصوصاً الحرب النووية المحتملة)، أكثر حذراً من قادة عام 1914، في الوقت الراهن يحاول أوباما لعب دور الوسيط في هذه الأزمة قبل أن تخرج عن السيطرة، حاضاً تركيا على التراجع قليلاً، وعلينا كلنا أن نتمنى له التوفيق، مع أننا نملك أسباباً لنشك في أن أنقرة تأخذ أوباما على محمل الجد، نظراً إلى سجله المتأرجح في المنطقة، وفي مطلق الأحوال علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان العقل أم العاطفة سيسود في سوء التفاهم الخطر هذا بين روسيا وتركيا اللتين شنت إحداهما ضد الأخرى الكثير من الحروب على مر القرون.

* جون شندلر

back to top