لماذا لا يعلن الجهاد «الكفائي» ضد الفاسدين؟

نشر في 26-09-2015
آخر تحديث 26-09-2015 | 00:01
 أنس محمود الشيخ مظهر طالما حاولت المراجع الدينية إيهام العراقيين بأنها بعيدة عن التدخل في الشأن السياسي أو التأثير على مجريات الأحداث السياسية، إلا أن الوقائع بعد 2003 أثبتت أن تاثير المراجع الدينية على العملية السياسية، في خلق الحدث وتوجيهه، أعظم من تأثير الأحزاب السياسية العراقية مجتمعة، وبمختلف انتماءاتها.

فلقد كان للمرجعيات الدينية دور بارز في مباركة وتشكيل ما يسمى التحالف الوطني (الشيعي) الذي ضم أحزاباً وشخصيات سياسية شيعية، ليكون بذلك أول معلم من معالم الاصطفاف الطائفي في العراق، حرص المنضمون إليه على نيل رضا وموافقة المرجعية في القرارات التي اتخذوها، صغيرة كانت أو كبيرة، فقلما اتخذت الحكومة العراقية قراراً دون أن تسبقه زيارات مكوكية لنيل بركات المرجعية.

إن المشكلة المزمنة للعالم الإسلامي مع رجالات دينية ومرجعياته تكمن في نقطتين، الأولى أنهم رغم اقتصار تبحرهم على المجال الديني فقط، إلا أنهم لا يجدون حرجاً في الإفتاء بأي موضوع خارج الدين، فمن الطبيعي جداً أن ترى رجل دين أو مرجعية دينية يخوض في موضوع علمي أو سياسي أو اقتصادي هو أبعد ما يكون عنه، متناسياً أن لكل اختصاص رجالاته وقوانينه، وحتى طبيعة تفكير معينة، وملكات قد لا يتمتع بها حتى وإن درس في معرضٍ ما مبادئ علوم أخرى، فكونه رجل دين لا يعني أنه أصبح مؤهلاً للاختصاصات والعلوم.

الثانية... هالة التقديس التي تحاول المراجع ورجالات الدين إحاطة نفسها بها، وحرصها على خلق حاجز حسي ومادي بينها وبين المسلمين لغرض الحفاظ على هيبتها أمام "العامة" من خلال عدم الاختلاط بالناس، وعدم الظهور في الأماكن العامة أو في الإعلام، وحتى الحرص على عدم نشر صور لها، وهذا يتنافى مع ما كان عليه الأمر في العلاقة بين الرسول، عليه الصلاة والسلام والمسلمين، فقد كان دائماً يحرص على التواجد مع الناس وإلغاء المسافات بينه وبينهم.

 وفي رأيي، فإن السبب الحقيقي في حرص هؤلاء على هذه الهالة هو معرفتهم بأن تماسهم المباشر مع الناس سيظهر قدراتهم المتواضعة وأنهم لا يستحقون هذه المكانة التي يحاولون الظهور بها، ويكفيك أن تسمع أحدهم وهو يخوض في مواضيع خارج اختصاصه الديني لتعرف المستوى الفكري المتواضع الذي يعانيه، فهذا مرجع يقول إن المخابرات الأميركية شكلت قسماً خاصاً لمتابعة أخبار المهدي المنتظر ومراقبة تحركاته، وآخر يقول إن سبب قبول ألمانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى للمهاجرين من العراق وسورية هو أنها دول "عاقرة"، ويشكل لها المهاجرون عمالة رخيصة لتعاملهم كعبيد دون أن يدور بخلد هذا المرجع "الفطحل" أن العمالة الآسيوية أرخص من العمالة السورية والعراقية وأكثر منها كفاءة، علاوة على أنه إذا أرادت أوروبا استيراد عمالة عراقية أو سورية فلا أسهل عليها من إعلان حاجتها إلى هذه العمالة، ليتقاطر عليها آلاف الشباب بشكل أكثر سلاسة ويسر مما نراه الآن. وثالث يخرج على الناس "ليحاكي" بين ما يحصل الآن في المنطقة وبين روايات تاريخية موجودة في مصادره الدينية، ويطابقها ويتخذ على ضوئها مواقف سياسية قد تسفك جراءها أنهار من الدماء، فتصوروا يا رعاكم الله كيف لفكر سطحي كهذا أن تكون له آراء سياسية سديدة تدفع بالبلد نحو الأفضل؟

واعتمادا على ما سبق نستطيع أن نقول إننا أمام احتمالين: -

- إما ان تكون هذه المرجعيات تعي ما تفعله من أخطاء وتتقصده لتكون نتائجه وخيمة على الشعب؟

- أو أنها تفتقر إلى النضج السياسي المطلوب، وبالتالي فأي تحرك سياسي تقوم به ستكون نتائجه سلبية على الشعب.

لا يمكن إنكار أن تدخلات المرجعيات الدينية في العملية السياسية كان لها الأثر الكبير في ما آل إليه الوضع العراقي، فرغم افتضاح موضوع الفساد المالي والإداري الذي تورط فيه أغلب الساسة الموجودين في الساحة، فإن المرجعية استمرت في توجيه الشارع (خاصة في المكون الشيعي) لانتخاب نفس الوجوه أو على الأقل نفس الأحزاب، رابطين الانتخابات بالحالة الإيمانية في طاعة الله أو معصيته، دون اكتراث لما يمكن أن يجره انتخاب هؤلاء من ويلات على الشعب، فمادام السياسي مطيعاً للمراجع فلا يهم كثيراً وضع الشعب، بدليل أن المالكي قد أزيح فقط عندما تمرد على المرجعية، رغم إصرار أطراف دولية وإقليمية على بقائه.

وكذلك لا يمكن إنكار أن محاولات المرجعية فرض رؤاها المذهبية على بقية المكونات العراقية (غير الشيعية) كان لها أثر كبير في زيادة الحنق بين أطياف هذا البلد، فإذا كان الشارع الشيعي مضطراً إلى التجاوب مع أي توجه لمراجعه، فهذا لا يعني أن المكونات الأخرى مطالبة بالخضوع لتوجهاتها.

ولا تتوقف أخطاء المرجعيات عند هاتين النقطتين، بل تتعداهما إلى كيفية تعاملها مع النفوذين الإيراني والأميركي في العراق، ففي الوقت الذي باركت فيه خروج القوات الأميركية من العراق لم تصرح بموقف واحد ضد سيطرة النفوذ الإيراني على البلد، هذا النفوذ الذي تغلغل في كل مفاصل الحياة وكان سبباً رئيساً في زيادة الحس المذهبي وتوتير الحالة الطائفية، التي استطاعت المجاميع الإرهابية استغلالها لتنتهي الأمور بسيطرة "داعش" على معظم المدن السنية... واستمر الأداء السياسي الخاطئ للمراجع حتى بعد دخول "داعش" وتهديده للعاصمة بغداد والمدن في الجنوب، فبدلاً من أن تدعو المرجعية إلى وقفة وطنية أمامها دعت إلى تعبئة الشارع الشيعي وتشكيل ميليشيات لم تستطع تحقيق نصر حقيقي حتى اليوم، بل إن كل ما أنجزته هذه الميليشيات هو توتير الوضع السياسي أيضا، عوضاً عن الوضع الأمني، وأصبحت أشبه بدولة داخل دولة تحاول فرض آرائها السياسية ووجهات نظرها على الحكومة العراقية، وأحيانا تلجأ إلى أسلوب الضغط للقبول ببعض مواقفها، إن هذه الحالة وإن لم تتنبه لها المرجعية الآن، فإنها تمثل تهديداً حقيقياً، لا للمكونات الأخرى فقط، بل حتى داخل المكون الشيعي نفسه، سيدفع ثمنه معارك سياسية أو مسلحة لفرض الإرادات عاجلاً أو آجلاً.

 وبعد أن خرجت التظاهرات في المدن الجنوبية منددةً بما وصل إليه حال البلد من فساد ودمار وتشتت، حاولت المرجعيات الدينية إمساك العصا من الوسط، فأيدت تظاهرات الشعب من جهة، ومن جهة أخرى حاولت تسويق حيدر العبادي على أنه الزعيم القادر على حل مشاكل العراق العويصة.

 إن موقف المرجعية هذا مفهوم وواضح، فهي تحاول الإبقاء على مكاسبها الحالية، وضمانها مستقبلاً في حالة حدوث أي تغيير متوقع، ومادامت مطالب المتظاهرين محصورة في تغييرات شكلية على العملية السياسية دون تهديد لمكانة المراجع، فستكون مقبولة عندها إلى حد ما، إلا أنه إذا وصل سقف المطالب إلى حدود يهددها، فسوف نشهد اصطفاف هذه المراجع مع ساسة المنطقة الخضراء ضد الشعب، كاشفة عن وجهها الحقيقي، وواصفة المتطاهرين بالردة والإلحاد بل والكفر، لذلك فإن الشعب العراقي مطالب باختزال الوقت وعدم إضاعته بمطالب ثانوية، وعليه التركيز على السبب الحقيقي الذي يمنع أي اصلاحات حقيقية، وهو دعم المرجعية للفساد والساسة الفاسدين، وإلا فما يمنع المرجعية من أن تفتي بالجهاد "الكفائي" ضد الساسة الفاسدين مثلما أفتت به ضد "داعش"؟

* كردستان العراق – دهوك

back to top