رمضان في دنقلا

نشر في 08-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 08-07-2015 | 00:01
في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا الى مساحات واسعة من الخيال وفضاءات رحبة من التقرب الى الله بنوايا صادقة.

فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحا وعانقته وجداناً، وكلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة واختلفت طباعا وعادات وسلوكاً.

للجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.

ونحن في بحثنا هذا نحاول ان نعود بالزمن الى الوراء، ونعيد الرحلة في اتجاه المنابع لأن ما تعيشه شعوب اليوم أتى من بعيد، فهناك ولدت الأسرار. نسافر من منطقة إلى أخرى نبحث عن اخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل اخبارا بسيطة مثل اهلها لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول الى الحقيقة التي تشير جميعها الى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.

ودنقلا مدينة سودانية شمالية مسلمة، سكنتها بعض القبائل النوبية المؤسسة ثم وفدت لها العديد من الأسر القادمة من الجهات الأربع، طلبا للرزق والسلامة والجوار الحسن، فكانت مشبعة بالعادات والتقاليد والأصالة التي استلهمت عبق التاريخ.

دنقلا العرضي

حين قام محمد علي باشا حاكم مصر في الربع الأول من القرن الثامن عشر بارتكاب مجزرة القلعة الشهيرة التي فتك فيها بالمماليك، تمكن بعضهم من الفرار بأسرهم وخدمهم النوبيين وأموالهم، واتجهوا جنوبا الى حيث اقترح عليهم بعض الخدم اللجوء الى الوطن الأم.

وعندما استقروا بالقسم المصري من النوبة، ظنوا أنهم نجوا من بطش محمد علي باشا، لكنهم بعد أيام شعروا بخطورة إقامتهم، بعد أن وصلت إليهم بعض الأخبار عن تجهيز محمد علي حملة عسكرية ستتوجه جنوبا لتتبعهم والقضاء عليهم هناك، فلم يكن أمامهم سوى التوجه جنوبا الى ضفاف النيل في شمال السودان، وقد رافقهم بعض النوبيين المصريين، فاستقروا في تلك المنطقة من الجزء الشمالي، وأسسوا قرية دنقلا العرضي التي اتسعت وازداد عدد سكانها وتنوعوا وأصبحت مدينة دنقلا عاصمة الولاية الشمالية، بعد خمسين عاما من تأسيسها.

والدنقل باللغة النوبية الطوب الأحمر المحروق، ودنقلا الاسم الذي ينسب الى الدنقل، أي المدينة ذات الطوب الأحمر، حيث قام من بقي من المماليك ومن رافقهم من النوبيين ببناء جميع بيوت القرية الجديدة من الطوب الأحمر، لتكون بتصميم واحد، إذ لم يتعودوا في القاهرة على البناء بالطوب البني الجاف، بل كانوا يحرقون الطين ويفخرونه حتى يحمر، ليكون أكثر تحملا للماء والأمطار.

ومازال أثر النشأة يرخي بظلاله على دنقلا الى يومنا هذا، غير أن المنطقة التي نشأت عليها دنقلا عرضي لم تكن مهجورة، بل كانت أراضي زراعية شاسعة تقطنها بعض القبائل النوبية، ولها جذور موغلة في التاريخ وشاهدة على قيام العديد من الحضارات القديمة التي ربما تمتد الى آلاف السنين، لكن النشأة الجديدة لدنقلا في عام 1812م وسط بيئة جغرافية تتنفس الحضارة جعلت للمدينة خصوصية حافظت من خلالها على شخصيتها الاعتبارية.

غير أن دنقلا، بعد 9 سنوات من قيامها، لم تسلم من الحرب، إذ دخلتها جيوش مصر بقيادة الخديوي إسماعيل بأمر من محمد علي باشا، للقضاء على المماليك الهاربين اليها، بعد أن التقط إشارات على بعض النوايا السيئة وأوجس منهم خيفة، لكن المماليك كانوا قد علموا بتقدم الجيش المصري نحوهم فاضطروا الى ترك دنقلا واللجوء الى شندي ليسلموا من شره، وقد قدر عدد سكان دنقلا بـ6 آلاف نسمة في عام 1852م.

وسكان دنقلا في الماضي كانوا من عدة قبائل وأسر أهمها الهوارة والجعليين والمحاسنة والشوايفة والسناهرة والعديد من العائلات والقبائل الأخرى بعضها من المصريين المهاجرين هربا من محمد علي باشا، وبعضها من المناطق والقرى السودانية الشمالية، ويسمى سكان المنطقة «دناقلة»، رغم أنه لا يجمعهم جد واحد، وإنما ينسبون الى دنقلا المدينة.

الاستعدادات لرمضان

كانت الأسر الدنقلاوية في الماضي تستعد لشهر رمضان بتوفير ما تحتاج إليه من مواد غذائية بشرائها من أسواق المحاصيل كمواد أولية، ثم تقوم النساء بتجهيزها بطرق بدائية، وأهم هذه المواد الذرة البيضاء أو المريه أرو، أو المريه دقدوق على اختلاف تسمياتها الدنقلاوية، وكان يتم شراؤها قديما من المزارعين، إذا صادف رمضان موسم الحصاد أو من السوق إذا خالف الشهر موسم الذرة.

وتقوم النساء بفرش الذرة في «عنقريب» داخل المنزل ثم تغطى بالخيش لتحتفظ برطوبتها في الشهر الكريم، ويؤخذ منها بقدر الحاجة طوال الشهر. ولا يقتصر تجهيز الحاجات الغذائية على شراء الذرة البيضاء وإن كانت أهم المواد التي تحتاج إليها ربة المنزل في رمضان قديما.

 فقد يقوم الرجال بشراء التمور إذا لم تكن متوافرة بمزارعهم، كما يشترون القمح والأرز والمنتجات الحيوانية، وإن كان بشكل محدود، لأن معظم المنازل كانت لديها المواشي كالأغنام والماعز والأبقار.

كما أن من خصوصية الدنقلاوية في رمضان قديما عملهم أكواخا من القش بجانب النهر تسمى كرقة، وهي بيوت للقيلولة الرمضانية في فصل الصيف فقط، رغم أن فصل الصيف في دنقلا هو أطول الفصول على الإطلاق، إذ عرفت دنقلا على أنها من المناطق الحارة معظم شهور السنة، حيث يكون الجو حارا فترات طويلة، ولا يستطيع الدنقلاوية تحمله في تلك الفترة، خاصة أن الكهرباء وأجهزة التكييف لم تكن متوافرة، وكانت الأعمال اليومية شاقة وثقيلة؛ سواء الزراعية منها أو رعي المواشي.

وعرفت مناطق دنقلا الخارجية بتربية الجمال على وجه الخصوص، كما عرفت بأنها كانت المصدّر الأول للجمال الى شرق السودان وغربها ومصر وليبيا ومالي وتشاد وغيرها.

وكان الدنقلاوية يعومون في النيل في فترة العصر بشهر رمضان، للتقليل من وطأة الحرارة والعطش، ثم يعودوا الى الكوخ أو الكرقة، كما يسمونه، لأخذ قسط من الراحة والنوم أيضا.

أما صناعة الشعيرية فهي إحدى المهام التي تقوم بها ربات البيوت منذ منتصف شعبان، حيث تدخل الشعيرية في العديد من الأكلات الرمضانية الدنقلاوية.

وكانت صناعة الشعيرية في الماضي عملا جماعيا، ولم يكن باستطاعة المرأة القيام به منفردة، إذ كانت النساء يشكلن فريقا للعمل معا تقوده إحدى العجائز الخبيرات في عمل الشعرية، ويتنقلن من منزل الى منزل يوميا حتى ينجزن عملهن كاملا.

كما كانت بعض الفرق النسائية تؤدي عملها في مكان واحد لعدة أيام، وفي كل يوم يتقاسمن ما أنتجنه، وتشرف السيدة العجوز على تقسيم المنتج.

وقد لا تتوافر معدات الشعيرية في كل المنازل، خاصة إناء الماء واناء العجين أو الكبيه والاشري، كما تسميان في دنقلا، فتستعير ربة المنزل أحدهما أو كلاهما من جاراتها، وكان القمح يزرع ويحصد في حقول دنقلا الخصبة.

الأسواق في دنقلا

لم تكن الأسواق منتشرة في دنقلا قديما بالمعنى المتعارف عليه اليوم، وإنما كانت تنتشر بعض الدكاكين في مركز المدينة، ثم بدأت أهمية الأسواق الكبيرة تبرز في أربعينيات القرن الماضي وما بعدها.

وفي منتصف الخمسينيات أصبح في مركز دنقلا العرضي مجموعة من الأسواق التي تحتوي على كثير من البضائع والسلع المهمة والأساسية، ولعل أهم الأسواق الدنقلاوية في فترة الخمسينيات ثلاثة؛ أولها ما كان يسمى بسوق البقالة، وكان عبارة عن مجموعة من المحال التي تقع في صفين متقابلين وعددها يتجاوز الأربعين محلا، ويفصل الصفين ممر يبدأ واسعا بعض الشيء ثم يضيق في جزئه الأخير، ويصبح مسقوفا بالحصير بطريقة بدائية. ولم تكن الكهرباء قد وصلت إليه في بداية بنائه، وإنما كان أصحاب المحال يضيئون محالهم بالفوانيس الزيتية في رمضان، أما في بقية أيام السنة فكانت المحال تغلق أبوابها عند غروب الشمس.

وقد سمي سوق البقالة لأن معظم السلع كانت بقالة أي الحاجات المنزلة الدائمة غذائية وغير غذائية، وأغلبها من النوع الرديء.

وكان ترتيب البضائع بالمحال سيئا، حيث تتوزع داخل المحل وخارجه، ويجلس صاحب المحل على كرسي خشبي خارج المحل، وكانت بضائع المحال في معظمها من المواد الغذائية ومواد التنظيف وبعض الأواني الخزفية والفخارية، والمواد الأولية للحلويات والسكاكر، وبعض المواد الأخرى المعلبة القادمة من بورسودان وبعض البضائع المصرية والزينة النسائية ومعدات الزراعة.

وثاني الأسواق سوق الخضار، وهو سوق عامر بالبضائع ويأتيه الناس من كل أرجاء دنقلا، وخاصة الأحياء السكنية في المركز، وفي رمضان يزدحم السوق في فترة العصر ومعظم الخضراوات كانت تأتيه من المزارع الدنقلاوية، وخاصة مزارع الجزر، وهي متنوعة وطازجة وأسعارها رخيصة.

ورغم ضيق السوق، فإن انتشار العربات المتنقلة كانت تساهم بتضييق الممرات أكثر، أما ثالث الأسواق فهو سوق الحبوب، وهو من أهم أسواق دنقلا، وتباع به معظم المحاصيل التي تنتجها الجزر والمزارع الشمالية. وتتعدد المحاصيل بين القمح والشعير والذرة البيضاء والصفراء والسمسم وسكر القصب والرز والتمور والعديد من المحاصيل الأخرى.

ويوجد سوق رابع يرتاده الدناقلة كثيرا، لكنه لا يعمل إلا في الفترة الصباحية، حيث يتوقف عن العمل عند صلاة الظهر، وهو سوق السمك وتباع به مختلف أنواع الأسماك النهرية والدواجن الحية وبعض منتجات المواشي كالسمن البلدي والأجبان والزبدة وغيرها.

المائدة الدنقلاوية

ما يميز المائدة الدنقلاوية القديمة خصوصيتها ومحليتها واعتمادها على منتجاتها الزراعية والحيوانية المحلية واكتفائها الذاتي.

ولعل أهم ما يبدأ به الصائم فطوره بعد يوم من الصيام التمر والكبكبي، وهو نوع من الحلو المصنوع من عجينة التمر والسمسم، والقراصة وهي خبز سميك بالنخالة يؤكل غالبا في الماضي مع الويكة، وهي نوع من البطيخ السوداني طويل الموسم الذي ينتج بالجزر الشمالية.

والدمعة وهي طبخة تتكون من خليط من الخضار، ويضاف لها الدجاج البلدي أو اللحم البقري، والكسرة وهي طبق من الذرة البيضاء يضاف لها اللبن أو الزبدة، وملاح الويكة وهي أكلة كانت منتشرة في المنطقة الشمالية وتصنع من الباميا المجففة، كما تتوافر في المائدة الرمضانية بعض السلطات والزبادي وملاح الروب.

ولعل المائدة الدنقلاوية القديمة كانت تتميز بكثرة المشروبات التي تقدم في رمضان بسبب ما كان يعانيه الصائم الدنقلاوي من عناء الصوم في أجواء حارة معظم العام.

وأهم هذه المشروبات الحلو مر، وهو يصنع من خليط من المشتقات المحلية، كذلك تقدم العديد من المشروبات الأخرى كالعرديب والكركديه والقنقليز والآبري.

كما تتوافر بعض الحلويات التي تصنع في المنازل، وهي في الغالب تعتمد على التمر والقمح والسمسم، وأشهرها قديما البسبوسة وعجينة التمر.

ورغم تنوع الأطعمة الدنقلاوية واختلاف اشكالها، فإنها تتشابه كثيرا في مكوناتها.

وتختلف عادات الدناقلة في الجلوس على المائدة، فهم يكثرون من شرب العصائر والسوائل في الفطور بسبب معاناتهم من الحر الشديد الذي يعم أرجاء الشمال السوداني معظم فترات السنة.

ولذلك فإنهم في الماضي لا يكثرون من الأكل في الفطور، ويكتفون بشرب السوائل الباردة والحارة، ثم يؤدون صلاة المغرب ويجلسون لشرب الشاي، وهي عادة كانت متداولة ومهمة لديهم، فلا تجد منزلا دنقلاويا إلا، وكانت فيه زاوية خاصة لاستقبال الضيوف والزوار والجلوس وشرب الشاي.

ومن عادتهم أن يجلسوا رجالا ونساء، بينما يخرج الصغار للعب معا، وبعد صلاة العشاء يجلس الأهل على المائدة ثانية لتناول وجبة العشاء، وهي ما تبقى من أطعمة الفطور.

*كاتب وباحث كويتي

المسحراتي الصغير

تدوم سهرة الكبار الى ما قبل منتصف الليل، ثم يخلدون للنوم وأخذ قسطا من الراحة استعدادا للنهوض وقت السحور، ولتحمّل يوم قادم من العمل، ويبقى الصغار سهارى معا خاصة الأقارب منهم والجيران.

وقد حباهم الله بالقدرة على تحديد الأوقات بشكل جيد، لذا فإنهم بعد ساعات من نوم أهلهم وقبل وقت السحور بقليل يقوموا معا بالضرب على أبواب المنازل والمناداة على أهلها بالنهوض للسحور بأسمائهم، وربما حملوا بأيديهم بعض الصفائح المعدنية التي تستخدمها أمهاتهم لجلب الماء من النهر والضرب عليها جماعيا وترديد بعض الأناشيد التقليدية مثل «يا نايم وحد الدايم»، و"قوم اتسحر يا صايم».

وحين ينتهي الصغار من المهمة ويعودون إلى منازلهم يستقبلهم الآباء والأمهات بابتسامة وتشجيع، كما يبينون لهم بعض الأخطاء التي وقعوا فيها وهم يسحرون أهل القرية، لكي لا يفعلونها في الليلة القادمة، ويعطونهم بعض الملاحظات التي تصحح سلوكهم.

عادات قديمة

كان كبار رجالات القرى يقيمون فطورا في مناظرهم أو أماكن الاستقبال العامة في منازلهم، فلا يتركوا عابر سبيل أو مارا أمامهم إلا وأجبروه على الإفطار في مجالسهم، ولم يكونوا يعذرون أحدا حتى وإن كان متجاوزا لقضاء حاجة من حوائج منزله، وحتى إن كان منزله قريبا من مجلس الكبير. كما أن الفطور في المنازل لم يكن مقتصرا على أهل المنزل، وإنما كان جماعيا، حيث تجتمع الأسرة الكبيرة معا لتناول الفطور، فيفرش البروش، وهو نوع من أفرشة السفرة التي تصنع من السعف بشكل دائري كبير، ويقوم الصغار بمساعدة الأمهات في توزيع الأطعمة على المائدة، في حين يجلس الكبار في انتظار جهوزيتها وحلول وقت الإفطار.

ولم تكن المساجد كثيرة، كما لم تكن بها مكبرات الصوت، ولذلك فقد كان كبير المنزل يقدّر وقت المغرب تقديرا، ويعطي الإذن بالإفطار حين يرى أن المغرب قد حل فيبادر الجميع الى تناول الفطور.

وبعد الانتهاء منه يقوم الكبير بإمامتهم في الصلاة، بينما يقوم الصغار بتجهيز أكواب الشاي، فلا يقوم أحدهم من الصلاة إلا ويبادر الصغار بتقديم صينية الشاي ليأخذ منها كوبا.

وقد يخرج الصغار للعب أمام المنازل، لكن من يبقى منهم جالسا مع الكبار، فإنه يلتزم الصمت ولا يتحدث بحضور الكبار، ولا يحدث جلبة أو حركة ومن يفعل منهم شيئا كهذا ينل توبيخ والده، وربما حرمه من الجلوس معهم مرة أخرى لفترة معينة كنوع من التأديب.

back to top