التصرف التلقائي... عادة مكتسبة!

نشر في 30-09-2015 | 00:01
آخر تحديث 30-09-2015 | 00:01
No Image Caption
الهدف الحقيقي من الوجود عيش الحياة بوعي تام. إنه طريق محفوف بالمخاطر ولكنه مليء بالشغف! نمضي حياتنا كلها ونحن نتقرب من الذات ونحاول التصرف بشكل تلقائي. نحمل في البداية اسماً ونكون محاطين بعائلة ويترسخ في داخلنا اللاوعي ثم نضطر إلى اكتشاف جميع الجوانب الأخرى وتطويرها.
كيف نتصرف على سجيتنا؟ إنه سؤال واسع وشائك وقد يتطلب خوض مغامرة تمتد على الحياة كلها: التعرف على الذات، العيش والتنفس بكل حرية، تحديد الطموحات، تحقيق الرغبات العميقة، التفكير الذاتي... قد تبدو العملية صعبة لكنها ستكون مثيرة للاهتمام حتماً!

لكن قد يكتفي عدد كبير من الناس بالوقوف على هامش حياتهم. في هذه الحالة، يصبح الوجود افتراضياً ويفتقر الفرد إلى حياة داخلية. يعيش الكثيرون حياةً لم يختاروها بكامل وعيهم وسرعان ما يعتادون عليها لأنهم يفتقرون إلى الرؤية الطموحة أو المشاريع الواعدة. لتحديد المسار الذي يجب اتخاذه، يمكن تخصيص بعض الوقت للتفكير بالخيارات المتاحة والعوائق والأفخاخ التي يجب تجاوزها والوجهات الجديدة التي يمكن سلكها.

مرحلة المرآة

يمر تطور الشخصية باكتساب {الأنا}. وفق محللي النفس، {الأنا} الظاهرية تخفي {الأنا} الباطنية. لا بد من العودة إلى الماضي لفهم حقيقة ما يحصل. في المقام الأول، لا يعيش المولود الجديد بمعزل عن أمه، وبالتالي هو لا يدرك طبيعة جسمه الخاص. ثم يبدأ بفهم ذاته بوتيرة تدريجية ويستوعب حدود هذا الجسم الذي يحمله والذي يختلف عن غيره. هكذا يستطيع تمييز الجوانب المرتبطة بالأنا.

وفق مسار التطور النفسي للطفل الصغير، تبدأ مرحلة مهمة بالنسبة إلى نموه في الشهر السابع أو الثامن: إنها {مرحلة المرآة}. تسمح هذه المرحلة للطفل بتحديد معالم جسمه الذي يختلف عن أقرب شخص له، أي والدته. تحمل هذه المرحلة أهمية رمزية كبرى في التطور النفسي للطفل، فهي تجبره على إدراك اختلافه عن الآخرين وترسم له رؤية واضحة عن جسمه {المحدود}. سرعان ما يدرك أنه كيان كامل وفريد من نوعه ويبدأ بالتعرف على أعضاء جسمه التي كان يجهلها. ثم يدرك العلاقة العاطفية التي تربطه بالآخرين والدعم المتبادل بين مختلف الأطراف من حوله. بعد هذه المرحلة، يفهم الطفل أنه يحتاج إلى والدته. إنها فترة بالغة الأهمية للتمييز بين الجوانب الخارجية والداخلية وبين {الأنا} والآخرين. كما أنه يكتشف أن الشخص الذي يشاهده في المرآة يعكس صورة عنه وليس كائناً حقيقياً، لكنه فخ وهو ينقل الطفل من الواقع إلى الخيال.

تكون صورة الذات في {مرحلة المرآة} مجرّد وهم عن التكامل والنضج مقابل الواقع العشوائي وغير الناضج في نظرة الطفل لجسمه. إنها تجربة أولية في الواقع المجزأ. يكون جسم الطفل المجزأ نقيضاً لهذه الصورة العامة التي يجب مواجهتها. إنها بداية النضج النفسي. تحت هذا التأثير، تنشأ {سعادة} معينة بسبب اكتساب هذه الصورة عن الجسم الكامل والمحبوب من الأم. لذا تحمل {مرحلة المرآة} قيمة أساسية.

في المقابل، يركز بعض العلماء على وظيفة العلاقات التي تعكسها صورة المرآة. في هذه الحالة، تصبح المرآة واحدة من الأدوات المستعملة لمنح الجسم طابعاً فردياً وفهم الصورة اللاواعية للجسم ورؤية الوجه وما يعكسه واكتشاف الاختلافات. هكذا يدخل الطفل إلى واقع متماسك ومستمر وينشأ تناقض بين صورتين مختلفتين: الصورة البصرية التي يراها الطفل والصورة اللاواعية التي يحملها عن جسمه. ثم لا تعود {مرحلة المرآة} مجرّد بداية بل إنها ترسخ السلوك النرجسي الفردي. سرعان ما تتحول {السعادة} الأولية إلى محنة مؤلمة لأن الطفل يستنتج وجود فارق كبير بين صورته وشخصه. هو يخسر الصورة التي تعكسها المرآة والتي تجذب والدته: إنها محنة صعبة ويجب أن يتجاوزها.

كيف نتصرف على سجيتنا اليوم؟

لا يمكن تحقيق ذلك عبر التمسك بالفكرة القائلة إننا نحمل هوية مؤلفة من مجموعة معارف مكتسبة عن الذات (الجذور، الجينات، الأرض...)، أي جميع المعايير الموضوعية التي تشكّل هوية الفرد. يجب ألا نعتبر الهوية هبة يمكن اكتشافها، بل إنها تكون قابلة للبناء والتطوير، أي أننا نكوّن فكرة عن نفسنا وتكون هذه العملية جديدة في تاريخنا الشخصي. على كل شخص أن يجد معنى لحياته وأن يقوم بخياراته بنفسه.

يضعنا هذا المسار  أمام صعوبة مزدوجة: تطوير النزعة الفردية من دون الوقوع في فخ الأنانية. تُبنى {الأنا} في التاريخ العائلي وفي حقبة زمنية معينة وتترافق مع تأثير اللاوعي. أول ما يجب فعله هو تملّك الماضي وفهمه وتحليله قبل المرور إلى المرحلة الثانية. تكون القيم التي نتبناها أو نرفضها والخيارات التي نقوم بها أشبه بقطع أحجية من شخصيتنا ومزايانا.

لا نولد بشخصية معينة

لا تُبنى شخصيتنا مسبقاً بل إنها تتطور معنا. يمكن أن نغير حياتنا بالكامل إذا رغبنا في ذلك. لكن لتحقيق هذه الغاية، يجب أن نفهم أولاً ما نريده وأن نقوم لاحقاً بالخيارات التي تضمن احترام الذات والآخرين. إنها عملية طويلة وقد لا تكفي الحياة كلها لإتمامها أحياناً! للتصرف على سجيتنا، يجب أن نمر بخطوات أساسية: التجدد، الحب، الانفصال، النضال، الانفتاح.

يعني التجدد الخروج من الحياة اليومية لتكوين فكرة عامة وحكيمة وأعلى مستوى عن كل ما يحيط بنا. ويعني الحب أن نحب نفسنا أولاً كي نتوصل إلى حب الآخرين كما يجب، ويمر ذلك باكتساب الثقة بالنفس وفهم الذات والتصالح معها. ويعني الانفصال تفريغ كل ما يؤلمنا أو كل ما يفسد وجودنا. ويعني النضال العمل اليومي على تطوير {الأنا} المترسخة في هذا العالم. ويعني الانفتاح التحاور وتعلّم التواصل مع الآخرين، أي كل ما يعاكس الأنانية والغطرسة.

مساعدة الذات عبر العلاج النفسي

يمر العلاج المفيد في المقام الأولى بقول كلام عفوي وصادق. لضمان التصرف بشكل تلقائي، يجب التوقف عن الكذب على الذات، وهو أمر نميل إلى فعله طوال حياتنا. نحن نسعى دوماً إلى التماشي مع الصورة التي نريد إظهارها عن نفسنا بدل تحقيق توقعاتنا الحقيقية. بالتعاون مع المعالج النفسي، يمكن أن نبدأ بالتصرف على سجيتنا وأن نعبّر عن نفسنا من دون السعي إلى صياغة عبارات جميلة أو جذب الآخرين أو تقليدهم. بل يجب التعبير عن الشكوك والمخاوف والندم والجوانب الداخلية المظلمة بكل حرية ومن دون رادع أو خوف من أحكام الآخرين. الآخر هو مرآة لنا وهو يسمح بالتعبير عن {الأنا} العميقة. لضمان نجاح العلاج، يجب تقبّل العملية الانتقالية والاتكالية الناشئة. نحن نحتاج إلى الآخر في لحظة معينة ولا نعود نكتفي بنفسنا. ويجب الابتعاد عن الذات في بعض الأحيان أيضاً. لا يمكن أن يحل العلاج النفسي جميع مشاكلنا والتحولات التي نخوضها بلمسة سحرية! بل إنها مسيرة حياة حيث تكثر التجارب والمعارف والخبرات المكتسبة لمساعدتنا على التحكم بحياتنا وبمستقبلنا. بفضل العلاج، يتخذ كل يوم طابعاً جديداً تمهيداً لاستكشاف الذات. هكذا يمكن قياس العمل الذاتي بدل الخوف منه، وتكون هذه الرحلة كفيلة بتشجيعنا على المضي قدماً.

فلتسقط الأقنعة!

يسمح هذا المسار بفهم ما يجعلنا نكذب على نفسنا ونشيّد الحواجز من حولنا ونتمسك بقناع نضعه على وجهنا يومياً طوال سنوات. يسعى البعض بهذه الطريقة إلى تقليد نموذج آخر، أو تنفيذ مخطط شائع، أو اكتساب امتيازات معينة أو ترقية اجتماعية. الهدف الحقيقي هو اكتساب الحب بشكل عام.

لكن تتعدد الطرق الأخرى التي تسمح بكسب الحب عبر التصرف بطريقة صادقة وعفوية. يمكن أن نقرر البدء بعملية التعلم الطويلة فوراً أو يمكن الامتناع عن خوض هذه المسيرة نهائياً. يجب أن يتخذ كل شخص منا هذا القرار كي نتوقف أخيراً عن عيش حياة ليست لنا.

في داخلنا قدرات هائلة!

تحت تأثير التطور الشخصي، بدأ ينشأ مفهوم جديد عن الانفتاح. تساهم التحولات التي تزداد شيوعاً في نشر روح مشتركة بين الناس، وهي تشمل اتفاقاً شبه كامل حول طريقة التعاطي مع العمل على الذات. تترافق ممارسات التطور الشخصي مع ارتفاع مستوى الثقة بالنفس وهي تعود في الأصل إلى فلسفة إنسانية تفاؤلية تُترجِم مفاهيم {إثبات الذات} و{الموارد الشخصية} و}القدرات الكامنة}. في داخلنا قدرات هائلة ويجب أن يعمل كل شخص على تطويرها وإغنائها. لا تتطلب هذه العملية رفض الذات بل بلوغ مستوى كافٍ من النضج. لا داعي للانقلاب على الوضع القائم بل يجب متابعة التطور حتى بلوغ أعمق جوانبنا الداخلية، ما يسمح لنا في نهاية المطاف بالتعرف على ذاتنا الحقيقية والتصرف على سجيتنا.

استعادة السيطرة على حياتنا! في عالمنا المعاصر الصعب، حان الوقت كي يستعيد كل شخص السيطرة على حياته، لكن من دون البحث عن حلول سحرية بالضرورة. لا علاقة للمرونة وقوة التحمل بهذه المساعي، بل يجب اكتشاف الذات الحقيقية.

تتعدد الشخصيات التي اختارت التحرر من الأفكار والإيديولوجيا الموروثة ونجحت في تغيير العالم. تدعو جميع النزعات اليوم إلى اختيار الطريق الذي يجب اتخاذه وإنجاح الحياة من خلال تجنب الاستسلام واليأس والتمسك بحرية الاختيار والتحرر من العوائق وإغناء الذات. بغض النظر عن هويتك ووضعك وخلفيتك، تصرف وكأنّ شيئاً ليس مستحيلاً. يجب أن تتحلى بالشجاعة اللازمة للتحرك والتحكم بحياتك أخيراً!

back to top